عرض مشاركة واحدة
  #715  
قديم 13-07-2025, 04:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,569
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ الملك
من صــ 201الى صــ210
الحلقة (715)



{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} "تقدم في سورة" الحديد ". {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين ؛ حسب ما تقدم بيانه في سورة" الحديد "."
الآية : [9] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}
فيه مسألة واحدة : وهو التشديد في دين الله. فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة ؛ وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة ، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين. وقال الحسن : أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ؛ فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود. وكانت الحدود تقام عليهم. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يرجع إلى الصنفين. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي المرجع.
الآية : [10] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين. وكان اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة ؛ قاله مقاتل. وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها : إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة. {فَخَانَتَاهُمَا} قال عكرمة :
والضحاك : بالكفر. وقال سليمان بن رقية والضحاك : بالكفر. وقال سليمان بن رقية عن ابن عباس : كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وعنه : ما بغت امرأة نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري. إنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل : كانتا منافقتين. وقيل : خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين ؛ قاله الضحاك. وقيل : كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف ؛ لما كانوا عليه من إتيان الرجال. {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما - لما عصتا - شيئا من عذاب الله ؛ تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ويقال : إن كفار مكة استهزؤوا وقالوا : إن محمدا صلي الله عليه وسلم يشفع لنا ؛ فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء ، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته وشفاعة لوط لامرأته ، مع قربهما لهما لكفرهما. وقيل لهما : {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} في الآخرة ؛ كما يقال لكفار مكة وغيرهم. ثم قيل : يجوز أن تكون "امرأة نوح" بدلا من قوله : "مَثَلاً" على تقدير حذف المضاف ؛ أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح. ويجوز أن يكونا مفعولين.
الآية : [11] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} واسمها آسية بنت مزاحم. قال يحيى بن سلام : قوله {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ؛ ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين.
وقيل : هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة ؛ أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون. وكانت آسية آمنت بموسى. وقيل : هي عمة موسى آمنت به. قال أبو العالية : اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم : ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها. فقال لهم : إنها تعبد ربا غيري. فقالوا له : أقتلها. فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها فقالت : {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} ووافق ذلك حضور فرعون ، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة. فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذبها وهي تضحك ؛ فقبض روحها. وقال سلمان الفارسي فيما روى عنه عثمان النهدي : كانت تعذب بالشمس ، فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها. وقيل : سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى ؛ فأطلعها الله. حتى رأت مكانها في الجنة. وقيل : لما قالت : {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل : إنه من درة ؛ عن الحسن. ولما قالت : {وَنَجِّنِي} نجاها الله أكرم نجاة ، فرفعها إلى الجنة ، فهي تأكل وتشرب وتتنعم.ومعنى {مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} تعني بالعمل الكفر. وقيل : من عمله من عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس : الجماع. {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال الكلبي : أهل مصر. مقاتل : القبط. قال الحسن وابن كيسان : نجاها الله أكرم نجاة ، ورفعها إلى الجنة ؛ فهي فيها تأكل وتشرب.
الآية : [12] {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}
قوله تعالى : {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} أي واذكر مريم. وقيل : هو معطوف على امرأة فرعون. والمعنى : وضرب الله مثلا لمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود. {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي عن الفواحش. وقال المفسرون : إنه أراد بالفرج هنا الجيب لأنه قال : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها. وهي
في قراءة أبي "فَنَفَخْنَا فِي جيبها مِنْ رُوحِنَا" . وكل خرق في الثوب يسمى جيبا ؛ ومنه قوله تعالى : {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} . ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. ومعنى {فَنَفَخْنَا} أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها {مِنْ رُوحِنَا} أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى. وقد مضى في آخر سورة "النساء" بيانه مستوفى والحمد لله. {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} قراءة العامة {وَصَدَّقَتْ} بالتشديد. وقرأ حميد والأموي {وَصَدَّقَتْ} بالتخفيف. {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} قول جبريل لها : { إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} الآية. وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله. وقد تقدم. وقرأ الحسن وأبو العالية {بِكَلِمَةِ رَبِّهَا وَكُتَابِهِ} وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم {وَكُتُبِهِ} جمعا. وعن أبي رجاء "وَكُتْبِهِ" مخفف التاء. والباقون "وَكتَابِهِ" على التوحيد. والكتاب يراد به الجنس ؛ فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى. {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي من المطيعين. وقيل : من المصلين بين المغرب والعشاء. وإنما لم يقل من القانتات ؛ لأنه أراد وكانت من القوم القانتين. ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها ؛ فإنهم كانوا مطيعين لله. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : "أتكرهين ما قد نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو قال حكيمة بنت عمران أخت موسى بن عمران" . فقالت : بالرفاء والبنين يا رسول الله. وروى قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم" . وقد مضى في "آل عمران" الكلام في هذا مستوفى والحمد لله.
