
16-07-2025, 09:50 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الأعراف
الحلقة (677)
صــ 501 إلى صــ 510
القول في تأويل قوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله عز ذكره عن قِيل نوح لقومه أنه قال لهم، إذ ردُّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيًّا، وقالوا له: (مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) ، [سورة هود: 27] =: "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم" ، يقول: أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعِظة، يذكركم بما أنزل ربكم = "على رجل منكم" ، قيل: معنى قوله: "على رجل منكم" ، مع رجل منكم (1) = "لينذركم" ، يقول: لينذركم بأس الله ويخوِّفكم عقابه على كفركم به (2) = "ولتتقوا" ، يقول: وكي تتقوا عقابَ الله وبأسه، بتوحيده وإخلاص الإيمان به، والعمل بطاعته = "ولعلكم ترحمون" ، يقول: وليرحمكم ربكم إن اتقيتم الله، وخفتموه وحَذِرتم بأسه.
* * *
وفتحت "الواو" من قوله: "أو عجبتم" ، لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف استفهام. (3)
* * *
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 383.
(2) انظر تفسير "الإنذار" فيما سلف من فهارس اللغة (نذر) .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 383.
القول في تأويل قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه إذ أخبرهم أنه لله رسولٌ إليهم، يأمرهم بخلع الأنداد، والإقرار بوحدانية الله، والعمل بطاعته، وخالفوا أمر ربهم، ولجُّوا في طغيانهم يعمهون، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به، وكانوا بنوح عليه السلام أنفسًا عشرة، (1) فيما:-
14792 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نوح، وبنوه الثلاثة سامٌ وحام ويافث، وأزواجهم، وستة أناسيّ ممن كان آمن به.
* * *
وكان حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، كما قال تبارك وتعالى: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) [سورة هود: 40] .
* * *
و "الفلك" ، هو السفينة.
* * *
"وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا" ، يقول: وأغرق الله الذين كذبوا بحججه، ولم يتبعوا رسله، ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان.
= "إنهم كانوا قومًا عمين" ، يقول: عمين عن الحق، كما:-
14793 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "عمين" ، قال: عن الحق.
(1) في المخطوطة ما أثبت، ولكن ناشر المطبوعة اجتهد فكتب "وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة" ، وهو تصرف معيب، فإن خبر ابن إسحاق هذا سيأتي في تفسير "سورة هود" 12: 26 (بولاق) ، وفيه: "فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم" ، فنوح وبنوه أربعة، وستة أناسي، فهذه عشرة. أما الأزواج فإنه لم يدخلهن في العدة كما ترى، وإنما عنى عدد الرجال دون النساء.
14794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "قوما عمين" ، قال: العَمَى، العامي عن الحق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا = ولذلك نصب "هودًا" ، لأنه معطوف به على "نوح" عليهما السلام = قال هود: يا قوم، اعبدوا الله فأفردوا له العبادة، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنه ليس لكم إله غيره = "أفلا تتقون" ، ربكم فتحذرونه، وتخافون عقابه بعبادتكم غيره، وهو خالقكم ورازقكم دون كل ما سواه.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عما أجاب هودًا به قومُه الذين كفروا بالله: "قال الملأ الذين كفروا" ، يعني: الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة الله إليهم (2)
= "إنا لنراك" ، يا هود "في سفاهة" ، يعنون: في ضلالة عن الحق والصواب
(1) انظر تفسير "العمى" فيما سلف 11: 372، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير الملأ "فيما سلف قريبًا ص: 499، تعليق: 3، والمراجع هناك."
بتركك ديننا وعبادة آلهتنا (1) = "وإنا لنظنك من الكاذبين" ، في قيلك: "إنّي رسول من رب العالمين" = قال: "يا قوم ليس بي سفاهة" ، يقول: أي ضلالة عن الحق والصواب = "ولكني رسول من رب العالمين" ، أرسلني، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤدِّيَها.
* * *
(1) انظر تفسير "السفاهة" فيما سلف ص: 153، تعليق: 4، والمراجع هناك.
