
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (20)
سُورَةُ الغاشية
من صــ 21 الى صــ30
الحلقة (758)
أي العظمى ، وهي السفلى من أطباق النار ؛ قاله الفراء. وعن الحسن : الكبرى نار جهنم ، والصغرى نار الدنيا ؛ وقاله يحيى بن سلام. {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} أي لا يموت فيستريح من العذاب ، ولا يحيا حياة تنفعه ؛ كما قال الشاعر :
ألا ما لنفس لا تموت فينقضي ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم
وقد مضى في "النساء" وغيرها حديث أبي سعيد الخدري ، وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم - وهي النار الصغرى على قول الفراء - احترقوا فيها وماتوا ؛ إلى أن يشفع فيهم. خرجه مسلم. وقيل : أهل الشقاء متفاوتون في شقائهم ، هذا الوعيد للأشقى ، وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة.
14-
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}
15-
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ} أي قد صادف البقاء في الجنة ؛ أي من تطهر من الشرك بإيمان ؛ قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال الحسن والربيع : من كان عمله زاكيا ناميا. وقال معمر عن قتادة : {تَزَكَّى} قال بعمل صالح. وعنه وعن عطاء وأبي عالية : نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} . قال : خرج فصلى بعد ما أدى. وقال عكرمة : كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان : قال اللّه تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} . وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر : أن ذلك في صدقة الفطر ، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية ، وقال : إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قال : "أخرج زكاة الفطر" ، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قال : "صلاة العيد" . وقال ابن عباس والضحاك : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} في طريق المصلى {فَصَلَّى} صلاة العيد. وقيل : المراد
بالآية زكاة الأموال كلها ؛ قال أبو الأحوص وعطاء. وروى ابن جريج قال : قلت لعطاء : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} للفطر ؟ قال : هي للصدقات كلها. وقيل : هي زكاة الأعمال ، لا زكاة الأموال ، أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير ؛ لأن الأكثر أن يقال في المال : زكى ، لا تزكى. وروى جابر بن عبدالله قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أي من شهد أن لا إله إلا اللّه ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول اللّه" . وعن ابن عباس {تَزَكَّى} قال : لا إله إلا اللّه. وروى عنه عطاء قال : نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. قال : كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة ، مائلة في دار رجل من الأنصار ، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الأنصاري ، فيأكل هو وعياله ، فخاصمه المنافق ؛ فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه ، فقال : "إن أخاك الأنصاري ذكر أن بسرك ورطبك يقع إلى منزله ، فيأكل هو وعياله ، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها" ؟ فقال : أبيع عاجلا بآجل لا أفعل. فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته ؛ ففيه نزلت "قد أفلح من تزكى" . ونزلت في المنافق "ويتجنبها الأشقى" . وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.
وقد ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة "البقرة" مستوفى. وقد تقدم أن هذه السورة مكية ؛ في قول الجمهور ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. القشيري : ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر وصلاة العيد ، فيما يأمر به في المستقبل.
قوله تعالى : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي ذكر ربه. وروى عطاء عن ابن عباس قال : يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي اللّه جل ثناؤه ، فعبده وصلى له. وقيل : ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة ، لأنها لا تنعقد إلا بذكره ؛ وهو قوله : اللّه أكبر : وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة ؛ لأن الصلاة معطوفة عليها. وفيه حجة لمن قال : إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء اللّه عز وجل. وهذه مسألة خلافية
بين الفقهاء. وقد مضى القول في هذا في أول سورة "البقرة" . وقيل : هي تكبيرات العيد. قال الضحاك : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} في طريق المصلى {فَصَلَّى} ؛ أي صلاة العيد. وقيل : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته ، فيخاف عقابه ، ويرجو ثوابه ؛ ليكون استيفاؤه لها ، وخشوعه فيها ، بحسب خوفه ورجائه. وقيل : هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم اللّه الرحمن الرحيم. "فصلى" أي فصلى وذكر. ولا فرق بين أن تقول : أكرمتني فزرتني ، وبين أن تقول : زرتني فأكرمتني. قال ابن عباس : هذا في الصلاة المفروضة ، وهي الصلوات الخمس. وقيل : الدعاء ؛ أي دعاء اللّه بحوائج الدنيا والآخرة. وقيل : صلاة العيد ؛ قال أبو سعيد الخدري وابن عمر وغيرهما. وقد تقدم. وقيل : هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته ؛ قال أبو الأحوص ، وهو مقتضى قول عطاء. وروي عن عبدالله قال : من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له.
16-
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}
قراءة العامة {بل تؤثرون} بالتاء ؛ تصديقه قراءة أُبيّ {بل أنتم تؤثرون} . وقرأ أبو عمرو ونصر بن عاصم {بل يؤثرون} بالياء على الغيبة ؛ تقديره : بل يؤثرون الأشقون الحياة الدنيا. وعلى الأول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا ، للاستكثار من الثواب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية ، فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها ، ولذاتها وبهجتها ، والآخرة غيبت عنا ، فأخذنا العاجل ، وتركنا الآجل. وروى ثابت عن أنس قال : كنا مع أبي موسى في مسير ، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا. قال أبو موسى : يا أنس ، إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريا ، فتعال فلنذكر ربنا ساعة. ثم قال : يا أنس ، ما ثَبَر الناس ما بطأ بهم ؟ قلت الدنيا والشيطان
والشهوات. قال : لا ، ولكن عجلت الدنيا ، وغيبت الآخرة ، أما واللّه لو عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا.
