عرض مشاركة واحدة
  #628  
قديم 15-07-2025, 11:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الأنعام
الحلقة (628)
صــ 10 إلى صــ 20




"وخرقوا له بنين وبنات" ، قال: تفسيرها: وكذبوا.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير= "وخرقوا له بنين وبنات" ، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك.
* * *
القول في تأويل قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: تنزه الله، (1) وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه، في ادّعائهم له شركاء من الجن، واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد، والذين تضطرّهم لضعفهم الشهواتُ إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات، وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيء إلى شيء، ولا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة.
* * *
وقوله: "تعالى" ، "تفاعل" من "العلوّ" ، والارتفاع. (2)
* * *
وروي عن قتادة في تأويل قوله: "عما يصفون" ، أنه: يكذبون.
13692- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(1)
انظر تفسير (( سبحان )) فيما سلف 11: 237، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير (( العلو )) فيما سلف 5: 405.

"سبحانه وتعالى عما يصفون" ، عما يكذبون.
* * *
وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك، أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه به، من ادعائهم له بنين وبنات= لا أنه وجه تأويل "الوصف" إلى الكذب.
* * *
القول في تأويل قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنَّ شركاءَ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم= "بديع السماوات والأرض" ، يعني: مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن، (1) كما:-
13693- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: "بديع السماوات والأرض" ، قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله.
* * *
= "أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء. يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه، فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد؟
(1)
انظر تفسير (( بديع )) فيما سلف 2: 540.

القول في تأويل قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شيء، ولا خالق سواه. وكلُّ ما تدَّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه، خلقُه وعبيده، مِلكًا، كان الذي تدعونه ربًّا وتزعمون أنه له ولد، أو جنيًّا أو إنسيًّا= "وهو بكل شيء عليم" ، يقول: والله الذي خلق كل شيء، لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه، ولا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء، عالم بعددكم وأعمالكم، وأعمال من دعوتموه ربًّا أو لله ولدًا، وهو محصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي كلا بعمله. (1)
* * *
(1)
انظر تفسير (( عليم )) فيما سلف من فهارس اللغة (علم)



القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، هو الله ربكم، أيها العادلون بالله الآلهة والأوثان، والجاعلون له الجن شركاء، وآلهتكم التي لا تملك نفعًا ولا ضرًا، ولا تفعل خيرًا ولا شرًا= "لا إله إلا هو" .
وهذا تكذيبٌ من الله جل ثناؤه للذين زعموا أن الجن شركاء الله. يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون، إنه لا شيء له الألوهية والعبادة، إلا الذي خلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم، فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادةُ جميع من في السموات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها، فإنه خالق
كل شيء وبارئه وصانعه، وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة= "فاعبدوه" ، يقول: فذلُّوا له بالطاعة والعبادة والخدمة، واخضعوا له بذلك. (1) =
"وهو على كل شيء وكيل" ، يقول: والله على كل ما خلق من شيء رقيبٌ وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" .
فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها.
* ذكر من قال ذلك:
13694- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" ، يقول: لا يحيط بصر أحدٍ بالملك.
13695- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" ، وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.
13696- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي في قوله:
(1)
انظر تفسير (( العبادة )) فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) .

(2)
انظر تفسير (( وكيل )) فيما سلف 11: 434 تعليق: 1، راجع هناك.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [سورة القيامة: 22-23] ، قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله: "لا تدركه الأبصار" ، الآية. (1)
* * *
قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله قال: "حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت" ، (2) [يونس: 90] قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون، ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه، ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئًا. قالوا: فمعنى قوله: "لا تدركه الأبصار" بمعنى: لا تراه، بعيد. لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم لموسى حين قرُب منهم أصحاب فرعون: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ، [سورة الشعراء: 61] ، لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُدْرَكون، لقوله: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) ، [سورة طه: 77] .
قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه، ويدركه ولا يراه، فكان معلومًا بذلك أن قوله: "لا تدركه الأبصار" ، من معنى: لا تراه الأبصار،
(1)
الأثر: 13696 - (( سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري )) ثقة، روي عنه آنفًا برقم: 436. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا (( يونس بن عبد الله بن الحكم )) ، وهو خطأ، والصواب ما سيأتي في التفسير 29: 120 (بولاق) ، حيث روى هذا الخبر نفسه، بإسناده عن (( سعد بن عبد الله بن عبد الحكم )) .