سورة الملك
مكيةٌ في قول. الجميع وتسمى الواقية والمنجية وهي ثلاثون آية
مقدمة السورة
روى الترمذي عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة "الملك" حتى ختمها ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة "الملك" حتى ختمها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" . قال : حديث حسن غريب. وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وددت أن" تبارك الذي بيده الملك "في قلب كل مؤمن" ذكره الثعلبي. وعن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة" تبارك". خرجه الترمذي بمعناه ، وقال فيه : حديث حسن. وقال ابن مسعود : إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه ، فيقال : ليس لكم عليه سبيل ، فإنه كان يقوم بسوره "الملك" على قدميه. ثم يؤتى من قبل رأسه ، فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل ، إنه كان يقرأ بي سورة "الملك" ثم قال : هي المانعة من عذاب الله ، وهي في التوراة سورة "الملك" من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان."
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى : {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة وقد تقدم. وقال الحسن : تقدس. وقيل دام. فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه. {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي ملك السموات
والأرض في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس : بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع. وقال محمد بن إسحاق : له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من إنعام وانتقام.
الآية : [2] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
فيه مسألتان :
الأولي- قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قيل : المعنى خلقكم للموت والحياة ؛ يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدم الوت على الحياة ؛ لأن الموت إلى القهر أقرب ؛ كما قدم البنات على البنين فقال : {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً} . وقيل : قدمه لأنه أقدم ؛ لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه. وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء" . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب" .
المسألة الثانية- {الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قدم الموت على الحياة ، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه ؛ فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة ببنهما ، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك. وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل : أن الموت والحياة جسمان ، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء - وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها - خطوتها مد البصر ، فوق الحمار ودون البغل ،
لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي ، ولا تطأ على شيء إلا حيي. وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.
قلت : وفي التنزيل {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} ثم {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} ، ثم قال : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} . فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة ، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط ؛ حسب ما ورد به الخبر الصحيح. وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر. والله أعلم. وعن مقاتل أيضا : خلق الموت ؛ يعني النطفة والعلقة والمضغة ، وخلق الحياة ؛ يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا.
قلت : وهذا قول حسن ؛ يدل عليه قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وتقدم الكلام فيه في سورة "الكهف" . وقال السدي في قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا ، ومنه أشد خوفا وحذرا. وقال ابن عمر : تلا النبي صلى الله عليه وسلم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ - حتى بلغ - أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقال : "أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله" . وقيل : معنى { لِيَبْلُوَكُمْ } ليعاملكم معاملة المختبر ؛ أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره. وقيل : خلق الله الموت للبعث والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء. فاللام في "ليبلوكم" تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت ؛ ذكره الزجاج. وقال الفراء والزجاج أيضا : لم تقع البلوى على "أَيِّ" لأن فيما بين البلوى و "أَيِّ" إضمار فعل ؛ كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع. ومثله قوله تعالى : {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سلهم ثم انظر أيهم. فـ "ـأَيُّكُمْ" رفع بالابتداء و "أَحْسَنُ" خبره. والمعنى : ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في أنتقامه ممن عصاه. {الْغَفُورُ} لمن تاب.
الآية : [3] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}
قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} أي بعضها فوق بعض. والملتزق منها أطرافها ؛ كذا روي عن ابن عباس. و {طِبَاقاً } نعت لـ { سَبْعَ} فهو وصف بالمصدر. وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ؛ أي خلق سبع سموات وطبقها تطبيقا أو مطابقة. أو على طوبقت طباقا. وقال سيبويه : نصب { طِبَاقاً} لأنه مفعول ثان.