القول في تأويل قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "أبلغكم رسالات ربّي" ، أؤدي ذلك إليكم، أيها القوم (1) = "وأنا لكم ناصح" ، يقول: وأنا لكم في أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة، ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت كما أمرت = "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم" ، يقول: أوعجبتم أن أنزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه (2) = "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم"
(1) انظر تفسير "البلاغ" فيما سلف 10: 575/ 11: 9.
(2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبًا: ص501.
نوح "، يقول: فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لمّا أهلكهم أبدلكم منهم فيها، (1) فاتقوا الله أن يحلّ بكم نظير ما حل بهم من العقوبة، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنَّته في قوم نوح قبلكم، على معصيتكم إياه وكفركم به =" وزادكم في الخلق بسطة "، زاد في أجسامكم طولا وعِظَمًا على أجسام قوم نوح، (2) وفي قواكم على قواهم، (3) نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه وفضله الذي فضلكم به عليهم في أجسامكم وقُوَاكم، (4) واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأنداد =" لعلكم تفلحون "، يقول: كي تفلحوا فتدركوا الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده. (5) "
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14795 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" ، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم.
14796 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح" ، أي: ساكني الأرض بعد قوم نوح.
* * *
(1) انظر تفسير "خليفة" فيما سلف 1: 449/ 12: 288.
(2) انظر تفسير "البسطة" فيما سلف 5: 313.
(3) في المطبوعة: "وفي قوامكم على قوامهم" ، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة أيضًا: "وقوامكم" ، صوابه من المخطوطة.
(5) انظر تفسير "الفلاح" فيما سلف ص: 312، تعليق: 1، والمراجع هناك.
وبنحو الذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: "بسطة" .
* ذكر من قال ذلك:
14797 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وزادكم في الخلق بسطة" ، قال: ما لقوّةِ قوم عاد. (1)
* * *
وأما "الآلاء" ، فإنها جمع، واحدها: "إلًى" بكسر "الألف" في تقدير "مِعًى" ، ويقال: "ألَى" في تقدير "قَفَا" بفتح "الألف" . وقد حكي سماعًا من العرب: "إلْي" مثل "حِسْي" . و "الآلاء" ، النعم.
* * *
وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14798 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فاذكروا آلاء الله" ، أي: نعم الله.
14799 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "آلاء الله" ، فنعم الله.
14800 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فاذكروا آلاء الله" ، قال: آلاؤه، نعمه.
* * *
قال أبو جعفر: و "عاد" ، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من عنده، هم، فيما:-
14801 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
* * *
(1) في المطبوعة: "ما لقوام قوم عاد" ، والصواب ما في المخطوطة.
وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن وما وَالى بلاد حضرموت إلى عُمَان، كما:
14802 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف.
14803 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، (1) ذا أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، (2) هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه. (3)
14804 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف. قال: و "الأحقاف" ، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله. (4) وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من دون الله: صنم يقال له "صُداء" ، وصنم يقال له "صَمُود" ، وصنم
(1) "المدرة" ، الطين العلك الذي لا رمل فيه.
(2) "الأراك" و "السدر" نبتان.
(3) الأثر: 14803- "محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي" ، ترجم له البخاري في الكبير 1/ 1/ 135، وساق الخبر، بنحوه، مطولا، ولم يذكر فيه جرحًا. وابن أبي حاتم 3/ 2/ 297.
"أبو الطفيل" ، "عامر بن واثلة الكناني" ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شاب، ثبتت رؤيته رسول الله، ولم يثبت سماعه منه. قالوا: كان آخر من مات من الصحابة سنة مئة، أو ما بعدها.
(4) في المطبوعة: "باليمن" ، وأسقط "كله" ، وأثبت ما في المخطوطة.
يقال له "الهباء" . فبعث الله إليهم هودًا، وهو من أوْسطهم نسبًا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحِّدوا الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره، وأن يكفُّوا عن ظلم الناس. ولم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه وكذبوه. وقالوا: "من أشدّ منا قوة!" . واتبعه منهم ناسٌ، وهم يسيرٌ مكتتمون بإيمانهم. (1) وكان ممن آمن به وصدّقه رجلٌ من عاد يقال له: "مرثد بن سعد بن عفير" ، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيَّهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبَّروا وبنوا بكل رِيع آية عبَثًا بغير نفع، كلمهم هود فقال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [سورة الشعراء: 128-131] ، (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب = (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) ، إلى قوله: (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة هود: 53-56] . فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر من السَّماء ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جَهْد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طَلِبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثيرٌ شتى مختلفةٌ أديانُهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حُرْمتها ومكانَها من الله.
= قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، (2) والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق = وإنما سموا "العماليق" ، لأن
(1) في المطبوعة: "يكتمون إيمانهم" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "وكان البيت في زمان معروفًا مكانه" ، غير مستقيم، والذي في المطبوعة أقوم على السياق.
أباهم: "عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح" = وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه. وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت. وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخيبري، رجلٍ من عادٍ، فلما قَحَطَ المطر عن عاد وجُهِدوا، (1) قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا قيل بن عنز (2) ولقيم بن هزّال بن هزيل، (3) وعتيل بن صُدّ بن عاد الأكبر. (4) ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجُلْهُمَة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر أخو أمه. ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدّة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وصِهْرَه. (5)
= فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان = قينتان لمعاوية بن بكر. وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، (6) شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون
(1) "قحط المطر" (بفتحتين) و "قحط" (بالبناء للمجهول) : احتبس. و "القحطة" احتباس المطر، ولما كان احتباس المطر معقبًا للجدب، سمو الجدب قحطًا.
(2) في المطبوعة "بن عنز" ، وفي المخطوطة: "عتر" ، وفي التاريخ "عثر" وسيأتي بعد في التاريخ "عنز" .
(3) في المطبوعة: "من هذيل" ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري.
(4) في المطبوعة: "وعقيل بن صد" ، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في التاريخ، وإن الذي في التاريخ هكذا: "وليقيم بن هزال بن هزيل بن عتيل بن ضد ..." و "ضد" بالضاد في التاريخ، وأظن الصاد أصح.
(5) في المطبوعة: "وأصهاره" ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.
(6) "يتغوثون" في المطبوعة والتاريخ، وفي المخطوطة: "يتعوذون" ، غير منقوطة، وهي صحيحة، فأثبتها.
عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له، (1) فيظنوا أنه ضِيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك مَنْ وراءهم من قومهم جَهْدًا وعَطَشا!! أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نُغنِّيهم به، لا يدرون مَنْ قاله، لعل ذلك أن يحرِّكهم! فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:
أَلا يَا قَيْلَ، ويْحَكَ! قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا (2) فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا ... قَدَ امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلامَا
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ، فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلا الغُلامَا
وَقدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ ... فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ عَيَامَى (3) وَإنَّ الْوَحْشَ تَأتِيهِمْ جِهَارًا ... وَلا تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا
وَأنْتُمْ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ ... نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ ... وَلا لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلامَا
فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنَّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومُكم يتعوَّذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، (4) وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرمَ واستسقوا لقومكم!
(1) في المطبوعة: "إن أمرتهم بالخروج" وفي المخطوطة: "إن آمرهم بالخروج" ، فصح أنه قد سقط من الكلام ما أثبته من التاريخ.
(2) الأبيات في التاريخ، وفي البداية والنهاية 1: 126. وفي التاريخ "يسقينا الغماما" ، وكذلك كانت في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة، وفي البداية والنهاية: "يمنحنا" .
(3) في المخطوطة: "نساؤهم عراما" ، والصواب ما في التاريخ والمطبوعة، "أعام القوم" هلكت إبلهم فلم يجدوا لبنًا. و "العيمة" شدة شهوة اللبن. و "عام القوم" قلَّ لبنهم من القحط. "رجل عمان، وامرأة عيمى" ، والجمع "عيام" و "عيامى" . وفي البداية والنهاية "نساؤهم أيامى" ، جمع "أيم" ، التي هلك زوجها.
(4) في المخطوطة: "سعودون" غير منقوطة، وفي التاريخ والمطبوعة: "يتغوثون" ، وانظر التعليق السالف ص: 509، رقم: 6.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|