
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنسان
من صــ 111 الى صــ120
الحلقة (737)
26-
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} .
27-
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} .
28-
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} .
29-
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} .
30-
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} .
قوله تعالى : {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} {كَلَّا} ردع وزجر ؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ؛ ثم استأنف فقال : {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي بلغت النفس أو الروح التراقي ؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر ، لعلم المخاطب به ؛ كقوله تعالى : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وقوله تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وقد تقدم. وقيل : {كَلَّا} معناه حقا ؛ أي حقا أن المساق إلى الله {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر ، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر ، موضع الحشرجة ؛ قال دريد بن الصمة.
ورب عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي ، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
قوله تعالى : {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} اختلف فيه ؛ فقيل : هو من الرقية ؛ عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال : من راق يرقي : أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس : أي هل من طبيب يشفيه ؛ وقال أبو قلابة وقتادة ؛ وقال الشاعر :
هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من راق
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس ؛ أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى : إذا صعد ، والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل : إن ملك الموت يقول من راق ؟ أي من يرقى بهذه النفس ؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها ، فيقول ملك الموت : يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى : {مَنْ رَاقٍ} واللام في قوله : {بَلْ رَانَ} لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة ، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار ، وكسرة القاف في {مَنْ رَاقٍ} ، وفتحة النون في {بَلْ رَانَ} تكفي في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر : قصد الوقف على "من" و "بل" ، فأظهرهما ؛ قاله القشيري.
قوله تعالى : {وَظَنَّ} أي أيقن الإنسان {أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد ، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر :
فراق ليس يشبهه فراق ... قد انقطع الرجاء عن التلاق
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي فاتصلت الشدة بالشدة ؛ شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره : المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا : ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه ، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس : القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال : آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله ؛ أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع ؛ والدليل على هذا قوله تعالى : {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} وقال مجاهد : بلاء ببلاء. يقول : تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن
والشدائد العظام ؛ ومنه قولهم : قامت الدنيا على ساق ، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر :
وقامت الحرب بنا على ساق
وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة {نْ وَالْقَلَمِ} . وقال قوم : الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه ، فهذه الساق الأولى ، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده : {إِلَى رَبِّكَ} أي إلى خالقك {يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {الْمَسَاقُ} أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال : يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق : المصدر من ساق يسوق ، كالمقال من قال يقول.
31-
{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} .
32-
{وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} .
33-
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} .
34-
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .
35-
{ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .
قوله تعالى : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل : يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة ، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة "ولا صلى" ودعا لربه ، وصلى على رسوله. وقال قتادة : فلا صدق بكتاب الله ، ولا صلى لله. وقيل : ولا صدق بمال له ، ذخرا له عند الله ، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي : "لا" بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره ؛ تقول العرب : لا عبدالله خارج ولا فلان ، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل ، وقوله تعالى : {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ليس من هذا القبيل ؛ لأن معناه أفلا أقتحم ؛ أي فهلا اقتحم ، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش : "فلا صدق" أي لم يصدق ؛ كقوله : {فَلا اقْتَحَمَ} أي لم يقتحم ، ولم يشترط أن يعقبه
بشيء آخر ، والعرب تقول : لا ذهب ، أي لم يذهب ، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل ؛ ومنه قول زهير :
فلا هو أبداها ولم يتقدم
قوله تعالى : {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي يتبختر ، افتخارا بذلك ؛ قال مجاهد وغيره. مجاهد : المراد به أبو جهل. وقيل : "يتمطى" من المطا وهو الظهر ، والمعنى يلوي مطاه. وقيل : أصله يتمطط ، وهو التمدد من التكسل والتثاقل ، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق ؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف ، والتمطي يدل على قلة الاكتراث ، وهو التمدد ، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض ؛ لأنه يتمطى أي يتمدد ؛ وفي الخبر : (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم ". والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي."
قوله تعالى : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة ؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال : "فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى" أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن ، كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال : فإن قوله : {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} خصلة خامسة ؛ فإنا نقول : تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي ، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده ، فهزه أو مرتين ثم قال : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال : ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا ، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه ، وقتله شر قتلة.
