
13-07-2025, 04:43 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,296
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ التحريم
من صــ 171الى صــ180
الحلقة (712)
الآية : [7] {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}
فيه أربع مسائل :
قوله تعالى : {لِيُنْفِقْ} أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة ؛ فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق ، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق ، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه ، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه : النفقة مقدرة محددة ، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره ، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا : فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان ، وإن كان متوسطا فمد ونصف ، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى : {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها ؛ ولأن الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره ؛ فيؤدي إلى الخصومة ؛ لأن الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها ، وهي تزعم أن الذي تطلب قدر كفايتها ؛ فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والأصل في هذا عندهم قوله تعالى : {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} كما ذكرنا - وقوله : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير ، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه ، وقد قال الله تعالى : {عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما ؛ لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من
المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند : "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" . فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها ، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر ، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف ؛ والآية لا تقتضيه.
الثانية- روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم ، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي : "وأحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس ، وقد روي محمد بن هلال المزني قال : حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله : ما لي لا أرى فلانة ؟ فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين ، ولدت الليلة ؛ فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سبلانية. ثم قال : هذا عطاء ابنك وهذه كسوته ، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة. قال ابن العربي :" هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء ؛ فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية ، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته ؛ وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال : إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره : وقال إنا قد أجرينا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر ، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا ؛ فدعا عليه. قال أبو الدرداء : كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام ؛ وقد درسا بعرف آخر.
فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل ، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل ، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة "."
الثالثة- هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ؛ خلافا لمحمد بن المواز يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث. ابن العربي : ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم "تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق علي واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني" فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة.
الرابعة- قوله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي بعد الضيق غنى ، وبعد الشدة سعة.
الآية : [8] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً}
الآية : [9] {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً}
الآية : [10] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً}
الآية : [11] {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}
قوله تعالى : {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الأمر ، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في "كأين" في "آل عمران" والحمد لله. {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أي عصت ؛ يعني القرية والمراد أهلها. {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} أي جازيناها بالعذاب في الدنيا {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} في الآخرة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب ، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر : المنكر. وقرئ مخففا ومثقلا ؛ وقد مضى في سور "الكهف" . {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي عاقبة كفرها {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا ، والآخرة بجهنم. وجيء بلفظ الماضي كقوله تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} ونحو ذلك ؛ لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة ؛ وما هو كائن فكأن قد. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} أي العقول. {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} بدل من {أُولِي الأَلْبَابِ} أو نعت لهم ؛ أي يا أولي الألباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن ؛ أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم. قوله تعالى : "رَسُولاً" قال الزجاج : إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل ؛ أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا. وقيل : إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا ؛ "فرَسُولاً" نعت للذكر على تقدير حذف المضاف. وقيل : إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر ؛ والتقدير : قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله : "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" ويجوز أن يكون "رسولا" بدل من ذكر ، على أن يكون "رَسُولاً" بمعنى رسالة ، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى ، كأنه قال : قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا ، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو. ويجوز أن ينتصب "رَسُولاً" على الإغراء كأنه قال : اتبعوا رسولا. وقيل : الذكر هنا الشرف ، نحو قوله تعالى :
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} وقوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} ثم بين هذا الشرف ، فقال : {رَسُولاً} . والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي : هو جبريل ، فيكونان جميعا منزلين. {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} نعت لرسول. و "آيَاتِ اللَّهِ" القرآن. {مُبَيِّنَاتٍ} قراءة العامة بفتح الياء ؛ أي بينها الله. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها ، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. والأولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : {قد بينا لكم الآيات} قوله تعالى : {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي من سبق له ذلك في علم الله. {مِنَ الظُّلُمَاتِ} أي من الكفر . {إِلَى النُّورِ} الهدى والإيمان. قال ابن عباس : نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الإخراج إلى الرسول لأن الإيمان يحصل منه بطاعته.
قوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} قرأ نافع وابن عامر بالنون ، والباقون بالياء. {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} أي وسع الله له في الجنات.
الآية : [12] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}
قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض ؛ دل على ذلك حديث الإسراء وغيره. ثم قال : {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يعني سبعا. واختلف فيهن على قولين : أحدهما : وهو قول الجمهور - أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض ،
بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء ، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك : {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي سبعا من الأرضين ، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح ؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في "البقرة" . وقد خرج أبو نعيم قال : حدثنا محمد بن علي بن حبيش قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج ، "ح" وحدثنا أبو محمد بن حبان قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال : حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : "اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها" . قال أبو نعيم : هذا حديث ثابت من حديث موسى بن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره.وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من أخذ شبرا من الأرض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين" ومثله حديث عائشة ، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة" . قال الماوردي : وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا ، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان : أحدهما - أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني : أنهم لا يشاهدون السماء ،
وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الأرض كالكرة. وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ؛ ليس : بعضها فوق بعض ، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم ؛ لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وأردا ، ولكان صلى الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه ، وصواب ما أشتبه على خلقه. ثم قال : {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قال مجاهد : يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع. وقال الحسن : بين كل سماءين أرض وأمر. والأمر هنا الوحي ؛ في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله : { بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي ، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل : الأمر القضاء والقدر. وهو قول الأكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى : {بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل : {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم. وقيل : هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره ؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار ، والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها ؛ فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان : وهذا على مجال اللغة وأتساعها ؛ كما يقال للموت : أمر الله ؛ وللريح والسحاب ونحوها. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر ، ومن العفو والانتقام أمكن ؛ وإن استوى كل ذلك ، في مقدوره ومكنته. {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته. ونصب "عِلْماً" على المصدر المؤكد ؛ لأن "أحاط" بمعنى علم. وقيل : بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما.ختمت السورة بحمد الله وعونه
سورة التحريم مدنية في القول الجمع ' وهي أثنتا عشرة آية وتسمي سورة "النبي"
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة السورة
الآية : [1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
فيه خمس مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير! أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال : "بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له" . فنزل : {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ - إلى قوله - إِنْ تَتُوبَا} لعائشة وحفصة "، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله :" بل شربت عسلا ". وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فأحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة. فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له : ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه"
سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له : جرست نحله العُرْفُط. وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت : تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقى كدت أن أبادئه بالذي قلت لي ، وإنه لعلى الباب ، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : "لا" قالت : فما هذه الريح ؟ قال : "سقتني حفصة شربة عسل" قال : جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت : يا رسول الله ، ألا أسقك منه. قال "لا حاجة لي به" قالت : تقول سودة سبحان الله! والله لقد حرمناه. قالت : قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الأولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل : إنما هي أم سلمة ، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي : وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة. واحدها مغفور ، وجرست : أكلت. والعرفط : نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول.وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه ، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية. قال ابن إسحاق : هي من كورة أنصنا من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له : تدخلها بيتي!
ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها : "لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها" قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تذكريه لأحد" . فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله عز وجل {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية.
الثانية- أصح هذه الأقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي : "أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ، لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال :" أنت علي حرام والله لا آتينك ". فأنزل الله عز وجل في ذلك : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال : راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال : ما كان النساء هكذا! قال : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الآية في الجميع."
الثالثة- قوله تعالى : {لِمَ تُحَرِّمُ} إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل : "هذا علي حرام" شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|