
14-07-2025, 08:07 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (20)
سُورَةُ الزلزلة
من صــ 151 الى صــ160
الحلقة (771)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وقد تقدم الكلام هناك في الذر ، وأنه لا وزن له. وذكر بعض أهل اللغة أن الذر : أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علق بها من التراب فهو الذر ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة. وقال محمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير. ومن يعمل ، مثقال ذرة من شر من مؤمن ، يرى عقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر ؟ قال : "ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر ، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير ، حتى تعطوه يوم القيامة" . قال أبو إدريس : إن مصداقه في كتاب الله : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة. وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر ؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ؛ فإنه يوشك أن يكثر ، ويحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ؛ وقاله سعيد بن جبير. والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء.
الثانية- قراءة العامة {يَرَهْ} بفتح الياء فيهما. وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى بن عمر وأبان عن عاصم : {يره} بضم الياء ؛ أي يريه الله إياه. والأولى الاختيار ؛ لقوله تعالى : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} الآية. وسكن الهاء في قوله {يره}
في الموضعين هشام. وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة. واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة. وأشبع الباقون. وقيل {يَرَهُ} أي يرى جزاءه ؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى. وأنشدوا :
إن من يعتدي ويكسب إثما ... وزن مثقال ذرة سيراه
ويجازى بفعله الشر شرا ... وبفعل الجميل أيضا جزاه
هكذا قوله تبارك ربي ... في إذا زلزلت وجل ثناه
قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن ؛ وصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية ؛ القائلون بالعموم ومن لم يقل به. وروى كعب الأحبار أنه فال : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} قال : في الحال قبل المآل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة ؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما واحد ؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر ؛ فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحمر ، لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم "الدلدل" ، التي أهداها له المقوقس ، فأفتاه في الحمير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة ؛ قاله ابن العربي. وفي الموطأ : أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب ؛ فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها. فجعل ينظر إليها ويعجب ؛ فقال : أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل الذر ، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة. وروى المطلب بن حنطب : أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال : يا رسول الله ، أمثقال ذرة! قال : "نعم" فقال الأعرابي : واسوأتاه! مرارا : ثم قام وهو يقولها ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان" . وقال الحسن : قدم صعصعة عم الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآيات ؛ قال : لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حسبي ، فقد انتهت الموعظة ؛ ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي : وروى أن صعصة ابن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية ؛ فقال صعصعة : حسبي حسبي ؛ إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته. وروى معمر عن زيد بن أسلم : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه ؛ فعلمه {إِذَا زُلْزِلَتِ - حتى إذا بلغ - فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال : حسبي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "دعوه فإنه قد فقه" . ويحكي أن أعرابيا أخّر {خَيْراً يَرَهُ} فقيل : قدمت وأخّرت. فقال :
خذا بطنَ هَرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق
سورة العاديات وهي مكية ؛ في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء. ومدنية
في قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة. وهي إحدى عشرة آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}
2- {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً}
قوله تعالى : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} أي الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة ؛ أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة : تضبح إذا عدت ؛ أي تحمحم. وقال
الفراء : الضبح : صوت أنفاس الخيل إذا عدون. ابن عباس : ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل : كانت تكعم لئلا تصهل ، فيعلم العدو بهم ؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة. قال ابن العربي : أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : {يس.وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ، وأقسم بحياته فقال : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها ، وقدح حوافرها النار من الحجر ، فقال : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ... الآيات الخمس. وقال أهل اللغة :
وطعنة ذات رشاش واهيه ... طعنتها عند صدور العادية
يعني الخيل.
وقال آخر :
والعاديات أسابي الدماء بها ... كأن أعناقها أنصاب ترجيب
يعني الخيل. وقال عنترة :
والخيل تعلم حين تضبح ... في حياض الموت ضبحا
وقال آخر :
لست بالتبع اليماني إن لم ... تضبح في سواد العراق
وقال أهل اللغة : وأصل الضبح والضباح للثعالب ؛ فاستعير للخيل. وهو من قول العرب : ضبحته النار : إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه. وقال الشاعر :
فلما أن تلهوجنا شواء ... به اللهبان مقهورا ضبيحا
وأنضبح لونه : إذا تغير إلى السواد قليلا. وقال :
علقتها قبل انضباح لوني
وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع. ونصب {ضَبْحاً} على المصدر ؛ أي والعاديات تضبح ضبحا. والضبح أيضا الرماد. وقال البصريون : {ضَبْحاً} نصب على الحال. وقيل : مصدر في موضع الحال. قال أبو عبيدة : ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت ؛ وهو السير. وقال أبو عبيدة : الضبح والضبع : بمعنى العدو والسير. وكذا قال المبرد : الضبح مد أضباعها في السير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بين كنانة ، فأبطأ عليه خبرها ، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد النقباء ؛ فقال المنافقون : إنهم قتلوا ؛ فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها ، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم. وممن قال : إن المراد بالعاديات الخيل ، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد. والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون. وفي الخبر : "من لم يعرف حرمة فرس الغازي ، فيه شعبة من النفاق" . وقول ثان : أنها الإبل ؛ قال مسلم : نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة : قال ابن عباس هي الخيل. وقلت : قال علي هي الإبل في الحج ، ومولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبي : تمارى علي وابن عباس في {وَالْعَادِيَاتِ} فقال علي : هي الإبل تعدو في الحج. وقال ابن عباس : هي الخيل ؛ ألا تراه يقول {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} فهل تثير إلا بحوافرها! وهل تضبح الإبل! فقال علي : ليس كما قلت ، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد ؛ ثم قال له علي : أتفتي الناس بما لا تعلم! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان : فرس للمقداد ، وفرس للزبير ؛ فكيف تكون العاديات ضبحا! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى عرفة. قال ابن عباس : فرجعت إلى قول علي ، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي. ومنه قول صفية بنت عبدالمطلب :
فلا والعاديات غداه جمع ... بأيديها إذا سطع الغبار
يعني الإبل. وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو ، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي. وقال آخر :
رأى صاحبي في العاديات نجيبة ... وأمثالها في الواضعات القوامس
ومن قال هي الإبل فقوله {ضَبْحاً} بمعنى ضبعا ؛ فالحاء عنده مبدلة من العين ؛ لأنه يقال : ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير. وقال المبرد : الضبع مد أضباعها في السير. والضبح أكثرها ما يستعمل في الخيل. والضبع في الإبل. وقد تبدل الحاء من العين. أبو صالح : الضبح من الخيل : الحمحمة ، ومن الإبل التنفس. وقال عطاء : ليس شيء من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب ؛ وروي عن ابن عباس. وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول : ضبح الثعلب ؛ وضبح في غير ذلك أيضا. قال توبة :
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر ضابح
زقا الصدى يزقو زقاء : أي صاح. وكل زاق صائح. والزقية : الصيحة.
قوله تعالى : {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قال عكرمة وعطاء والضحاك : هي الخيل حين توري النار بحوافرها ، وهي سنابكها ؛ وروي عن ابن عباس. وعنه أيضا : أورت بحوافرها غبارا. وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدح النار ؛ وإنما هذا في الإبل. وروى ابن نجيح عن مجاهد {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} قال قال ابن عباس : هو في القتال وهو في الحج. ابن مسعود : هي الإبل تطأ الحصى ، فتخرج منها النار. وأصل القدح الاستخراج ؛
ومنه قدحت العين : إذا أخرجت منها الماء الفاسد. واقتدحت بالزند. واقتدحت المرق : غرفته. وركى قدوح : تغترف باليد. والقديح : ما يبقى في أسفل القدر ، فيغرف بجهد. والمقدحة : ما تقدح به النار. والقداحة والقداح : الحجر الذي يوري النار. يقال : ورى الزند (بالفتح) يري وريا : إذا خرجت ناره. وفيه لغة أخرى : وري الزند (بالكسر) يري فيهما. وقد مضى هذا في سورة "الواقعة" . و {قَدْحاً} انتصب بما انتصب به {ضَبْحاً} وقيل : هذه الآيات في الخيل ؛ ولكن إيراءها : أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم. ومنه يقال للحرب إذا ألتحمت : حمي الوطيس. ومنه قوله تعالى : {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} . وروي معناه عن ابن عباس أيضا ، وقال قتادة. وعن ابن عباس أيضا ، وقاله قتادة. وعن ابن عباس أيضا : أن المراد بالموريات قدحا : مكر الرجال في الحرب ؛ وقاله مجاهد وزيد بن أسلم. والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه : والله لأمكرن بك ، ثم لأورين لك. وعن ابن عباس أيضا : هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل ، لحاجتهم وطعامهم. وعنه أيضا : أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهابا. وكل من قرب من العدو يوقد نيرانا كثيرة ليظنهم العدو كثيرا. فهذا إقسام بذلك. قال محمد بن كعب : هي النار تجمع. وقيل هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة. وقال عكرمة : هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ، ويظهر بها ، من إقامة الحجج ، وإقامة الدلائل ، وإيضاح الحق ، وإبطال الباطل. وروى ابن جريح عن بعضهم قال : فالمنجحات أمرا وعملا ، كنجاح الزند إذا أوري.