و (( خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروروذي )) روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأخوه (( سعد )) . قال أبو حاتم: (( شيخ، ليس به بأس )) . مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 /341. وأما (( أبو عرفجة )) ، فلم أعرف من يكون.
و (( عطية العوفي )) ، هو (( عطية بن سعد بن جنادة العوفي )) ، وهو ضعيف، مضى مرارًا، واستوفى أخي السيد أحمد الكلام فيه في رقم: 305. وهذا الخبر سيرويه أبو جعفر مرة أخرى في التفسير 29: 120 (بولاق) .
(2)
في المطبوعة والمخطوطة: (( فلما أدركه الغرق )) ، وهو سهو، فإن نص التلاوة ما أثبت.

بمعزل= وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار، لأن الإحاطة به غير جائزة.
قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم، ولا تدركه أبصارهم، بمعنى: أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئًا يحيط به.
قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يُرَى ولا يُدْرَك، جوازُ وصفه بأنه يعلم ولا يحاط بعلمه، (1) وكما قال جل ثناؤه: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) [سورة البقرة: 255] . قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. قالوا: ومعنى "العلم" في هذا الموضع، المعلوم. قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء، نَفْيٌ عن أن يعلموه. قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علمًا نَفْيٌ للعلم به، كان كذلك، لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر، نفيُ رؤيته له. قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياءَ ولا يحيطون بها علمًا، كذلك جائزٌ أن يروا ربَّهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم، إذ كان معنى "الرؤية" غير معنى "الإدراك" ، ومعنى "الإدراك" غير معنى "الرؤية" ، وأن معنى "الإدراك" ، إنما هو الإحاطة، كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل.
قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: "لا تدركه الأبصار" ، لا تراه الأبصار؟
قلنا له: أنكرنا ذلك، لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهًا في القيامة إليه ناظرة، (2) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة، كما يُرَى القمر ليلة البدر، وكما ترونَ الشمس ليسَ دونها سحاب. (3) قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر، وحققتْ أخبارُ رسول الله صلى الله عليه
(1)
في المطبوعة: (( ولا يحاط به )) ، وصواب السياق ما أثبت.

(2)
يعني آيتي سورة القيامة: 22، 23.

(3)
في المخطوطة، أسقط (( البدر )) ، والصواب إثباتها.

وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم: إن تأويل قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [سورة القيامة: 22-23] ، أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله، (1) وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضًا، وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحدُ هذين الخبرين ناسخًا للآخر، إذ كان غير جائز في الأخبار= لما قد بينا في كتابنا: "كتاب لطيف البيان، عن أصول الأحكام" ، وغيره= (2) علم، أن معنى قوله: "لا تدركه الأبصار" ، غير معنى قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ، فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله، ولا يدركونه بها، تصديقًا لله في كلا الخبرين، وتسليمًا لما جاء به تنزيله على ما جاء به في السورتين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار.
* ذكر من قال ذلك:
13697- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "لا تدركه الأبصار" ، لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق.
13698- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: من حدَّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد كذب! "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" ، (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، [سورة الشورى: 51] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين.
(1)
انظر الأحاديث الصحاح في رؤية ربنا سبحانه يوم القيامة في صحيح البخاري (الفتح 13: 356، وما بعدها) ، وصحيح مسلم 3: 25، وما بعدها. والخبران اللذان ذكرهما أبو جعفر خبران صحيحان.