قلت : فيكون { خَلَقَ } بمعنى جعل وصير. وطباق جمع طبق ؛ مثل جمل وجمال. وقيل : جمع طبقة. وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلا فقال : شره طباق ، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن سبع سموات طباق ؛ بالخفض على النعت لسموات. ونظيره {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ} . {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} قراءة حمزة والكسائي "مِنْ تَفَوُتٍ" بغير ألف مشددة. وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. الباقون "من تفاوت" بألف. وهما لغتان مثل التعاهد والتعهد ، والتحمل والتحامل ، والتظهر والتظاهر ، وتصاغر وتصغر ، وتضاعف وتضعف ، وتباعد وتبعد ؛ كله بمعنى. واختار أبو عبيد "مِنْ تَفَوُتٍ" واحتج بحديث عبدالرحمن بن أبي بكر : "أمثلي يتفوت عليه في بناته" ! النحاس : وهذا أمر مردود على أبي عبيد ، لأن يتفوت يفتات : بهم. "وتفاوت" في الآية أشبه. كما يقال تباين يقال : تفاوت الأمر إذا تباين وتباعد ؛ أي فات بضعها بعضا. ألا ترى أن قبله قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} . والمعنى : ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين - بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها - وإن اختلفت صوره وصفاته. وقيل : المراد بذلك السموات خاصة ؛ أي ما ترى في خلق السموات من عيب. وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئا فيقع الخلل لقلة استوائها ؛
يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنه : من تفرق. وقال أبو عبيدة : يقال : تفوت الشيء أي فات. ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته : فقال : {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي أردد طرفك إلى السماء. ويقال : قلب البصر في السماء. ويقال : اجهد بالنظر إلى السماء. والمعنى متقارب. وإنما قال : {فَارْجِعِ} بالفاء وليس قبله فعل مذكور ؛ لأنه قال : {ما تَرَى} والمعنى أنظر ثم أرجع البصر هل ترى من فطور ؛ قاله قتادة. والفطور : الشقوق ، عن مجاهد والضحاك. وقال قتادة : من خلل. السدي : من خروق. ابن عباس : من وهن. وأصله من التفطر والانفطار وهو الانشقاق. قال الشاعر :
بنى لكم بلا عمد سماء ... وزينها فما فيها فطور
وقال آخر :
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا سكر ولم يبلغ سرور
الآية : [4] {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}
قوله تعالى : {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} "كَرَّتَيْنِ" في موضع المصدر ؛ لأن معناه رجعتين ، أي مرة بعد أخرى. وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها ؛ فذلك قوله تعالى : {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً} أي خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك. يقال : خسأت الكلب أي أبعدته وطردته. وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وخسأ بصره خسأ وخسوءا أي سدر ، ومنه قوله تعالى : {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً} وقال ابن عباس :
الخاسئ الذي لم ير ما يهوى. {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي قد بلغ الغاية في الإعياء. فهو بمعنى فاعل ؛ من الحسور الذي هو الإعياء. ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشيء ، وهو معنى قول ابن عباس. ومنه قول الشاعر :
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ... ارتد خسان منه الطرف قد حسرا
يقال : قد حسر بصره يحسر حسورا ، أي كل وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضا. قال :
نظرت إليها بالمحصب من منى ... فعاد إلي الطرف وهو حسير
وقال آخر يصف ناقة :
فشطرها نظر العينين محسو
نصب "شطرها" على الظرف ، أي نحوها. وقال آخر :
والخيل شعث ما تزال جيادها ... حسرى تغادر بالطريق سخالها
وقيل : إنه النادم. ومنه قول الشاعر :
ما أنا اليوم على شيء ... خلايا بنة القين تولى بحسر
المراد بـ "ـكرتين" ها هنا التكثير. والدليل على ذلك : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} وذلك دليل على كثرة النظر.
الآية : [5] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}
الآية : [6] {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} جمع مصباح وهو السراج. وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها. {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً} أي جعلنا شهبها ؛ فحذف المضاف.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]