قلت : هذه الأقوال مجاز ؛ ومنه قولهم : فلان يوري زناد الضلالة. والأول : الحقيقة ، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النار بحوافرها. قال مقاتل : العرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب ، وكان أبو حباحب شيخا من مضر في الجاهلية ، من أبخل الناس ، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام العيون ، فيوقد نويرة تقدم مرة وتخمد أخرى ؛ فإن استيقظ لها أحد
أطفأها ، كراهية أن ينتفع بها أحد. فشبهت العرب هذه النار بناره ؛ لأنه لا ينتقع بها. وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارا ، فكذلك يسمونها. قال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
تَقُدَّ السَّلوقي المضاعفَ نسجُه ... وتوقد بالصُفاح نار الحُباحِب
3- {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً}
الخيل تغير على العدو عند الصبح ؛ عن ابن عباس وأكثر المفسرين. وكانوا إذا أرادوا الغارة سروا ليلا ، ويأتون العدو صبحا ؛ لأن ذلك وقت غفلة الناس. ومنه قوله تعالى : {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} وقيل : لعزهم أغاروا نهارا ، و {صُبْحاً} على هذا ، أي علانية ، تشبيها بظهور الصبح. وقال ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما : هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من منى إلى جمع. والسنة ألا تدفع حتى تصبح ؛ وقاله القرطبي. والإغارة : سرعة السير ؛ ومنه قولهم : أشرق ثبير ، كيما نغير.
4- {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}
أي غبارا ؛ يعني الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به. قال عبدالله بن رواحة :
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
والكناية في "به" ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة. وإذا علم المغني جاز أن يكني عما لم يجر له ذكر بالتصريح ؛ كما قال {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . وقيل : {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} ،
أي بالعدو "نقعا" . وقد تقدم ذكر العدو. وقيل : النقع : ما يبين مزدلفة إلى مني ؛ قاله محمد ابن كعب القرظي. وقيل : إنه طريق الوادي ؛ ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع. وفي الصحاح : النقع : الغبار ، والجمع : نقاع. والنقع : محبس الماء ، وكذلك ما اجتمع في البئر منه. وفي الحديث : أنه نهى أن يمنع نقع البئر. والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء ؛ والجمع : نقاع وأنقع ؛ مثل بحر وبحار وأبحر.
قلت : وقد يكون النقع رفع الصوت ، ومنه حديث عمر حين قيل له : إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد ؛ فقال : وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن وهن جلوس على أبي سليمان ، ما لم يكن نقع ، ولا لقلة. قال أبو عبيد : يعني بالنقع رفع الصوت ؛ على هذا رأيت قول الأكثرين من أهل العلم ؛ ومنه قول لبيد :
فمتى ينقع صراخ صادق ... يحلبوها ذات جرس وزجل
ويروى "يحلبوها" أيضا. يقول : متى سمعوا صراخا أحلبوا الحرب ، أي جمعوا لها. وقوله "ينقع صراخ" : يعني رفع الصوت. وقال الكسائي : قوله "نقع ولا لقلقة" النقع : صنعه الطعام ؛ يعني في المأتم. يقال منه : نقعت أنقع نقعا. قال أبو عبيد : ذهب بالنقع إلى النقيعة ؛ وإنما النقيعة عند غيره من العلماء : صنعة الطعام عند القدوم من سفر ، لا في المأتم. وقال بعضهم : يريد عمر بالنقع : وضع التراب على الرأس ؛ يذهب إلى أن النقع هو الغبار. ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا ، ولا خافه منهن ، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهن القيام. فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس. قال بعضهم : النقع : شق الجيوب ؛ وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه ، وليس النقع عندي في الحديث إلا الصوت الشديد ، وأما اللقطة : فشدة الصوت ، ولم أسمع فيه اختلافا. وقرأ أبو حيوة {فأثرن} بالتشديد ؛ أي أرت آثار ذلك. ومن خفف فهو من أثار : إذا حرك ؛ ومنه {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} .
5- {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}
قوله تعالى : {جَمْعاً} مفعول بـ {وَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} ؛ أي فوسطن بركبانهن العدو ؛ أي الجمع الذي أغاروا عليهم. وقال ابن مسعود : {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} : يعني مزدلفة ؛ وسميت جمعا لاجتماع الناس. ويقال : وسطت القوم أسطهم وسطا ؛ أي صرت وسطهم. وقرأ علي رضي الله عنه {فوسطن} بالتشديد ، وهي قراءة قتادة وابن مسعود وأبي رجاء ؛ لغتان بمعنى ، يقال : جعلها الجمع قسمين. (بالتشديد والتخفيف) وتوسطهم : بمعنى واحد. وقيل : معنى التشديد : جعلها الجمع قسمين. والتخفيف : صرن في وسط الجمع ؛ وهما يرجعان إلى معنى الجمع.
6- {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}
هذا جواب لنعم القسم ؛ أي طبع الإنسان على كفران النعمة. قال ابن عباس : {لَكَنُودٌ} لكفور جحود لنعم الله. وكذلك قال الحسن. وقال : يذكر المصائب وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه :
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى انت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النعم
وروى أبو أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكنود ، هو الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عده" . وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أنبكم بشراركم" ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال : "من نزل وحده ، ومنع رفده ، وجلد عبده" . خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد روي عن عباس أيضا أنه قال : الكنود بلسان كندة وحضر موت : العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر : الكفور. وبلسان كنانة : البخيل السيئ الملكة ؛ وقاله مقاتل : وقال الشاعر :
كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنودا لنعماء الرجال يبعد
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|