وقيل : معناه : الويل لك ؛ ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت ؛ وعلى هذا التأويل قيل : هو من المقلوب ؛ كأنه قيل : أويل ، ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار ؛ وهذا التكرير كما قال :
لك الويلات إنك مرجلي
أي لك الويل ، ثم الويل ، ثم الويل ، وضعف هذا القول. وقيل : معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي "أولى" في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول : قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ؛ وأصله من الولي ، وهو القرب ؛
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} أي يقربون منكم ؛ وأنشد الأصمعي :
وأولى أن يكون له الولاء
أي قارب أن يكون له ؛ وأنشد أيضا :
أولى لمن هاجت له أن يكمدا
أي قد دنا صاحبها [من] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول : ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس : العرب تقول أولى لك : كدت تهلك ثم أفلت ، وكأن تقديره : أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال : ولا تكون أولى (أفعل منك) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال : الوعيد أولى له من غيره ؛ لأن أبا زيد قد حكى : أولاة الآن : إذا أوعدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و "لك" خبر عن "أولى" . ولم ينصرف "أولى" لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل : التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول ، ثم على الثاني ، والثالث ، والرابع ، كما تقدم.
36-
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} .
37-
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} .
38-
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} .
39-
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} .
40-
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ} أي يظن ابن آدم {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي أن يخلى مهملا ، فلا يؤمر ولا ينهى ؛ قال ابن زيد ومجاهد ، ومنه إبل سدى : ترعى بلا راع.
وقيل : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر :
فأقسم بالله جهد اليميـ ... ــن ما ترك الله شيئا سدى
قوله تعالى : {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} أي من قطرة ماء تمنى في الرحم ، أي تراق فيه ؛ ولذلك سميت (مني) لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة : الماء القليل ؛ يقال : نطف الماء : إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة.
وقرأ حفص "من مني يمنى" بالياء ، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو ، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة ، واختاره أبو حاتم. {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أي دما بعد النطفة ، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال : {فَخَلَقَ} أي فقدر {فَسَوَّى} أي فسواه تسوية ، وعدله تعديلا ، بجعل الروح فيه {فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان. وقيل : من المني. {الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة "الشورى" أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة "النساء" أيضا القول فيه ، وذكرنا في آية المواريث حكمه ، فلا معنى لإعادته. {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : "سبحانك اللهم ، بلى" وقال ابن عباس. من قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} إماما كان أوغيره فليقل : "سبحان ربي الأعلى" ومن قرأ {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل : "سبحانك اللهم بلى" ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.
سورة الإنسان
وهي إحدى وثلاثون آية
مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور : مدنية. وقيل : فيها مكي ، من قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} إلى آخر السورة ، وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال : وحدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له عمر بن الخطاب : لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "دعه يا ابن الخطاب" قال : فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده ، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة" وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ ، وسيأتي. وقال القشيري : إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} .
2-
{إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .
3-
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .
قوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} "هل" : بمعنى قد ؛ قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه "هل" بمعنى قد.
قال الفراء : هل تكون جحدا ، وتكون خبرا ، فهذا من الخبر ؛ لأنك تقول : هل أعطيتك ؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ وقيل : هي بمنزلة الاستفهام ، والمعنى : أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام ؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروي عن ابن عباس. {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أربعون سنة مرت به ، قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين ، فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال : أقام وهو من تراب أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ، ثم نفخ فيه الروح. وقيل : الحين المذكور ها هنا : لا يعرف مقداره ؛ عن ابن عباس أيضا ، حكاه الماوردي. {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} قال الضحاك عن ابن عباس : لا في السماء ولا في الأرض. وقيل : أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا ، لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح ، فصار مذكورا ؛ قاله الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.
وقيل : ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار ، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم ، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر ؛ تقول : فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة ، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال ، ظهر فضله على الكل ، فصار مذكورا. قال القشيري : وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق ، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء : "لم يكن شيئا" قال : كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم : النفي يرجع إلى الشيء ؛ أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة ؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة ، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى : قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل : قال قتادة : إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة
كانت بعد الإنسان. وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيوانا.
وقد قيل : "الإنسان" في قوله تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ} عني به الجنس من ذرية آدم ، وأن الحين تسعة أشهر ، مدة حمل الإنسان في بطن أمه {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} : إذ كان علقة ومضغة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية : ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك ، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فقال ليتها تمت.
قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} أي ابن آدم من غير خلاف {مِنْ نُطْفَةٍ} أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه :
مالي أراك تكرهين الجنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه
وجمعها : نطف ونطاف. {أَمْشَاجٍ} أخلاط. واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ؛ قال : رؤبة :
يطرحن كل معجل نشاج ... لم يُكس جلدا في دم أمشاج
ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ؛ يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ؛ قال الشماخ :
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه