عرض مشاركة واحدة
  #711  
قديم 13-07-2025, 04:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ الطلاق
من صــ 161الى صــ170
الحلقة (711)



{مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبدالله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } في أتباع السنة {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصدفي : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن النار إلى الجنة. { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} من حيث لا يرجو. وقال ابن عيينة : هو البركة في الرزق. وقال أبو سعيد الخدري : ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم. وقال أبو ذر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم - ثم تلا - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} " . فما زال يكررها ويعيدها.وقال ابن عباس : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} قال : "مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة" . وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي : إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن ابني أسره العدو وجزعت الأم. وعن جابر بن عبدالله : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم ، فما تأمرني ؟ فقال عليه السلام : "أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" . فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت : نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان ؛ فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه ؛ وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له. في رواية : أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال
الكلبي : أصاب خمسين بعيرا. وفي رواية : فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه. وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني ؟ قال : "نعم" . ونزلت : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} . فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها" . وقال الزجاج : أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله ، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب" .
قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه. وقيل : أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه ، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا ؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} قال مسروق : أي قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ؛ إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة "بالغ" منونا. "أمره" نصبا. وقرأ عاصم "بالغ أمره" بالإضافة وحذف التنوين استخفافا. وقرأ المفضل "بالغا أمره" على أن قوله : "قد جعل الله" خبر "إن" و "بالغا" حال. وقرأ داود بن أبي هند "بالغ أمره" بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء : أي أمره بالغ. وقيل : "أمره" مرتفع "ببالغ" والمفعول محذوف ؛ والتقدير : بالغ أمره ما أراد. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا. وقال السدي : هو قدر الحيض في الأجل والعدة. وقال عبدالله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه ؛ فنزلت : {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }
فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم : إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية : [4] {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}
الآية : [5] {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}
فيه سبع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض ، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء ، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم : لما نزلت عدة النساء في سورة "البقرة" في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب : يا رسول الله ، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء : الصغار وذوات الحمل ، فنزلت : {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} الآية. وقال مقاتل : لما ذكر قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قال خلاد بن النعمان : يا رسول الله ، فما عدة التي لم تحض ، وعدة التي انقطع حيضها ، وعدة
الحبلى ؟ فنزلت : {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} يعني قعدن عن المحيض. وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست ؛ فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة.
الثانية- قوله تعالى : {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي شككتم ، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد ؛ يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى : إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. وقال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري : وفي هذا نظر ؛ لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول ؛ أقصى عادة امرأة في العالم ، وفي قوله : غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد : قوله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} للمخاطبين ؛ يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل : المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض ؛ تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة. وقيل : إنه متصل بأول السورة. والمعنى : لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه.
الثالثة- المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها : إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها ؛ منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا ، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما ، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.فإن كانت المرأة شابة وهي :
المسألة الرابعة- استؤني بها هل هي حامل أم لا ؛ فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك : عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها ، وإن مكثت عشرين سنة ، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي : وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق ؛ لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر ؛ والمرتابة ليست آيسة.
الخامسة- وأما من تأخر حيضها لمرض ؛ فقال مالك وابن القاسم وعبدالله بن أصبغ : تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب : هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع ؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع ، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد ، فقالا : نرى أن ترثه ؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار ؛ فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
السادسة- ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة ؛ على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل ؛ فإن أرتابت بحمل أقامت أربعة أعوام ، أو خمسة ، أو سبعة ؛ على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام ؛ فإن تجاوزتها حلت. وقال أشهب : لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله.
السابعة- وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال : قال ابن المسيب : تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث : عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنه. وهو مشهور قول علمائنا ؛ سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها ،
وميزت ذلك أو لم تميزه ، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة ؛ منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة. وقال الشافعي في أحد أقواله : عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي : وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر : المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر ، وأثبت في القياس والأثر.
قوله تعالى : {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يعني الصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر ؛ فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الأقراء فيها عادة ، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات ؛ فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء أنتقلت إلى الدم لوجود الأصل ، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم ؛ كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع.
قوله تعالى : {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} وضع الحمل ، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام ؛ فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك ؛ لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في "البقرة" القول فيه مستوفى.
الثانية- إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت. وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة "البقرة" وسورة "الرعد" والحمد لله.
قوله تعالى : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} قال الضحاك : أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل : ومن يتق الله في أجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} أي الذي ذكر من الأحكام
أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي يعمل بطاعته. {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة. {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أي في الآخرة.
الآية : [6] {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} قال أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل ؛ لقوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ} . فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع : قال مالك في قول الله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} يعني المطلقات اللائي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا ، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة ، لأنها بائن منه ، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. أما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون ، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ماكن في عدتهن ، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن ، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن ، قال الله تعالى : {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي : وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة ، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة فد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.
قلت : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال ، فمذهب مالك والشافعي : أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه : أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور : أن لا نفقة لها ولا سكنى ، على حديث فاطمة بنت قيس ، قالت : دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت : إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة ؟ قال : "بل لك السكنى ولك النفقة" . قال : إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة" . فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك ، وإن أصحاب عبدالله يقولون : إن لها السكنى والنفقة. خرجه الدارقطني. ولفظ مسلم عنها : أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أنفق عليها نفقة دون ، فلما رأت ذلك قالت : والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان لى نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "لا نفقة لك ولا سكنى" . وذكر الدارقطني عن الأسود قال : قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس : لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال : لقيني الأسود بن يزيد فقال. يا شعبي ، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس ؛ فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت : لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت : ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للرجعية ؛ لقوله تعالى : {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، وقوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ} راجع إلى ما قبله ، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولأن السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها ؛ فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى : {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} وترك النفقة من أكبر الأضرار. وفي إنكار عمر على فاطمة
قولها ما يبين هذا ، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية ، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى : {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل : إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله : {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة ؛ فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.
الثانية- قوله تعالى : {وُجْدِكُمْ} أي من سعتكم ؛ يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد : الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرأ الأعرج والزهري بفتحها ، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها.
الثالثة- قوله تعالى : {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} قال مجاهد : في المسكن. مقاتل : في النفقة ؛ وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى : هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
الرابعة- قوله تعالى : {إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبدالله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في "البقرة" بيانه.
قوله تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} - يعني المطلقات - أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية
ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في "البقرة" و "النساء" مستوفى ولله الحمد.
الثانية- قوله تعالى : {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات ؛ أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع. وقيل : ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار. وقيل : هو الكسوة والدثار. وقيل : معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
الثالثة- قوله تعالى : {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها ؛ وليستأجر مرضعة غير أمه. وقيل : معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها ؛ وهو خبر في معنى الأمر. وقال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال : قال علماؤنا : رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية ؛ إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله. الثاني : قال أبو حنيفة : لا يجب على الأم بحال. الثالث : يجب عليها في كل حال.
الرابعة- فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع. فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعا فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم لتطلب شططا فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]