الموضوع: وما ظهر غنى؟
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-07-2025, 09:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,487
الدولة : Egypt
افتراضي وما ظهر غنى؟

وَمَا ظَهْرُ غِنًى؟

السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي نوَّر بجميل هدايته قلوبَ أهل السعادة، وطهَّر بكريم ولايته أفئدة الصادقين، فأسكن فيها وداده، ودعاها إلى ما سبَق لها من عنايته، فأقبلت منقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمَده على ما أَولى من فضل وأفاده، ونشكُره معترفين بأن الشكر منه نعمة مستفادة.

وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أَعُدُّها من أكبر نِعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه.

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، الذي أقام به منابر الإيمان ورفَع عماده، وأزال به سنان البهتان ودفَع عناده.

وعلى آله وأصحابه، ومَن سار على نهجه وتمسَّك بسنته، واقتدى بهدْيه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

إخوة الإسلام، إن من المظاهر المنتشرة في تلك الأيام ظاهرة التسول وسؤال الناس من أناس ليسوا بفقراء ولا مساكين، وإنما هو التسول الذي أصبح مشروعًا مربحًا، وأضاعوا بذلك فقراءَ محتاجين لا يسألون الناس إلحافًا، وفي هذا اللقاء نتكلم عن العقوبة التي ينتظرها هؤلاء يوم لا ينفع مال ولا بنون.

عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً عَنْ ظَهْرِ غِنًى اسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضْفِ جَهَنَّمَ»، ‌قَالُوا: ‌وَمَا ظَهْرُ غِنًى؟ قَالَ: «عِشَاءُ لَيْلَةٍ» [1].

أخي القارئ، أختي القارئة، اعلمُوا أن المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة؛ لأنها ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل.

أما الأول، فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلَم توحيده وإخلاصه، وفقره إلى الله، وتوكُّله عليه ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة ربِّ الناس، وذلك كله يهضم حقَّ التوحيد، ويُطفئ نوره ويُضعف قوته.

وأما ظلمه للمسؤول، فلأنه سأله ما ليس عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرَّضه لمشقة البذل، أو لوم المنع، فإن أعطاه، أعطاه على كراهة، وإن منعه، منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما إذا سأله حقًّا هو له عنده، فلم يدخل في ذلك، ولم يظلمه بسؤاله.

وأما ظلمه لنفسه، فإنه أراق ماء وجهه، وذلَّ لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه، وعزة تعفُّفه، وراحة قناعته، وباع صبره ورضاه وتوكُّله، وقناعته بما قسم له، واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عينُ ظلمه لنفسه؛ إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرَها، وأذهَب عزَّها، وصغَّرها وحقَّرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسؤول، ويده تحت يده، ولولا الضرورة لم يُبح ذلك في الشرع.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزعة لحمٍ"[2].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليَستكثر"[3].

وَعَن سهل ابْن الحنظلية رضي الله عنه قَالَ: قدِم عُيَيْنَة بن حصن والأقرع بن حَابِس رضي الله عنهما على رَسُول - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَاهُ فَأمر مُعَاوِيَة فَكتب لَهما مَا سَأَلَا، فَأَما الْأَقْرَع فَأخذ كِتَابه فلفَّه فِي عمَامَته وَانْطَلق، وَأما عُيَيْنَة فَأخذ كِتَابه وأتى بِهِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَترَانِي حَامِلًا إِلَى قومِي كتابًا لَا أَدْرِي مَا فِيهِ كصحيفة المتلمس، فَأخْبر مُعَاوِيَة بقوله رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سَأَلَ وَعِنْده مَا يُغْنِيه، فَإِنَّمَا يستكثر من النَّار.

قَالَ النُّفَيْلِي: قَالُوا: وَمَا الْغنى الَّذِي لَا تنبغي مَعَه الْمَسْأَلَة؟ قَالَ: قدر مَا يُغديه ويُعشيه[4].

وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن العمل وإن كان شاقًّا، والمال الذي يأتي منه قليلٌ – فهو خيرٌ للمرء من السُّؤال، فعن الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لأَنْ يأخُذَ أحدُكم حَبْلَهُ، فيأتي بحزْمَةِ الحَطَب على ظهره، فيبيعها، فيَكْف الله بها وجهَه - خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطَوْهُ أومنعوه)) [5].

وبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ السَّائل من غير ضرورةٍ ولا حاجةٍ مُلِحَّةٍ، إنما يفتح على نفسه باب الفقر، فعن أبي كَبْشَةَ الأَنْماري - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثةٌ أُقْسِمُ عليهنَّ... ))، وذكر منها: ((ولا فتح عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتح الله عليه بابَ فقرٍ)) [6].

بل إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ البَيْعَةَ من بعض أصحابه ألاَّ يسألوا الناس شيئًا؛ فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعةً أو ثمانيةً أوسبعةً، فقال: ((ألا تُبايعونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟))، وكنَّا حديثي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فقلنا: قد بايعناكَ يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تُبايعونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟))، فقلنا: قد بايعناكَ يا رسولَ الله، ثم قال: ((ألا تبايعونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟))، قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناكَ يا رسول الله، فعلامَ نُبايِعُكَ؟ قال: ((على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا - وأَسَرَّ كلمةً خفيَّةً - ولا تسألوا الناس شيئًا)). فلقد رأيتُ بعض أولئك النَّفَر يَسْقُطُ سوطُ أحدهم، فما يسألُ أحدًا يناوله إيَّاه"[7].

وعن ثَوْبان - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ يَتَقَبَّل لي بواحدةً، أَتَقَبَّل له بالجنة))، قال: قلتُ: أنا يا رسول الله، قال: ((لا تسأل الناس شيئًا))، قال: فربما سقط سوطُ ثَوْبان وهو على بعيره، فما يسأل أحدًا أن يناوله، حتى ينزل إليه فيأخذه[8].

وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يأخُذون بهذا التوجيه النبوي الكريم، فلا يسألون الناس شيئًا من متاع الدنيا، فعن حَكيم بن حِزَام - رضي الله عنه - قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَنْ أَخَذَهُ بسَخاوَة نَفْسٍ، بُورِكَ له فيه، ومَنْ أَخَذَهُ بإشراف نَفْسٍ، لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى))، قال حكيم: فقلتُ: يا رسول الله، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ، لا أرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أُفارِقَ الدُّنيا، فكان أبوبكر - رضي الله عنه - يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يَقْبَلَ منه، ثم إن عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه، فأبى أن يَقْبَلَ منه شيئًا، فقال عمر: إني أُشْهِدُكم يا معشرَ المسلمين أنِّي أَعرض عليه حقَّه من هذا الفَيْء، فيأبى أن يأخذه، فلم يَرْزَأْ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفيَ رضي الله عنه[9].

وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنه - أنَّ أُناسًا سألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفِد ما عنده، فقال: ((ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّه الله، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، ومَنْ يَتَصَبَّر يُصَبِّره الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصَّبر)) [10].

[1] أخرجه أحمد (1/ 147، رقم 1252)، والدارقطنى (2/ 121)، والعقيلى (1/ 223، رقم 272)، والضياء (2/ 147، رقم 519)، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 490) صحيح لغيره.

[2] وأخرجه البخاري (1474)، ومسلم (1040) (104).

[3] مسلم (1041)، وابن ماجه (1838).

[4] أبو داود (1629)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (799).

[5] صحيح البخاري (1/ 456) برقم (1471).

[6] سنن الترمذي (4/ 563) برقم (2325).

[7] صحيح مسلم (2/ 721) برقم (1043).

[8] مسند الإمام أحمد (5/ 281).

[9] صحيح البخاري (1/ 456) برقم (1472)، وصحيح مسلم (1/ 717) رقم (1035).

[10] صحيح البخاري (1/ 455)، وصحيح مسلم (1/ 729) برقم (1053).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.04%)]