عرض مشاركة واحدة
  #714  
قديم 13-07-2025, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ التحريم
من صــ 191الى صــ200
الحلقة (714)



فقلت لأعلمن ذلك اليوم ، قال فدخلت على عائشة فقلت : يا ابنة أبي بكر ، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت : مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها : يا حفصة ، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء ، فقلت لها : أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب ، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر. فناديت : يا رباح ، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت : يا رباح ، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت : يا رباح ، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها ، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن اِرْقَه ؛ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير ، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره ؛ وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ؛ وإذا أفيق معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال : "ما يبكيك يا ابن الخطاب" ؟ قلت يا نبي الله ، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصفوته ، وهذه خزانتك! فقال : "يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا" قلت : بلى. قال : ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب ، فقلت : يا رسول الله ، ما يشق عليك من شأن النساء ؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} . {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} .
وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت : يا رسول الله ، أطلقتهن ؟ قال : "لا" . قلت : يا رسول الله ، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : "نعم إن شئت" . فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه ، وحتى كشر فضحك ، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت ؛ فنزلت أتشبث بالجذع ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت : يا رسول الله ، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال : "إن الشهر يكون تسعا وعشرين" فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ؛ وأنزل الله آية التخيير.
قوله تعالى : {وَجِبْرِيلَ} فيه لغات تقدمت في سورة "البقرة" . ويجوز أن يكون معطوفا على "مَوْلاهُ" والمعنى : الله وليه وجبريل وليه ؛ فلا يوقف على "مَوْلاهُ" ويوقف على "وَجِبْرِيلَ" ويكون "وصالح المؤمنين" مبتدأ "وَالْمَلائِكَةُ" معطوفا عليه. و "ظَهِيرٌ" خبرا ؛
وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر ؛ قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير : عمر. وقال عكرمة : أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال : إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل : هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} علي بن أبي طالب ". وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون" وَجِبْرِيلُ "مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر" ظَهِيرٌ "وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على" مَوْلاهُ ". ويجوز أن يكون {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} معطوفا على" مَوْلاهُ "فيوقف على" الْمُؤْمِنِينَ "ويكون {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } ابتداء وخبرا. ومعنى" ظَهِيرٌ "أعوان. وهو بمعنى ظهراء ؛ كقوله تعالى : {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقال أبو علي : قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى : {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} وقيل : كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة ، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ". فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ؛ كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ - حتى بلغ - لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} الحديث. وقد ذكراه في سورة" الأحزاب "."
الآية : [5] {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}
قوله تعالى : {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ثم قيل : كل "عسى" في القرآن واجب ؛ إلا هذا. وقيل : هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم ، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ "أن يبدله" بالتشديد والتخفيف. والتبديل والإبدال بمعنى ، كالتنزيل والإنزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته ، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى : {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى : {مُسْلِمَاتٍ} يعني مخلصات ، قاله سعيد بن جبير. وقيل : معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. {مُؤْمِنَاتٍ} مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. {قَانِتَاتٍ} مطيعات. والقنوت : الطاعة. وقد تقدم. {تَائِبَاتٍ} أي من ذنوبهن ؛ قاله السدي. وقيل : راجحات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. {عَابِدَاتٍ} أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. {سَائِحَاتٍ} صائبات ؛ قال ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن ويمان : مهاجرات. قال زيد : وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم
سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما : سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل : ذاهبات في طاعة الله عز وجل ؛ من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة "التوبة" والحمد لله. {يِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل : إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح ؛ لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء ؛ سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي : أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل مريم بنة عمران.
قلت : وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.
الآية : [6] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار. قال الضحاك : معناه قوا أنفسكم ، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي : وهو الصحيح ، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل ؛ كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا
وكقوله :
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم" . وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله : يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال : {قُوا أَنْفُسَكُمْ} دخل فيه الأولاد ؛ لأن الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى : {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام ، إلى غير ذلك من الأحكام. وقال عليه السلام : "حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ" . وقال عليه السلام : "ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن" . وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" . خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فأضربوه عليها" . وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب ؛ مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال.وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول : "قومي فأوتري يا عائشة" . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء" . ومنه قوله صلي الله عليه وسلم : "أيقظوا صواحب الحجر" . ويدخل هذا في عموم قوله تعالى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية : يا رسول
الآية : [7] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا. ونظيره : {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} . وقد تقدم.
