
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (20)
سُورَةُ العلق
من صــ 111 الى صــ120
الحلقة (767)
الأقصى. ابن زيد : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : مسجد بيت المقدس. قتادة : التين : الجبل الذي عليه دمشق : والزيتون : الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيلياء. وقال كعب الأخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد : التين : دمشق ، والزيتون : بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء : سمعت رجلا من أهل الشام يقول : التين : جبال ما بين حلوان إلى همذان ، والزيتون : جبال الشام. وقيل : هما جبلان بالشام ، يقال لهما طور زيتا وطور تينا بالسريانية سميا بذلك لأنهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة ، قال : التين والزيتون : جبلان بالشام. وقال النابغة :
.
..أتين التين عن عرض
وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف ؛ أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوز خلافه ؛ قاله النحاس.
الثانية- وأصح هذه الأقوال الأول ؛ لأنه الحقيقة ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم اللّه بالتين ، لأنه كان ستر آدم في الجنة ؛ لقوله تعالى : {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وكان ورق التين. وقيل : أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه ؛ فإنه جميل المنظر ، طيب المخبر ، نشر الرائحة ، سهل الجني ، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه :
انظر إلى التين في الغصون ضحى ... ممزق الجلد مائل العنق
كأنه رب نعمة سلبت ... فعاد بعد الجديد في الخلق
أصغر ما في النهود أكبره ... لكن ينادى عليه في الطرق
وقال آخر :
التين يعدل عندي كل فاكهة ... إذا انثنى مائلا في غصنه الزاهي
مخمش الوجه قد سالت حلاوته ... كأنه راكع من خشية الله
وأقسم بالزيتون لأنه مثل به إبراهيم في قوله تعالى : {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وهو أكثر أُدَم أهل الشام والمغرب ؛ يصطبغون به ، ويستعملونه في طبيخهم ، ويستصبحون به ، ويداوي به أدواء الجوف والقروح والجراحات ، وفيه منافع كثيرة. وقال عليه السلام : "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" . وقد مضى في سورة "المؤمنون" القول فيه.
الثالثة- قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه ، وتعظيم المنة في التين ، وأنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه ، تقية جور الولاة ؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية ، فيأخذونها مغرما ، حسب ما أنذر به الصادق صلى اللّه عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه ، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه ، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها : لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما.
2-
{وَطُورِ سِينِينَ}
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد "وَطُور" قال : جبل. "سِينِينَ" قال : مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال : {طُور} جبل ، و {سِينِينَ} ، حسن. وقال قتادة : سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال : الجبل الذي نادى اللّه جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي : {سِينِينَ} كل جبل فيه شجر مثمر ، فهو سينين وسيناء ؛ بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال : صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة ، فقرأ والتين والزيتون.
وطور سيناء. وهذا البلد الأمين قال : وهكذا هي في قراءة عبدالله ؛ ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} و {لإيلاف قريش} جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. النحاس : وفي قراءة عبدالله {سناء} (بكسر السين) ، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عمر (بفتح السين) . وقال الأخفش : {طُور} جبل. و {سِينِينَ} شجر واحدته سينينية. وقال أبو علي : {سِينِينَ} فعليل ، فكررت اللام التي هي نون فيه ، كما كررت في زحليل : للمكان الزلق ، وكرديدة : للقطعة من التمر ، وخنذيد : للطويل. ولم ينصرف {سِينِينَ} كما لم ينصرف سيناء ؛ لأنه جعل اسما لبقعة أو أرض ، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف ؛ لأنك سميت مذكرا بمذكر. وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام والأرض المقدسة ، وقد بارك اللّه فيهما ؛ كما قال : {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } .
3-
{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}
يعني مكة. سماه أمينا لأنه آمن ؛ كما قال : {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} فالأمين : بمعنى الآمن ؛ قال الفراء وغيره. قال الشاعر :
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ... حلفت يمينا لا أخون أميني
يعني : آمني. وبهذا احتج من قال : إنه أراد بالتين دمشق ، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم اللّه بجبل دمشق ، لأنه مأوى عيسى عليه السلام ، وبجبل بيت المقدس ، لأنه مقام الأنبياء عليهم السلام ، وبمكة لأنها أثر إبراهيم ودار محمد صلى اللّه عليه وسلم.
