
14-07-2025, 08:10 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,491
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (20)
سُورَةُ القارعة
من صــ 161 الى صــ170
الحلقة (772)
أي كفور. ثم قيل : هو الذي يكفر باليسير ، ولا يشكر الكثير. وقيل : الجاحد للحق. وقيل : إنما سميت كندة كندة ، لأنها جحدت أبها. وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر :
دع البخلاء إن شمخوا وصدوا ... وذكرى بخل غانية كنود
وقيل : الكنود : من كند إذا قطع ؛ كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. ويقال : كند الحبل : إذا قطعه. قال الأعشى :
أميطي تميطي بصلب الفؤاد ... وصول حبال وكنادها
فهذا يدل على القطع. ويقال : كند يكند كنودا : أي كفر النعمة وجحدها ، فهو كنود. وامرأة كنود أيضا ، وكند مثله. قال الأعشى :
أحدث لها تحدث لوصلك إنها ... كند لوصل الزائر المعتاد
أي كفور للمواصلة. وقال ابن عباس : الإنسان هنا الكافر ؛ يقول إنه لكفور ؛ ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا. وقال الضحاك : نزلت في الوليد بن المغيرة. قال المبرد : الكنود : المانع لما عليه. وأنشد لكثير :
أحدث لها تحدث لوصلك إنها ... كند لوصل الزائر المعتاد
وقال أبو بكر الواسطي : الكنود : الذي ينفق نعم الله في معاصي الله. وقال أبو بكر الوراق : الكنود : الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. وقال الترمذي : الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقال ذو النون المصري : الهلوع والكنود : هو الذي يرى النعمة ولا يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقيل : هو الحقود الحسود. وقيل : هو الجهول لقدره. وفي الحكمة : من جهل قدرة : هتك ستره.
قلت : هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة ، وأحوال غير محمودة ؛ فإن صح فهو أعلى ما يقال ، ولا يبقى لأحد معه مقال.
7- {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}
أي وإن الله عز وجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد. كذا روى منصور عن مجاهد ؛ وهو قول أكثر المفسرين ، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب : "وإنه" أي وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع ؛ وروي عن مجاهد أيضا.
8- {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}
قوله تعالى : {وَإِنَّهُ} أي الإنسان من غير خلاف. {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي المال ؛ ومنه قوله تعالى : {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وقال عدي :
ماذا ترجي النفوس من طلب الـ ... ــخير وحب الحياة كاربها
{لَشَدِيدٌ} أي لقوي في حبه للمال. وقيل : {لَشَدِيدٌ} لبخيل. ويقال للبخيل : شديد ومتشدد. قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقلية مال الفاحش المتشدد
يقال : اعتامه واعتماه ؛ أي أختاره. والفاحش : البخيل أيضا. ومنه قوله تعالى : {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي البخل. قال ابن زيد : سمى الله المال خيرا ؛ وعسى أن يكون شرا وحراما ؛ ولكن الناس يعدونه خيرا ، فسماه الله خيرا لذلك. وسمى الجهاد سواء ، فقال : {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} على ما يسميه الناس. قال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير ؛ فلما تقدم الحب قال : شديد ، وحذف من آخره
ذكر الحب ؛ لأنه قد جرى ذكره ، ولرؤس الآي ؛ كقوله تعالى : {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} والعصوف : للريح لا الأيام ، فلما جرى ذكر الريح ؛ كأنه قال : في يوم عاصف الريح.
9- {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}
10- {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}
11- {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}
قوله تعالى : {أَفَلا يَعْلَمُ} أي ابن آدم {إِذَا بُعْثِرَ} أي أثير وقلب وبحث ، فأخرج ما فيها. قال أبو عبيدة : بعثرت المتاع : جعلت أسفله أعلاه. وعن محمد بن كعب قال : ذلك حين يبعثون. الفراء : سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ : {بحثر} بالحاء مكان العين ؛ وحكاه الماوردي عن ابن مسعود ، وهما بمعنى. {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي ميز ما فيها من خير وشر ؛ كذا قال المفسرون : وقال ابن عباس : أبرز. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم {وحصل} بفتح الحاء وتخفيف الصاد وفتحها ؛ أي ظهر. {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي عالم لا يخفى عليه منهم خافية. وهو عالم بهم في ذلك اليوم وفي غيره ، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم. وقوله : {إِذَا بُعْثِرَ} العامل في {إِذَا} : {بُعْثِرَ} ، ولا يعمل فيه {يَعْلَمُ} ؛ إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت ، إنما يراد في الدنيا. ولا يعمل فيه {خبير} ؛ لأن ما بعد {إِنَّ} لا يعمل فيما قبلها. والعامل في {يَوْمَئِذٍ} : {خبير} ، وإن فصلت اللام بينهما ؛ لأن موضع اللام الابتداء. وإنما دخلت في الخبر لدخول {إن} على المبتدأ. ويروى أن الحجاج قرأ هذه السورة على المنبر يحضهم على الغزو ، فجرى على لسانه : {أن ربهم} بفتح الألف ، ثم استدركها فقال : {خبير} بغير لام. ولولا اللام لكانت مفتوحة ، لوقوع العلم عليها. وقرأ أبو السمال {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} . والله سبحانه وتعالى أعلم.
