
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ البروج
من صــ 281 الى صــ290
الحلقة (754)
لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. ابن العربي : والصحيح أنها منه ، وهي رواية المدنيين عنه ، وقد أعتضد فيها القرآن والسنة. قال ابن العربي : لما أممت بالناس تركت قراءتها ؛ لأني إن سجدت أنكروه ، وإن تركتها كان تقصيرا مني ، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة : "لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت ، ولرددته على قواعد إبراهيم" . ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع ، وعند الرفع منه ، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشيعة ، فحضر عندي يوما في محرس ابن الشواء بالثغر - موضع تدريسي - عند صلاة الظهر ، ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر ، أتنسم الريح من شدة الحر ، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده ، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ، ويتطلع على مراكب تخت الميناء ، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ فقوموا إليه فاقتلوه وأرموا به إلى البحر ، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت : سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي : ولم يرفع يديه ؟ فقلت : كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، وهذا مذهب مالك ، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغير وجهي ، فأنكره ، وسألني فأعلمته ، فضحك وقال : ومن أين لي أن أقتل على سنة ؟ فقلت له : ولا يحل لك هذا ، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال : دع هذا الكلام ، وخذ في غيره.
22-
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ}
23-
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}
24-
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
25-
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
قوله تعالى : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وقال مقاتل : نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة ، فأسلم آثنان منهم. وقيل : هي في جميع الكفار. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد : يكتمون من أفعالهم. ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة ؛ مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه ؛ يقال : أوعيت الزاد والمتاع : إذا جعلته في الوعاء ؛ قال الشاعر :
الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ووعاه أي حفظه ؛ تقول : وعيت الحديث أعيه وعيا ، وأذن واعية. وقد تقدم.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي موجع في جهنم على تكذيبهم. أي أجعل ذلك بمنزلة البشارة. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناء منقطع ، كأنه قال : لكن الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وعملوا الصالحات ، أي أدوا الفرائض المفروضة عليهم {لَهُمْ أَجْرٌ} أي ثواب {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير منقوص ولا مقطوع ؛ يقال : مننت الحبل : إذا قطعته. وقد تقدم. {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله : فقال : غير مقطوع. فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قال : نعم قد عرفه أخو يشكر حيث يقول :
فترى خلفهن من سرعة الرجـ ... ـع مَنِينا كأنه أهباء
قال المبرد : المنين : الغبار ؛ لأنها تقطعه وراءها. وكل ضعيف منين وممنون. وقيل : "غير ممنون" لا يمن عليهم به. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ليس استئناء ، وإنما هو بمعنى الواو ، كأنه قال : والذين آمنوا. وقد مضى في "البقرة" القول فيه والحمد لله.
سورة البروج
مكية باتفاق. وهي ثنتان وعشرون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}
قسم أقسم الله به جل وعز وفي "البروج" أقوال أربعة : أحدها : ذات النجوم ؛ قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني : القصور ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد أيضا. قال عكرمة : هي قصور في السماء. مجاهد : البروج فيها الحرس. الثالث : ذات الخلق الحسن ؛ قال المنهال بن عمرو. الرابع : ذات المنازل ؛ قال أبو عبيدة ويحيى بن سلام. وهي اثنا عشر برجا ، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلت يوم ؛ فذلك ثمانية وعشرون يوما ، ثم يستسر ليلتين ؛ وتسير الشمس في كل برج منها شهرا. وهي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس والجدي ، والدلو ، والحوت. والبروج في كلام العرب : القصور ؛ قال الله تعالى ؛ {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . وقد تقدم.
2-
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}
3-
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
قوله تعالى : {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي الموعود به. وهو قسم آخر ، وهو يوم القيامة ؛ من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس : وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} اختلف فيهما ؛ فقال علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة. وهو قول الحسن.
ورواه أبو هريرة مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة..." خرجه أبو عيسى الترمذي في جامعه ، وقال : هذا حديت [حسن] غريب ، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة ، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عنه. قال القشيري فيوم الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه.