4-
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}
5-
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} هذا جواب القسم ، وأراد بالإنسان : الكافر. قيل : هو الوليد بن المغيرة. وقيل : كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري
البعث. وقيل : المراد بالإنسان آدم وذريته. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وهو اعتداله واستواء شبابه ؛ كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون ؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه ، وخلقه هو مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر : مُزيناً بالعقل ، مُؤدياً للأمر ، مَهدياً بالتمييز ، مديد القامة ؛ يتناول مأكوله بيده. ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن اللّه خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : "إن اللّه خلق آدم على صورته" يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية "على صورة الرحمن" ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني. وقد أخبرنا المبارك بن عبدالجبار الأزدي قال : أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر ؛ فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني. وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ؛ فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر : قد طلقت ؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل : بسم اللّه الرحمن الرحيم : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك.
فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه.
قوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في الحال الأول ؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى النار ، يعني الكافر ، وقال أبو العالية. وقيل : لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها ، طغى وعلا ، حتى قال : {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وحين علم اللّه هذا من عبده ، وقضاؤه صادر من عنده ، رده أسفل سافلين ؛ بأن جعله مملوءا قذرا ، مشحونا نجاسة ، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا ، على وجه الاختيار تارة ، وعلى وجه الغلبة أخرى ، حتى ، إذا شاهد ذلك من أمره ، رجع إلى قدره. وقرأ عبدالله {أسفل السافلين} . وقال ؛ {أسفل سافلين} على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى جمع ، ولو قال : أسفل سافل جاز ؛ لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول : هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين ؛ لأنك تضمر لواحد ، فإن كان الواحد غير مضمر له ، رجع اسمه بالتوحيد والجمع ؛ كقوله تعالى : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقوله تعالى : {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} وقد قيل : إن معنى {رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي رددناه إلي الضلال ؛ كما قال تعالى : {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إلا هؤلاء ، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} النار ، متصل. ومن قال : إنه الهرم فهو منقطع.
6-
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
قوله تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه تكتب لهم حسناتهم ، وتمحى عنهم سيئاتهم ؛ قاله ابن عباس. قال : وهم الذين أدركهم الكبر ، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.
وروى الضحاك عنه قال : إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة ، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه ؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا" . وقيل : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنه لا يخرف ولا يهرم ، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال "طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" . وروي : إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة ، ويكتب له ذلك. {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال الضحاك : أجر بغير عمل. وقيل مقطوع.
7-
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}
قيل : الخطاب للكافر ؛ توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن اللّه خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردك إلى أرذل العمر ، وينقلك من حال إلى حال ؛ فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء ، وقد أخبرك محمد صلى اللّه عليه وسلم به ؟ وقيل : الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي استيقن مع ما جاءك من اللّه عز وجل ، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء : المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال : فمن يقدر على ذلك ؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب ، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر :
دنا تميما كما كانت أوائلنا ...
دانت أوائلهم في سالف الزمن
8-
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}
أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل : {بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قضاء بالحق ، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا ، كما قال :
ألستم خير من ركب المطايا
وقيل : {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} : منسوخة بآية السيف. وقيل : هي ثابتة ؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قالا : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ؛ فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال : من قرأ سورة {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فقرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم.
سورة العلق
وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من القرآن ، في قول أبي موسى وعائشة رضي الله عنهما.
وهي تسع عشرة آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
هذه السورة أول ما نزل من القرآن ؛ في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم على حراء ، فعلمه خمس آيات من هذه السورة. وقيل : إن أول ما نزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، قاله جابر بن عبدالله ؛ وقد تقدم. وقيل : فاتحة الكتاب أول ما نزل ؛ قاله أبو ميسرة الهمداني. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : أول ما نزل من القرآن
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} والصحيح الأول. قالت عائشة : أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة ؛ فجاءه الملك فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} خرجه البخاري.