(2)
قوله: (( علم )) جواب قوله آنفًا: (( فإذ كان الله قد أخبر في كتابه ... ))

13699- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله، لقد قَفَّ شعري مما قلت! ثم قرأت: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير" . (1)
13700- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وابن علية، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة بنحوه. (2)
13701- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن أحدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! قال الله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" .
* * *
فقال قائلو هذه المقالة: معنى "الإدراك" في هذا الموضع، الرؤية= وأنكروا أن يكون الله يُرَى بالأبصار في الدنيا والآخرة= وتأوّلوا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ، بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابَه.
* * *
قال أبو جعفر: وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربَّهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردُّوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضرُوب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات.
(1)
الأثران: 13698، 13699 - حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، رواه مسلم في صحيحه 3: 10، مختصرًا.

(( قف شعري )) : إذا وقف من الفزع.
(2)
الأثر: 13700 - حديث داود، عن الشعبي، رواه مسلم مطولا 3: 8 - 10، وقد مضى جزء من هذا الخبر المطول فيما سلف برقم: 12280 - 12283. فانظر تخريجه هناك.

وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً. قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان.
قالوا: وأخرى، أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف. (1) قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان. (2) قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة: "الإدراك" ، في هذا الموضع، الرؤية.
واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: "الإدراك" ، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم
(1)
في المطبوعة: (( المتنشم )) بالشين، وهو خطأ صرف، والصواب بالسين كما في المخطوطة. يقال (( تنسيم النسيم )) ، إذا تشممه. و (( الأعراف )) جمع (( عرف )) (بفتح فسكون) : الرائحة، طيبة كانت أو خبيثة. يقال: (( ما أطيب عرفها )) ، أي: رائحتها.

(2)
في المخطوطة: (( انقضاء البصر )) ، والصواب ما في المطبوعة.

يره. قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهًا يوم القيامة إليه ناظرة. قالوا، فمحالٌ أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤيةً. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضادٌّ وتعارض، وجب وصحّ أن قوله: "لا تدركه الأبصار" ، على الخصوص لا على العموم، وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) .
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص، إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصارُ الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة، وأما بالرؤية فَبَلَى. (1) قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه في الآخرة= وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصارُ من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصارَ خلقه= فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه، هو الذي أثبته لنفسه، إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قوَّاها جل ثناؤه على النفوذ فيه، وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء. قالوا: ولا شك في خصوص قوله: "لا تدركه الأبصار" ، وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، غير أنا لا ندري أيَّ معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية. واعتلُّوا لتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة، بنحو علل الذين ذكرنا قبل.
* * *
وقال آخرون: الآية على العموم، ولن يدرك الله بصرُ أحد في الدنيا والآخرة; ولكن الله يُحدث لأوليائه يوم القيامة حاسّة سادسة سوى حواسِّهم الخمس، فيرونه بها.
(1)
(( بلى )) استعمالها مع غير الجحد، قد سلف بيانه ودليله 2: 280، 510، ثم 10: 98، تعليق: 4.

واعتلوا لقولهم هذا بأنّ الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه، من غير أن يدلّ فيها أو بآية غيرها على خصوصها. قالوا: وكذلك أخبرَ في آية أخرى أن وجوهًا إليه يوم القيامة ناظرة. قالوا: فأخبار الله لا تتنافى ولا تتعارض، (1) وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنزيل. واعتلُّوا أيضًا من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزًا أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه وإن زيد في قواها، وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت، لأن كل حاسة خلقت لإدراك معنًى من المعاني، فهي وإن ضعفت كل الضعف، فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه، ما لم تُعْدم. قالوا: فلو كان في البصر أن يُدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه، وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها وإن ضعف إدراكه إياه. قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا، كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا في أنها لا تدرك إلا ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا. قالوا: فلما كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أنّ وجوهًا في الآخرة تراه، علم أنها تراه بغير حاسة البصر، إذ كان غير جائز أن يكون خبرُه إلا حقًّا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر" = "وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب" ، (2) فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: (كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [سورة المطففين: 15] .
فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار، لما كانت لا ترى إلا ما باينها، وكان بينها وبينه فضاءٌ وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون
(1)
في المطبوعة: (( لا تتباين )) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب قراءتها.

(2)
انظر ص: 16، تعليق: 1.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 52.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.38 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]