الآية : [8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. وقد تقدم بيانها والقول فيها في "النساء" وغيرها. {تَوْبَةً نَصُوحاً} اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا ؛ فقيل : هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع ؛ وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم. ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة : النصوح الصادقة الناصحة. وقيل الخالصة ؛ يقال : نصح أي أخلص له القول. وقال الحسن : النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل : هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. وقيل : هي التي لا يحتاج
معها إلى توبة. وقال الكلبي : التوبة النصوح الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، والاطمئنان على أنه لا يعود. وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة ؛ ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط : خوف ألا تقبل ، ورجاء أن تقبل ، وإدمان الطاعات. وقال سعيد بن المسيب : توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظي : يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، وإقلاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيء الخلان. وقال سفيان الثوري : علامة التوبة النصوح أربعة : القلة والعلة والذلة والغربة. وقال الفضيل بن عياض : هو أن يكون الذنب بين عينيه ، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق : هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ، وتضيق عليك نفسك ؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وقال أبو بكر الواسطي : هي توبة لا لفقد عوض ؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة ؛ فتوبته على حفظ نفسه لا لله. وقال أبو بكر الدقاق المصري : التوبة النصوح هي رد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وإدمان الطاعات. وقال رويم : هو أن تكون لله وجها بلا قفا ، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه. وقال ذو النون : علامة التوبة النصوح ثلاث : قلة الكلام ، وقلة الطعام ، وقلة المنام. وقال شقيق : هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة ، ولا ينفك من الندامة ؛ لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال سري السقطي : لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين ؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد : التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا ؛ لأن من صحت توبته صار محبا لله ، ومن أحب الله نسي ما دون الله. وقال ذو الأذنين : هو أن يكون
لصاحبها دمع مسفوح ، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصلي : علامتها ثلاث : مخالفة الهوى ، وكثرة البكاء ، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبدالله التستري : هي التوبة لأهل السنة والجماعة ؛ لأن المبتدع لا توبة له ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : "حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب" . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه.وأصل التوبة النصوح من الخلوص ؛ يقال : هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل : هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان : أحدهما : لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه. والثاني : لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم ؛ كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. وقراءة العامة "نصوحا" بفتح النون ، على نعت التوبة ، مثل امرأة صبور ، أي توبة بالغة في النصح. وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم ؛ وتأويله على هذه القراءة : توبة نصح لأنفسكم. وقيل : يجوز أن يكون "نصوحا" ، جمع نصح ، وإن يكون مصدرا ، يقال : نصح نصاحة ونصوحا. وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر ، نحو الذهاب والذهوب. وقال المبرد : أراد توبة ذات نصح ، يقال : نصحت نصحا ونصاحة ونصوحا.
الثانية- في الأشياء التي يتاب منها وكيف التوبة منها. قال العلماء : الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو ، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين. فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة. وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به. وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به. فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له ، قال الله تعالى : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه
إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم ؛ حسب ما تقدم بيانه. وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم. وإن رفعوا إليه فقالوا : تبنا ، لم يتركوا ، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا. هذا مذهب الشافعي. فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه ، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له ، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له ، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح. وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق ، أو غمه أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط فآلمه ، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه ، عازما على ألا يعود ، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه ، سقط عنه ذلك الذنب. وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه.
قوله تعالى : {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} "عَسَى" من الله واجبة. وهو معنى قوله عليه السلام : "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" . و "أن" في موضع رفع اسم عسى.
قوله تعالى : { وَيُدْخِلَكُمْ} معطوف على {يكفر} . وقرأ ابن أبي عبلة { وَيُدْخِلَكُمْ} مجزوما عطفا على محل عسى أن يكفر. كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار. {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} العامل في "يَوْمَ" : "يُدْخِلَكُمْ" أو فعل مضمر. ومعنى "يُخْزِي" هنا يعذب ، أي لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا معه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]