
13-07-2025, 03:53 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ الطلاق
من صــ 141الى صــ150
الحلقة (709)
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} - قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ؛ فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} الآية. هذا حديث حسن صحيح.
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا يبين وجه العداوة ؛ فان العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا ، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن يدخله الجنة" . وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة. والثاني : بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب ؛ قال الله تعالى : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت : 25] . وفي حكمة عيسى عليه السلام : من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس"
وإذا شيك فلا انتقش ". ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم ، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد."
الثالثة- كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله : {من أزواجكم} يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم.
الرابعة- قوله تعالى : {فَاحْذَرُوهُمْ} معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين : إما لضرر في البدن ، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا ، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به.
الخامسة- قوله تعالى : {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قال : كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله : أين تذهب وتدعنا ؟ قال : فإذا أسلم وفقه قال : لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر ، فلأفعلن ولأفعلن ؛ قال : فأنزل الله عز وجل : {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقال مجاهد في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} قال : ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فاعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.
الآية : [15] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث : "يؤتى برجل يوم القيامة"
فيقال أكل عياله حسناته ". وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي :" فِتْنَةٌ "أي إغرام ؛ يقال : فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها. وقيل :" فِتْنَةٌ "محنة. ومنه قول الشاعر :"
لقد فتن الناس في دينهم ... وخلَّى ابن عفان شرا طويلا
وقال ابن مسعود : لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة ؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ؛ ولكن ليقل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} : أدخل "من" للتبعيض ؛ لأن كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر "من" في قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ؛ فجاء الحسن والحسين - عليهما السلام - وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ؛ فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما بين يديه ، ثم قال : "صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" ثم أخذ في خطبته. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يعني الجنة ، فهي الغاية ، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبحاري - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" . ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك :
امتحن الله به خلقه ... فالنار والجنة في قبضته
فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته
الآية : [16] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
الآية : [17] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ}
فيه خمس مسائل :
الأولى : ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري : وحدثني يونس بن عبدالأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال : جاء أمر شديد ، قالوا : ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وقيل : هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس : قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إنها لم تنسخ ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده ، ولا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم.
الثانية- فإن قيل : فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن : {فاتقوا الله ما استطعتم} وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حق تقاته ، والأمر باتقائه ما استطعنا. والأمر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط ، والأمر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له : قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} بمعزل مما دل عليه قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وإنما عنى بقوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم
وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم ، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام ؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم ؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ - إلى قوله فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك ؛ فكذلك معنى قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} عقيب قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .
ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك ؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فيما تطوع به من نافلة أو صدقة ؛ فإنه لما نزل قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الأولى ؛ قاله ابن جبير. قال الماوردي : ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.
الثالثة- قوله تعالى : {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل : اسمعوا "أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله ؛ وهو الأصل في السماع." وأطيعوا "لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة : عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل :" واسمعوا "أي اقبلوا ما تسمعون ؛ وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته."
قلت : وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبدالملك بن مروان فقال : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} هي لعبدالملك بن مروان أمين الله وخليفته ، ليس فيها مثنوية ، والله لو أمرت رجلا أن يخرج ن باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى
الرابعة- قوله تعالى : {وَأَنْفِقُوا} قيل : هو الزكاة ؛ قاله ابن عباس. وقيل : هو النفقة في النفل. وقال الضحاك : هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن : هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي : وإنما أوقع قائل هذا قوله : {لأَنْفُسِكُمْ} وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه ؛ قال الله تعالى : {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فال له رجل : عندي دينار ؟ قال : "أنفقه على نفسك" قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على عيالك" قال : عندي آخر ؟ قال : "أنفقه على ولدك" قال : عندي آخر ؟ قال : "تصدق به" فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع.
الخامسة- قوله تعالى : {خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} "خيرا" نصب بفعل مضمر عند سيبويه ؛ دل عليه "وأنفقوا" كأنه قال : ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم ، أو قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والقراء نعت لمصدر محذوف ؛ أي أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة ؛ أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ "ـَأَنْفِقُوا" .
قوله تعالى : {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تقدم الكلام فيه. وكذا {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} تقدم الكلام فيه.أيضاً في "البقرة" وسورة
"الحديد" {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} تقدم معنى الشكر في "البقرة" . والحليم : الذي لا يعجل.
الآية : [18] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب وحضر. وهو {الْعَزِيزُ} أي الغالب القاهر. فهو من صفات الأفعال ، ومنه قوله عز وجل : {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي من الله القاهر المحكم خالق الأشياء. وقال الخطابي : وقد يكون بمعنى نفاسة القدر ، يقال منه : عز يعز "بكسر العين" فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادل شيء وأنه لا مثل له.والله اعلم. {الْحَكِيمِ} في تدبير خلقه. وقال ابن الأنباري : {الْحَكِيمِ} هو المحكم لخلق الأشياء ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، ومنه قوله عز وجل : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} معناه المحكم ، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم.
سورة الطلاق
مقدمة السورة
مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية ، أو اثنتا عشرة آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا}
فيه أربع عشرة مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وقيل له : راجعها فإنها قوامة صوامة ، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة ، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية. وقال السدي : نزلت في عبدالله بن عمر ، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر ، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل : أن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبدالله بن عمر ، منهم عبدالله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل. والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة ، كما قال : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} تقديره : يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم ، : إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقول : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} . فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } .
قلت : ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل : المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما ، ثم ابتدأ فقال : {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ؛ كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} الآية. فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم ؛ ثم افتتح فقال : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} الآية.
الثانية- روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق" . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش" . وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات" . وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق" . أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. وروى الدارقطني قال : حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استئناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه" . حدثنا محمد بن موسى بن علي قال : حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد : قال لي يزيد بن هارون : وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا ؟ قلت :
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|