قلت : وكذلك سائر الأيام والليالي ؛ فكل يوم شاهد ، وكذا كل ليلة ؛ ودليله ما رواه أبو نعيم الحافظ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه : يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وأنا فيما تعمل عليك شهيد ، فاعمل في خيرا أشهد لك به غد ، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا ، ويقول الليل مثل ذلك" . حديث غريب من حديث معاوية ، تفرد به عنه زيد العمري ، ولا أعلمه مرفوعا. عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب : الشاهد : التروية ، والمشهود : يوم عرفة. وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه : الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر. وقاله النخعي. وعن علي أيضا : المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين بن علي رضي الله عنهما : المشهود يوم القيامة ؛ لقوله تعالى : {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} .
قلت : وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد ، فقيل : الله تعالى ؛ عن ابن عباس والحسن وسعيد - بن جبير ؛ بيانه : {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم ؛ عن ابن عباس أيضا والحسين ابن علي ؛ وقرأ ابن عباس {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} وقرأ الحسين {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} .
قلت : وأقرأ أنا {ويكون الرسول عليكم شهيدا} .وقيل : الأنبياء يشهدون على أممهم ؛ لقوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} . وقيل : آدم. وقيل : عيسى بن مريم ؛ لقوله : {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} . والمشهود : أمته. وعن ابن عباس أيضا ومحمد بن كعب : الشاهد الإنسان ؛ دليله : {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} . مقاتل : أعضاؤه ؛ بيانه : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة ، والمشهود سائر الأمم ؛ بيانه : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} . وقيل : الشاهد : الحفظة ، والمشهود : بنو آدم. وقيل : الليالي والأيام. وقد بيناه.
قلت : وقد يشهد المال على صاحبه ، والأرض بما عمل عليها ؛ ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن هذا المال خضر حلو ، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة" . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال : "أتدرون ما أخبارها" ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإن أخبارها أن تشهد على"
كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال : فهذه أخبارها ". قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل : الشاهد الخلق ، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل : المشهود يوم الجمعة ؛ كما روى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة... "وذكر الحديث. خرجه ابن ماجه وغيره."
قلت : فعلى هذا يوم عرفة مشهود ، لأن الملائكة تشهده ، وتنزل فيه بالرحمة. وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار : الشاهد الحجر الأسود ؛ يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاج. وقيل : الشاهد الأنبياء ، والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم ؛ بيانه : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} إلى قوله تعالى : {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
4-
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} .
5-
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} .
6-
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} .
7 -
{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} .
قوله تعالى : {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُود} أي لعن. قال ابن عباس : كل شيء في القرآن "قتل" فهو لعن. وهذا جواب القسم في قول الفراء - واللام فيه مضمرة ؛ كقوله : {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ثم قال {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} : أي لقد أفلح. وقيل : فيه تقديم وتأخير ؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج ؛ قاله أبو حاتم السجستاني. ابن الأنباري : وهذا غلط لأنه لا يجوز لقائل أن يقول : والله قام زيد على معنى قام زيد والله. وقال قوم : جواب القسم {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} وهذا قبيح ؛ لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} . وقيل : جواب القسم محذوف ، أي والسماء ذات البروج لتبعثن. وهذا اختيار ابن الأنباري. والأخدود : الشق العظيم
المستطيل في الأرض كالخندق ، وجمعه أخاديد. ومنه الخد لمجاري الدموع ، والمخدة ؛ لأن الخد يوضع عليها. ويقال : تخدد وجه الرجل : إذا صارت فيه أخاديد من جراح. قال طرفة :
ووجه كأن الشمس حلت رداءها
عليه نقي اللون لم يتخدد
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} "النار" بدل من "الأخدود" بدل الاشتمال. و "الوقود" بفتح الواو قراءة العامة وهو الحطب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر ؛ أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل : ذات الوقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العقيلي وأبو السمال العدوي وابن السميقع "النار ذات" بالرفع فيهما ؛ أي أحرقتهم النار ذات الوقود.
