
16-07-2025, 06:26 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,263
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الأعراف
الحلقة (675)
صــ 481 إلى صــ 490
القول في تأويل قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) }
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، أنهم يقولون عند حلول سَخَط الله بهم، وورودهم أليمَ عذابه، ومعاينتهم تأويل ما كانت رسلُ الله تعِدهم: هل لنا من أصدقاءَ وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا (1) = أو نردّ إلى الدنيا مرة أخرى، فنعمل فيها بما يرضيه ويُعْتِبُه من أنفسنا؟ (2) قال هذا القولَ المساكينُ هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة.
يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: "قد خسروا أنفسهم" ، (3) يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرة الدائم، بالخسيس من عَرَض الدنيا الزائل = "وضل عنهم ما كانوا يفترون" ، يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحار عنهم أولياؤهم، (4) الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، (5) ويزعمون كذبًا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله. (6)
14772 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "قد خسروا أنفسهم" ، يقول: شروها بخسران.
* * *
(1) انظر تفسير "الشفاعة" فيما سلف 11: 547، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) "أعتبه من نفسه" ، أعطاه العتبى - وهي الرضا - ورجع إلى مسرته.
(3) انظر تفسير "الخسارة" فيما سلف ص: 357، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: "وحاد" بالدال، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(5) انظر تفسير "الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
(6) انظر تفسير "الافتراء" فيما سلف ص: 408 تعليق: 2، والمراجع هناك.
وإنما رفع قوله: "أو نردُّ" ولم ينصب عطفًا على قوله: "فيشفعوا لنا" ، لأن المعنى: هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا = أو هل نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ = ولم يرد به العطف على قوله: "فيشفعوا لنا" . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم، أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء (2) = "الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" ، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، كما:-
14773 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدءُ الخلق العرشُ والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدء الخلق يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت. ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون.
* * *
= "ثم استوى على العرش" .
* * *
(1) في المخطوطة خلط وتكرار في هذه الجملة، وصوابها ما في المطبوعة. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 380.
(2) انظر تفسير "الرب" فيما سلف 1: 142- 143/ 12: 286.
وقد ذكرنا معنى "الاستواء" واختلاف الناس فيه، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله: "يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا" ، فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره (2) = "يطلبه" ، يقول: يطلب الليل النهار = "حثيثًا" ، يعني: سريعًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14774 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يطلبه حثيثًا" ، يقول: سريعًا.
14775 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا" ، قال: يغشي الليل النهارَ بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمرَه، ألا لله
(1) انظر تفسير "الاستواء" فيما سلف 1: 428- 431.
(2) انظر تفسير "الغشاوة" فيما سلف 1: 265، 266.
الخلق كله، والأمرُ الذي لا يخالف ولا يردّ أمره، دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا تأمر، تبارك الله معبودُنا الذي له عبادة كل شيء، رب العالمين. (1)
14776 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه، قلَّ شكره، وحَبِط عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله: "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" . (2)
* * *
(1) انظر تفسير "تبارك" فيما سلف ص: 238، تعليق 2، والمراجع هناك.
= وتفسير "رب" فيما سلف قريبًا ص: 482، تعليق: 2 والمراجع هناك.
= وتفسير "العالمين" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(2) الأثر: 14776 - "عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري" ، هكذا جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة، وهكذا نقله الحافظ ابن حجر عن هذا الموضع من التفسير في ترجمة (أبو عبد العزيز) من الإصابة، وهكذا نقله ابن كثير في تفسيره 3: 489.
ولكن الذي أطبقت عليه كتب التراجم، والأسانيد الأخرى التي نقلها الحافظ ابن حجر، في موضع آخر من الإصابة أنه:
"عبد الغفور بن عبد العزيز" ، وكنوه "أبو الصباح" ، ونسبوه "الواسطي" ، وهو مترجم في لسان الميزان 4: 43، 44، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 55، وميزان الاعتدال 2: 142، وهو ضعيف منكر الحديث، وأخرجه البخاري في الضعفاء.
وأبوه هو: "عبد العزيز الشامي" ، ولم أجد له ذكرًا، إلا في أثناء هذه الأسانيد.
وأبوه، الذي له صحبة يقال اسمه "سعيد الشامي" ، وهو مترجم بذلك في الإصابة، وكنيته "أبو عبد العزيز" ، وهو مترجم أيضًا في باب الكنى من الإصابة، وفي أسد الغابة 5: 247.
وهذا الخبر، رواه الحافظ ابن حجر في الموضعين من ترجمة "أبي عبد العزيز" و "سعيد" ، وابن الأثير في أسد الغابة 5: 247، وابن كثير في تفسيره 3: 489، والسيوطي في الدر المنثور 3: 92.