سورة القارعة وهي مكبة بإجماع. وهي عشر آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {الْقَارِعَةُ}
2- {مَا الْقَارِعَةُ}
3- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}
قوله تعالى : {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} أي القيامة والساعة ؛ كذا قال عامة المفسرين. وذلك أنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها. وأهل اللغة يقولون : تقول العرب قرعتهم القارعة ، وفقرتهم الفاقرة ؛ إذا وقع بهم أمر فظيع. قال ابن أحمر :
وقارعة من الأيام لولا ... سبيلهم لزاحت عنك حينا
وقال آخر :
متى تقرع بمروتكم نسؤكم ... ولم توقد لنا في القدر نار
وقال تعالى : {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} وهي الشديدة من شدائد الدهر. {مَا الْقَارِعَةُ} استفهام ؛ أي أي شيء هي القارعة ؟ وكذا {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} كلمة استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها ، كما قال : {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ.وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} على ما تقدم.
4- {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}
قوله تعالى : {يَوْمَ} منصوب على الظرف ، تقديره : تكون القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. قال قتادة : الفراش الطير الذي يتساق في النار والسراج. الواحد فراشة ، وقاله أبو عبيدة. وقال الفراء : إنه الهمج الطائر ، من بعوض وغيره ؛ ومنه الجراد. ويقال : هو أطيش من فراشه. وقال :
طويش من نفر أطياش ... أطيش من طائرة الفراش
وقال آخر :
وقد كان أقوام رددت قلوبهم ... إليهم وكانوا كالفراش من الجهل
وفي صحيح مسلم عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثلكم كمثل رجل أو قد نارا ، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها ، وأنا أخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي" . وفي الباب عن أبي هريرة. والمبثوث المتفرق. وقال في موضع آخر : {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} . فأول حالهم كالفراش لا وجه له ، يتحير في كل وجه ، ثم يكونون كالجراد ، لأن لها وجها تقصده. والمبثوث : المتفرق والمنتشر. وإنما ذكر على اللفظ : كقوله تعالى : {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ولو قال المبثوثة [فهو] كقوله تعالى : {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وقال ابن عباس والفراء : {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} كغوغاء الجراد ، يركب بعضها بعضا. كذلك الناس ، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا.
5- {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}
أي الصوف الذي ينفش باليد ، أي تصير هباء وتزول ؛ كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : {هَبَاءً مُنْبَثّاً} وأهل اللغة يقولون : العهن الصوف المصبوغ. وقد مضى في سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} .
6- {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 7- {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}
8- {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 9- {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}
10- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} 11- {نَارٌ حَامِيَةٌ}
قد تقدم القول في الميزان في "الأعراف والكهف والأنبياء" . وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسانات والسيئات. ثم قيل : إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم ، فعبر عنه بلفظ الجوع. وقيل : موازين ، كما قال :
فلكل حادثة لها ميزان
وقد ذكرناه فيما تقدم. وذكرناه أيضا في كتاب "التذكرة" وقيل : إن الموازين الحجج والدلائل ، قاله عبدالعزيز بن يحيى ، واستشهد بقول الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه
{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي عيش مرضي ، يرضاه صاحبه. وقيل : {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي فاعلة للرضا ، وهو اللين والانقياد لأهلها. فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها ، وهو اللين والانقياد. فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة ، فهي فاعلة للرضا ، كالفرش المرفوعة ، وارتفاعها مقدار مائة عام ، فإذا دنا منها ولي الله أتضعت حتى يستوي عليها ، ثم ترتفع كهيئتها ، ومثل الشجرة فرعها ، كذلك أيضا من الارتفاع ، فإذا أشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه ، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما ، وذلك قوله تعالى : {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان ، جرى معه نهر حيث شاء ، علوا وسفلا ، وذلك قوله تعالى : {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} . فيروى في الخبر "إنه يشير بقضيبه فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه" .فهذه الأشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا من نفسها ، فهي
فاعلة للرضا ، وهي أنزلت وانقادت بذلا وسماحة. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} يعني جهنم. وسماها أما ، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه ، قاله ابن زيد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت : فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد وسميت النار هاوية ، لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها. ويروى أن الهاوية اسم الباب الأسفل من النار. وقال قتادة : معنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} فمصيره إلى النار. عكرمة : لأنه يهوي فيها على أم رأسه. الأخفش : {أمه} : مستقره ، والمعنى متقارب. وقال الشاعر :
يا عمرو لو نالتك أرماحنا ... كنت كمن تهوي به الهاوية
والهاوية : المهواة. وتقول : هوت أمه ، فهي هاوية ، أي ثاكلة ، قال كعب بن سعد الغنوي :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب
والمهوي والمهواة : ما بين الجبلين ، ونحو ذلك. وتهاوى القوم في المهواة : إذا سقط بعضهم في إثر بعض. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} الأصل "ما هي" فدخلت الهاء للسكت. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وابن محيصن {ما هي نار} بغير هاء في الوصل ، ووقفوا بها. وقد مضى في سورة الحاقة بيانه. {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي شديدة الحرارة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم" قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ، كلها مثل حرها" . وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه ، لأنه وضع فيه الحق ، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خف ميزان من خف ميزانه ، لأنه وضع فيه الباطل ، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا. وفي الخبر عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله ، فيقول ذلك مات قبلي ، أما بربكم ؟ فيقولون لا والله ، فيقول إنا لله وإنا إليه راجحون! ذهب به إلى أمه الهاوية ، فبئست الأم ، وبئست المربية" . وقد ذكرناه بكماله في كتاب "التذكرة" ، والحمد لله.