وفي الصحيحين عنها قالت : أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ؛ ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ؛ حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : {اقْرَأْ} فقال : "ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني" فقال : {اقْرَأْ} فقلت : "ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني" ، فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "الحديث بكامله. وقال أبو رجاء العطاردي : وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد : مسجد البصرة ، فيقعدنا حلقا ، فيقرئنا القرآن ؛ فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين ، وعنه أخذت هذه السورة : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكانت أول سورة أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروت عائشة رضي اللّه عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بعدها {نْ وَالْقَلَمِ} ، ثم بعدها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثم بعدها {وَالضُّحَى} ذكره الماوردي. وعن الزهري : أول ما نزل سورة : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ - إلى قوله - مَا لَمْ يَعْلَمْ} فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبريل فقال له : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فرجع إلى خديجة وقال :" دثروني وصبوا عليّ ماء باردا "فنزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ."
ومعنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك ، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال. وقيل : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم ربك. يقال : فعل كذا باسم اللّه ، وعلى اسم اللّه. وعلى هذا فالمقروء محذوف ، أي اقرأ القرآن ، وافتتحه باسم اللّه. وقال قوم : اسم ربك هو القرآن ، فهو يقول : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } أي اسم ربك ، والباء زائدة ؛ كقوله تعالى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، وكما قال :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أراد : لا يقرأن السور. وقيل : معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه.
2-
{خلق الإنسان من علق}
قوله تعالى : "خلق الإنسان" "خلق الإنسان" يعني ابن آدم. "من علق" أي من دم ؛ جمع علقة ، والعلقة الدم الجامد ؛ وإذا جرى فهو المسفوح. وقال : "من علق" فذكره بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع ، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة : قطعة من دم رطب ، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفت لم تكن علقة. قال الشاعر :
تركناه يخر على يديه ... يمج عليهما علق الوتين
وخص الإنسان بالذكر تشريفا له. وقيل : أراد أن يبين قدر نعمته عليه ، بأن خلقه من علقة مهينة ، حتى صار بشرا سويا ، وعاقلا مميزا.
3-
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}
قوله تعالى : {اقْرَأْ} تأكيد ، وتم الكلام ، ثم استأنف فقال : {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الكريم. وقال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العباد ، فلم يعجل بعقوبتهم. والأول أشبه
بالمعنى ، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه ، دل بها على كرمه. وقيل : {اقْرَأْ وَرَبُّكَ} أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك ، وإن كنت غير القارئ. و {الْأَكْرَمُ} بمعنى المتجاوز عن جهل العباد.
4-
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يعني الخط والكتابة ؛ أي علم الإنسان الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال : القلم نعمة من اللّه تعالى عظيمة ، لولا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه ، بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة ، لما فيه من المنافع العظيمة ، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة ؛ ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لأنه يقلم ؛ أي يقطع ، ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم :
فكأنه والحبر يخضب رأسه ... شيخ لوصل خريدة يتصنع
لم لا ألاحظه بعين جلالة ... وبه إلى الله الصحائف ترفع
وعن عبدالله بن عمر قال : يا رسول اللّه ، أأكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : "نعم فاكتب ، فإن اللّه علم بالقلم" . وروى مجاهد عن أبي عمر قال : خلق اللّه عز وجل أربعة أشياء بيده ، ثم قال لسائر الحيوان : كن فكان : القلم ، والعرش ، وجنة عدن ، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه آدم عليه السلام ؛ لأنه أول من كتب ، قاله كعب الأحبار. الثاني : أنه إدريس ، وهو أول من كتب. قال الضحاك. الثالث : أنه أدخل كل من كتب بالقلم ؛ لأنه ما علم إلا بتعليم اللّه سبحانه ، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه ، وبين نعمته عليه في تعليمه ؛ استكمالا للنعمة عليه.