قوله تعالى : {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } أي الذين خددوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين ، وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صهيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ؛ فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلى غلاما أعلمه السحر ؛ فبعث إليه غلاما يعلمه ؛ فكان في طريقه إذا سلك ، راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه ، فاعجبه ؛ فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه ؛ فإذا أتى الساحر ضربه ؛ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة ، حتى يمضى الناس ؛ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني ؟ أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلي ؛ فإن أبتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال : إني لا أشفي أحدا ، إنما"
يشفي الله ؛ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك ؟ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ؛ فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال ربي. قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ؛ فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل ؟ ! قال : أنا لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ؛ فجيء بالراهب ، فقيل له : أرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع سقاه. ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ؛ فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل له : أرجع عن دينك ، فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ؛ فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم أكفنيهم بما شئت ؛ فرجف بهم الجبل ، فسقطوا. وجء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ؛ فذهبوا به فقال : اللهم أكفنيهم بما شئت ؛ فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله. فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : باسم الله رب الغلام ؛ ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه ، في موضع السهم ، فمات ؛ فقال الناس : آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب
الغلام فأتى الملك فقيل له : أرأيت ما كنت ، تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ؛ فأمر بالأخدود في أفواه السكك ، فحدث ، وأضرم النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها - أو قيل له أقتحم - ففعلوا ؛ حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال ، لها الغلام : يا أمة اصبري فإنك على الحق ". خرجه الترمذي بمعناه."
وفيه : "وكان على طريق ، الغلام راهب في صومعة" قال معمر : أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه : "أن الدابة التي حبست الناس كانت أسدا ، وأن الغلام دفن - قال - : فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل" . وقال : حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال : كان ملك بنجران ، وفي رعيته رجل له فتى ، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر ، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل ؛ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب ، فدخل في دين الراهب ؛ فأقبل يوما فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم ، فأخذ حجرا فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما ؛ فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك : لا إله إلا إله عبدالله بن ثامر ، وكان اسم الغلام ، فغضب الملك ، وأمر فخدت أخاديد ، وجمع فيها حطب ونار ، وعرض أهل مملكته عليها ، فمن رجع عن التوحيد تركه ، ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجيء بامرأة مرضع فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك - قال - فأشفقت وهمت بالرجوع ، فقال لها الصبي المرضع : يا أمي ، اثبتي على ما أنت عليه ، فإنما هي غميضة ؛ فألقوها وابنها. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم. وقال الضحاك : هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري ، وكانوا نيفا وثمانين رجلا ، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. حكاه الماوردي ، وحكى الثعلبي عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالا
ونساء ، فخدوا لهم الأخاديد ، ثم أوقدوا فيها النار ، ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم : تكفرون أو تقذفون في النار ؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه ؛ وقال عطية العوفي. وروي نحو هذا عن ابن عباس. وقال علي رضي الله عنه : إن ملكا سكر فوقع على أخته ، فأراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته فلم يقبلوا ؛ فأشارت إليه أن يخطب بأن الله - عز وجل - أحل نكاح الأخوات ، فلم يسمع منه. فأشارت إليه أن يخد لهم الأخدود ، ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال : وبقاياهم ينكحون الأخوات وهم المجوس ، وكانوا أهل كتاب.
وروي عن علي أيضا أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبيا بعثه الله تعالى إلى الحبشة ، فاتبعه ناس ، فخد لهم قومهم أخدودا ، فمن اتبع النبي رمي فيها ، فجيء بامرأة لها بني رضيع فجزعت ، فقال لها : يا أماه ، أمضى ولا تجزعي. وقال أيوب عن عكرمة قال : {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} قال : كانوا من قومك من السجستان. وقال الكلبي : هم نصارى نجران ، أخذوا بها قوما مؤمنين ، فخدوا لهم سبعة أخاديد ، طول كل أخدود أربعون ذراعا ، وعرضه أثنا عشر ذراعا. ثم طرح فيه النفط والحطب ، ثم عرضوهم عليها ؛ فمن أبى قذفوه فيها. وقيل : قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين. وقال مقاتل : أصحاب الأخدود ثلاثة ؛ واحد بنجران ، والآخر بالشام ، والآخر بفارس. أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي ، وأما الذي بفارس فبختنصر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآنا ، وأنزل قرآنا في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة ، والآخر بنجران ، أجر أحدهما نفسه ، فجعل يعمل ويقرأ الإنجيل ؛ فرأت ابنة المستأجر النور في قراءة الإنجيل ، فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة ، بعد ما رفع عيسى ، فخد لهم يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري أخدودا ، وأوقد فيه النار ؛ وعرضهم على الكفر ، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ، وقال : من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم ، فرجعت ، فقال لها ابنها : يا أماه ، إني أرى أمامك