وهو خبر ضعيف هالك الإسناد. و "بقية بن الوليد" كما قال ابن المبارك: (( كان صدوقًا، ولكنه يكتب عمن أقبل وأدبر )) . وقال أحمد: "إذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوه" . وقال يحيى بن معين: "كان يحدث عن الضعفاء بمئة حديث قبل أن يحدث عن الثقات" . وقال أبو زرعة: "بقية عجب!! إذا روى عن الثقات فهو ثقة" . وذكر قول ابن المبارك الذي تقدم، ثم قال: "وقد أصاب ابن المبارك. ثم قال: هذا في الثقات، فأما في المجهولين، فيحدث عن قوم لا يعرفون ولا يضبطون" .
القول في تأويل قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ادعوا، أيها الناس، ربَّكم وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام = "تضرعًا" ، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته (1) = "وخفية" ، يقول بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله، (2) كما:-
14777 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر، (3) وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: "ادعوا ربكم تضرعًا وخفية" ، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) ، [سورة مريم: 3] .
(1) انظر تفسير "التضرع" فيما سلف 11: 355، 414.
(2) انظر تفسير "خفية" فيما سلف 11: 414.
(3) "الزور" (بفتح فسكون) جمع "زائر" ، مثل "صاحب" و "صحب" . وفي المخطوطة: "الزور" مضبوطة بالقلم بضم الزاي وتشديد الواو مفتوحة، وهو صواب أيضًا.
14778 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، (1) فأشرفوا على وادٍ يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: أيها الناس، اربَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا! إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم ". (2) "
14779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: "ادعوا ربكم تضرعًا وخفية" ، قال: السر.
* * *
وأما قوله: "إنه لا يحب المعتدين" ، فإن معناه: إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه، ومسألتهم، وفي غير ذلك من الأمور، (3) كما:-
14780 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن عباد بن عباد، عن علقمة، عن أبي مجلز: "ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين" ، قال: لا يسأل منازلَ الأنبياء عليهم السلام.
14781 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: "إنه لا يحب المعتدين" ،
(1) هذه الغزاة، هي غزوة خيبر.
(2) الأثر: 14778- رواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 363) ، ومسلم في صحيحه 17: 25 من هذه الطريق، مطولا.
وقوله: "اربعوا على أنفسكم" ، أي: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم. وفي المخطوطة: "سميعًا قريبًا أنا معكم" غير منقوطة، وأثبت ما في الصحيحين، وفي المطبوعة، حذف ما في المخطوطة، ولم يزد "وهو" التي زدتها.
(3) انظر تفسير "الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) .
في الدعاء ولا في غيره = قال ابن جريج: إن من الدعاء اعتداءً، يُكره رفعُ الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويُؤمر بالتضرُّع والاستكانة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" ، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها.
* * *
وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى، وبينا معناه بشواهده. (1)
* * *
= "بعد إصلاحها" يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته، بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق، وإيضاحه حججه لهم (2) = "وادعوه خوفًا وطمعًا" ، يقول: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا تشركوا في عملكم له شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه. وإنّ مَن كان دعاؤه إياه على غير ذلك، فهو بالآخرة من المكذبين، لأنّ من لم يخف عقابَ الله ولم يرجُ ثوابه، لم يبال ما ركب من أمر يسخَطه الله ولا يرضاه = "إن رحمة الله قريب من المحسنين" ، يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا، قريب منهم، وذلك هو رحمته، (3)
(1) انظر تفسير "الفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287، 416، ومواضع أخرى آخرها 10: 461، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(3) انظر تفسير "الرحمة" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) .
= وتفسير "الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .
لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم.
* * *
ولذلك من المعنى ذُكِّر قوله: "قريب" ، وهو من خبر "الرحمة" ، و "الرحمة" مؤنثة، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النَّسب، والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارًا للأسماء، (1) أجرتها العرب مجرى الحال، فوحّدتها مع الواحد والاثنين والجميع، وذكَّرتها مع المؤنث، فقالوا: "كرامة الله بعيد من فلان" ، و "هي قريب من فلان" ، كما يقولون: "هند قريب منا" ، و "الهندان منا قريب" ، و "الهندات منا قريب" ، لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب منا. فإذا حذفوا المكان وجعلوا "القريب" خلفًا منه، ذكَّروه ووحَّدوه في الجمع، كما كان المكان مذكرًا وموحدًا في الجمع. وأما إذا أنثوه، أخرجوه مثنى مع الاثنين، ومجموعًا مع الجميع، فقالوا: "هي قريبة منا" ، و "هما منّا قريبتان" ، كما قال عروة [بن الورد] : (2)
عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو، وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (3)
فأنث "قريبة" ، وذكّر "بعيدًا" ، على ما وصفت. ولو كان "القريب" ، من "القرابة" في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثًا، ومع الجميع إلا مجموعًا. (4)
(1) في المطبوعة: "إذا رفعت أخبارًا" ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، والصواب أنه "عروة بن حزام" ، كما سترى في التخريج، وكأنه سهو من الناسخ وزيادة منه، فإن هذا كله تابع فيه أبو جعفر، الفراء في معاني القرآن، والفراء لم يذكر سوى "عروة" ، فزاد الناسخ سهوًا "بن الورد" .