17-
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
أي والدار الآخرة ؛ أي الجنة. {خَيْرٌ} أي أفضل. {وَأَبْقَى} أي أدوم من الدنيا. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع" صحيح. وقد تقدم. وقال مالك بن دينار : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى ، على ذهب يفنى. قال : فكيف والآخرة من ذهب يبقى ، والدنيا من خزف يفنى.
18-
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى}
19-
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}
قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} قال قتادة وابن زيد : يريد قوله {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . وقالا : تتابعت كتب اللّه جل ثناؤه ـ كما تسمعون ـ أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} قال : كتب اللّه جل ثناؤه كلها. الكلبي : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} من قوله : {قَدْ أَفْلَحَ} إلي آخر السورة ؛ لحديث أبي ذر على ما يأتي. وروى عكرمة عن ابن عباس : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} قال : هذه السورة. وقال الضحاك : إن هذا القرآن لفي الصحف الأولى ؛ أي الكتب الأولى. {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} يعني الكتب المنزلة عليهما. ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف ، وإنما هو على المعنى ؛ أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وروى الآجري من حديث أبي ذر قال : قلت يا رسول اللّه ، فما
كانت صحف إبراهيم ؟ قال : "كانت أمثالا كلها : أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم. فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال : وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، يفكر فيها في صنع اللّه عز وجل إليه ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا في ثلاث : تزود لمعاد ، ومرمة لمعاش ، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه. ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعينه" . قال : قلت يا رسول اللّه ، فما كانت صحف موسى ؟ قال : "كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل" ! قال : قلت يا رسول اللّه ، فهل في أيدينا شيء مما كان في يديه إبراهيم وموسى ، مما أنزل اللّه عليك ؟ قال : "نعم اقرأ يا أبا ذر : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . وذكر الحديث."
سورة الغاشية
وهي مكية في قول الجميع ، وهي ست وعشرون آية.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}
"هل" بمعنى قد ؛ كقوله : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} ؛ قاله قطرب. أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية ؛ أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها ؛ قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب : {الْغَاشِيَةِ} : النار تغشى وجوه الكفار ؛ ورواه أبو صالح
عن ابن عباس ؛ ودليله قوله تعالى : {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} . وقيل : تغشى الخلق. وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث ؛ لأنها تغشى الخلائق. وقيل : {الْغَاشِيَةِ} أهل النار يغشونها ، ويقتحمون فيها. وقيل : معنى "هل أتاك" أي هذا لم يكن من علمك ، ولا من علم قومك. قال ابن عباس : لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا. وقيل : إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله ؛ ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك ؛ وهو معنى قول الكلبي.
2-
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}
3-
{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}
قال ابن عباس : لم يكن أتاه حديثهم ، فأخبره عنهم ، فقال : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة. {خَاشِعَةٌ} قال سفيان : أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع. يقال : خشع في صلاته : إذا تذلل ونكس رأسه. وخشع الصوت : خفي ؛ قال اللّه تعالى : {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه. وقال قتادة وابن زيد : {خَاشِعَةٌ} أي في النار. والمراد وجوه الكفار كلهم ؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل : أراد وجوه اليهود والنصارى ؛ قاله ابن عباس. ثم قال : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} فهذا في الدنيا ؛ لأن الآخرة ليست دار عمل. فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا {خَاشِعَةٌ} في الآخرة. قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملا. ويقال للسحاب إذا دام برقه : قد عمل يعمل عملا. وذا سحاب عمل. قال الهذلي :
حتى شآها كليل موهنا عمل ... باتت طرابا وبات الليل لم ينم
{نَاصِبَةٌ} أي تعبة. يقال : نصب (بالكسر) ينصب نصبا : إذا تعب ، ونصبا أيضا ، وأنصبه غيره. فروى الضحاك عن ابن عباس قال : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية اللّه عز وجل ، وعلى الكفر ؛ مثل عبدة الأوثان ، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم ، لا يقبل اللّه جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له.