سورة التكاثر وهي مكية ، في قول جميع المفسرين. وروى البخاري أنها مدنية. وهي ثماني آيات
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر} ُ
2- {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
فيه خمس مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} {أَلْهَاكُمُ} شغلكم. قال :
فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله ، حتى متم ودفنتم في المقابر. وقيل {أَلْهَاكُمُ} : أنساكم. {التَّكَاثُرُ} أي من الأموال والأولاد ، قال ابن عباس والحسن. وقال قتادة : أي التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك : أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة. يقال : لهيت عن كذا (بالكسر) ألهى لهيا ولهيانا : إذا سلوت عنه ، وتركت ذكره ، وأضربت عنه. وألهاه : أي شغله. ولهاه به تلهية أي علله. والتكاثر : المكاثرة. قال مقاتل وقتادة وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا. وقال ابن زيد : نزلت في فخذ من الأنصار. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف ، وبني : سهم ، تعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر عائذا ، فكثر بنو عبد مناف سهما. ثم تكاثروا بالأموات ، فكثرتهم سهم ، فنزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} بأحيائكم فلم ترضوا
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} مفتخرين بالأموات. وروى سعيد عن قتادة قال : كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعد من بني فلان ؛ وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله مازالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن عمرو بن دينار : حلف أن هذه السورة نزلت في التجار. وعن شيبان عن قتادة قال : نزلت في أهل الكتاب.
قلت : الآية تعم جميع ما ذكر وغيره. وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال : "يقول ابن آدم : مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت [وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس] " . وروى البخاري عن ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن لابن آدم واديا من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب" . قال ثابت عن أنس عن أبي : كنا نرى هذا من القرآن ، حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال ابن العربي : وهذا نص صحيح مليح ، غاب عن أهل التفسير فجهلوا والحمد لله على المعرفة. وقال ابن عباس : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال : "تكاثر الأموال : جمعها من غير حقها ، ومنعها من حقها ، وشدها في الأوعية" .
الثانية- قوله تعالى : {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوار ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات : قد زار قبره. وقيل : أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات ، على ما تقدم. وقيل : هذا وعيد. أي أشغلتم بمفاخرة الدنيا ، حتى تزوروا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل. الثالثة- قوله تعالى : {الْمَقَابِرَ} جمع مقبرة ومقبرة (بفتح الباء وضمها) . والقبور : جمع القبر قال :
أرى أهل القصور إذا أميتوا ... بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا ... على الفقراء حتى في القبور
وقد جاء في الشعر (المقبر) قال :
لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
وهو المقبري والمقبري : لأبي سعيد المقبري ؛ وكان يسكن المقابر. وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا ، أي دفنته. وأقبرته أي أمرت بأن يقبر. وقد مضى في سورة "عبس" القول فيه. والحمد لله.
الرابعة- لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة" رواه ابن مسعود ؛ أخرجه ابن ماجه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : "فإنها تذكر الموت" . وفي الترمذي عن بريدة : "فإنها تذكر الآخرة" . قال : هذا حديث حسن صحيح. وفيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. قال : وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت. قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ؛ فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن.
قلت : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن. ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال ؛ ولا يختلف في هذا إن شاء الله. وعلى هذا المعنى يكون قوله : "زوروا القبور" عاما. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا يحل ولا يجوز.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|