(3) معاني القرآن للفراء 1: 381، على ما ذكره أبو جعفر، وهو نقله عنه. والبيت في ديوان عروة بن حزام، وفي تزيين الأسواق 1: 84، والبكري في شرح الأمالي: 401، من شعر له صواب إنشاده على الباء: عَشِيَّة لا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدَةٌ ... فَتَسْلُو، وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبُ
وَإنِّي لَتَغْشَانِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبيبُ
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 381، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 216، 217..
وكان بعض نحويي البصرة يقول: ذكَّر "قريب" وهو صفة لـ "الرحمة" ، وذلك كقول العرب: "ريح خريق" ، (1) و "ملحفَة جديد" ، (2) و "شاة سديس" . (3) قال: وإن شئت قلت: تفسير "الرحمة" هاهنا، المطر ونحوه، فلذلك ذكَّر، كما قال: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا) ، [سورة الأعراف: 87] ، فذكَّر، لأنه أراد الناس. وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث، كقول الشاعر: (4)
وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا (5)
* * *
وقد أنكر ذلك من قِيله بعضُ أهل العربية، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكِّر "قريبًا" ، توجيهًا منه للرحمة إلى معنى المطر، أن يقول: "هند قام" ، توجيهًا منه لـ "هند" وهي امرأة، إلى معنى: "إنسان" ، ورأى أن ما شبَّه به قوله: "إن رحمة الله قريب من المحسنين" ، بقوله: "وإن كان طائفة منكم آمنوا" ، غير مُشْبِهِه. وذلك أن "الطائفة" فيما زعم مصدر، بمعنى "الطيف" ، كما "الصيحة" و "الصياح" ، بمعنًى، ولذلك قيل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ، [سورة هود: 67] .
* * *
(1) "ريح خريق" : شديدة، وقيل: لينة سهلة. ضد.
(2) في المطبوعة: "وساحفة حديد" ، وفي المخطوطة: "وماحقه جديد" ، غير منقوطة والصواب ما أثبت، وهو المثل الذي ضرب في هذا الباب. قال ابن سيده: "ملحفة جديد، وجديدة" ، وقال سيبويه: وقد قالوا ملحفة جديدة، وهو قليلة.
(3) "شاة سديس" : أتت عليها السنة السادسة.
(4) عامر بن جوين الطائي.
(5) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 1: 432، ونسيت أن أذكر هناك أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في 18: 118 (بولاق) ، وصدر البيت: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته. (1)
* * *
و "النشر" بفتح "النون" وسكون "الشين" ، في كلام العرب، من الرياح، الطيبة اللينة الهبوب، التي تنشئ السحاب. وكذلك كل ريح طيبة عندهم فهي "نشر" ، ومنه قول امرئ القيس:
كَأَنَّ المُدَامَ وَصَوْبَ الغَمَامِ ... وَرِيحَ الخُزَامَى وَنَشْرَ القُطُرْ (2)
* * *
وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين، خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرؤه: "بشرًا" على اختلاف عنه فيه.
* * *
(1) القراءة التي أثبتها أبو جعفر في تفسير الآية "نشرا" ، ولكني أثبت في الآية قراءتنا في مصحفنا، وسأثبتها في سائر المواضع بقراءة أبي جعفر بالنون.
(2) ديوانه: 79، واللسان (نشر) من قصيدة له طويلة، وهذا البيت في ذكر "هو" صاحبته وهذا البيت في صفة رائحة ثغرها عند الصباح، حين تتغير أفواه الناس، يقول بعده: يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أَنْيَابِهَا ... إذَا طَرَّبَ الطَّائِر المُسْتَحِرْ
و "القطر" (بضمتين) : هو العود الذي يتبخر به. و "صوب الغمام" ، وقعه حيث يقع. و "يعل" يسقى بالمدام مرة بعد مرة. و "الطائر المستحر" ، الديك إذا صوت عند السحر. يصفها بطيب رائحة فمها، حين تتغير الأفواه بعد النوم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|