وقال سعيد عن قتادة : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة اللّه عز وجل ، فأعملها اللّه وأنصبها في النار ، بجر السلاسل الثقال ، وحمل الأغلال ، والوقوف حفاة عراة في العرصات ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ، ولم تنصب له ، فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال الكلبي : يجرون على وجوههم في النار. وعنه وعن غيره : يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم ، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب ، بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار ؛ كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقائها في صعود من نار ، وهبوطها في حدور منها ؛ إلى غير ذلك من عذابها. وقال ابن عباس. وقرا ابن محيصن وعيسى وحميد ، ورواها عبيد عن شبل. عن ابن كثير {ناصبة} بالنصب على الحال. وقيل : على الذم. الباقون (بالرفع) على الصفة أو على إضمار مبتدأ ، فيوقف على {خاشعة} . ومن جعل المعنى في الآخرة ، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن {وجوه} فلا يوقف على {خاشعة} . وقيل : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة. وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ، ناصبة في الآخرة ، خاشعة. قال عكرمة والسدي : عملت في الدنيا بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم : هم الرهبان أصحاب الصوامع ؛ وقاله ابن عباس. وقد تقدم في رواية الضحاك عنه. وروى عن الحسن قال : لما قدم عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل ، عليه سواد ، فلما رآه عمر بكى. فقال له : يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك ؟ قال : هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه ، ورجا رجاء فأخطأه ، - وقرأ قول اللّه عز وجل - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} . قال الكسائي :
التقهل : رثاثة الهيئة ، ورجل متقهل : يابس الجلد سيء الحال ، مثل المتقحل. وقال أبو عمرو : التقهل : شكوى الحاجة. وأنشد :
لعوا إذا لاقيته تقهلا
والقهل : كفران الإحسان. وقد قهل يقهل قهلا : إذا أثنى ثناء قبيحا. وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه. وانقهل ضعف وسقط ؛ قال الجوهري. وعن علي رضي اللّه عنه أنهم أهل حروراء ؛ يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرميَّة..." الحديث.
4-
{تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}
قوله تعالى : {تَصْلَى} أي يصيبها صلاؤها وحرها. {حَامِيَةً} شديدة الحر ؛ أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة. ومنه حمي النهار (بالكسر) ، وحمي التنور حميا فيهما ؛ أي اشتد حره. وحكى الكسائي : اشتد حمي الشمس وحموها : بمعنى. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب {تُصلى} بضم التاء. الباقون بفتحها. وقرئ {تُصلّى} بالتشديد. وقد تقدم القول فيها في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} . الماوردي : فإن قيل فما معنى وصفها بالحمي ، وهي لا تكون إلا حامية ، وهو أقل أحوالها ، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة ؟ قيل : قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه : أحدها : أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي ، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها. الثاني : أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات ، وانتهاك المحارم ؛ كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إن لكل ملك حمى ، وإن حمى اللّه محارمه. ومن"
"صفحة رقم 29"
يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) الثالث أنها تحمى نفسها عن أن تطاق ملامستها أو ترام مماستها كما يحمي الأسد عرينه ومثله قول النابغة : تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامي الرابع أنها حامية حمى غيظ وغضب مبالغة في شدة الإنتقام ولم يرد حمى جرم وذات كما يقال : قد حمى فلان : إذا أغتاظ وغضب عند إرادة الإنتقام وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال : تكاد تميز من الغيظ
الغاشية : ) 5 ( تسقى من عين . . . . .
)
الغاشيه 5 (
الآني : الذي قد إنتهى حره من الإيناء بمعنى التأخير ومنه ) آنيت وآذيت ) وآناه يؤنيه إيناء أي أحره وحبسه وأبطأه ومنه يطوفون بينها وبين حميم آن وفي التفاسير من عين آنية أي تناهي حرها فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت وقال الحسن : آنية أي حرها أدرك أوقدت عليها جهنم منذ خلقت فدفعوا إليها وردا عطاشا وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : بلغت أناها وحان شربها
الغاشية : ) 6 ( ليس لهم طعام . . . . .
)
الغاشيه 6 (
قوله تعالى : ) ليس لهم ( أي لأهل النار ) طعام إلا من ضريع ( لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم قال عكرمة ومجاهد : الضريع : نبت ذو شوك لاصق بالأرض تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا فإذا يبس فهو الضريع لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه وهو سم قاتل وهو أخبث الطعام وأشنعه على هذا عامة المفسرين إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال : هو شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام
لا الناس ، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع ، وهلكت هزلا. والصحيح ما قاله الجمهور : أنه نبت. قال أبو ذؤيب :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بأن منه النحائص
وقال الهذلي وذكر إبلا وسوء مرعاها :
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود
وقال الخليل : الضريع : نبات أخضر منتن الريح ، يرمي به البحر. وقال الوالبي عن ابن عباس : هو شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها. وقال سعيد بن جبير : هو الحجارة ، وقاله عكرمة. والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : "الضريع : شيء يكون في النار ، يشبه الشوك ، أشد مرارة من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأحر من النار ، سماه اللّه ضريعا" . وقال خالد بن زياد : سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} قال : بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم ، حملها القيح والدم ، أشد مرارة من الصبر ، فذلك طعامهم.
وقال الحسن : هو بعض ما أخفاه اللّه من العذاب. وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ، ويتضرعون منه إلى اللّه تعالى ، طلبا للخلاص منه ؛ فسمي بذلك ، لأن أكله يضرع في أن يعفى منه ، لكراهته وخشونته. قال أبو جعفر النحاس : قد يكون مشتقا من الضارع ، وهو الذليل ؛ أي ذو ضراعة ، أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة. وعن الحسن أيضا : هو الزقوم. وقيل : هو واد في جهنم. فاللّه أعلم. وقد قال اللّه تعالى في موضع