
18-07-2025, 01:13 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (796)
صــ 551 إلى صــ 560
= ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة، (8) من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: "هل حرك شفتيه بردّ السلام أم لا؟" ، ثم أصلي معه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوَّرت جدار حائط أبي قتادة = وهو ابن عمي، وأحبُّ الناس إليّ = فسلمت عليه، فوالله ما ردّ علي السلام! فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت. قال: فعُدْت فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار.
= فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطيّ من نَبَط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون
(1) "الجدل" ، اللدد في الخصومة، والقدرة عليها، وعلى مقابلة الحجة بالحجة.
(2) "تجد" من "الوجد" ، وهو الغضب والسخط.
(3) هكذا في المخطوطة: "عفو الله" ومثله في مسند أحمد 3: 460 وفي صحيح مسلم "عقبى الله" ، أي: أن يعقبني خيرا، وأن يثبتني عليه.
(4) في المطبوعة حذف "في" من قوله: "لقد عجزت في أن لا تكون" ، وهي ثابتة في المخطوطة، وهي مطابقة لما في صحيح مسلم. وأما الذي في المطبوعة، فهو مطابق لما في البخاري من رواية غيره.
(5) في المطبوعة: "ابن الربيع" ، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر روايته في مسلم "مرارة بن ربيعة" ، وما قالوا في اختلاف رواه مسلم. وما قالوه أيضا في روايته "العامري" ، وأن صوابها "العمري" نسبة إلى بني عمرو بن عوف.
(6) في المطبوعة: "لي فيهما أسوة" ، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة، ولا في صحيح مسلم. وإنما هو من رواية البخاري، بغير هذا الإسناد.
(7) "مضيت" ، أي: أنفذت ما رأيت. من قولهم: "مضى في الأمر مضاء" ، نفذ، و "أمضاه" أنفذه.
(8) قوله: "أيها الثلاثة" ، أي: خصصنا بذلك دون سائر المعتذرين. وهذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب، تقول: "أما أنا فأفعل هذا، أيها الرجل" ، يعني نفسه. انظر ما سلف 3: 147، تعليق: 1، في الخبر رقم: 2182.
له، حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا، فقرأته، فإذا فيه: "أما بعدُ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوَانٍ ولا مَضْيَعةٍ، فالحق بنا نُوَاسِك" .
= قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضًا من البلاء!! فتأمَّمتُ به التنُّور فسجرته به. (1) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، (2) إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلِّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. (3)
= قال: فجاءت امرأة هلالٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدُمَه؟ فقال: لا ولكن لا يقرَبَنْكِ! قالت فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله
(1) "فتأممت" ، وهكذا في المخطوطة أيضا، وفي رواية البخاري "فتيممت" . وأما في صحيح مسلم، "فتياممت" ، وقال النووي: "هكذا هو في حميع النسخ ببلادنا، وهي لغة في: تيممت، ومعناها: قصدت" . وأما القاضي عياض، فقال في مشارق الأنوار (أمم) : "ومثله: فتيممت بها التنور، كذا رواه البخاري. ولمسلم: فتأممت، وكلاهما بمعنى، سهل الهمزة في رواية، وحققها في أخرى = أي: قصدت" .
ثم انظر تفسير "الأم" و "التأمم" في تفسير أبي جعفر فيما سلف 5: 558 / 8: 407 / 9: 471.
وفي المطبوعة: "فتأممت به" ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في مسلم والبخاري، إلا أن في مسلم "فسجرتها بها" ، وفي البخاري: "فسجرته بها" . وأنث "بها" ، إرادة لمعنى الصحيفة، وهي الكتاب، ثم رجع بالضمير إلى "الكتاب" .
"والتنور" ، الكانون الذي يخبز فيه.
و "سجر التنور" ، أوقده وأحماه وأشبع وقوده، وأراد: أنه زاد التنور التهابا، بإلقائه الصحيفة في ناره. وهذا كلام معجب، أراد به أن يسخر من رسالة ملك غسان إليه.
(2) "استلبث" ، أي: أبطأ وتأخر.
(3) في المطبوعة: "تكوني عندهم" ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم. وفي البخاري بغير هذا الإسناد: "فتكوني" .
ما زال يبكي مُنْذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدُمه؟ قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابٌّ!
= فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. (1) قال: ثم صليت صلاة الفجر صباحَ خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا، (2) قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعتُ صوت صارخٍ أوْفى على جبل سَلْع، (3) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ. قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، (4) فذهب الناس يبشروننا، (5) فذهب قِبَلَ صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسًا، وسعى ساعٍ من أسْلَم قِبَلي وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرعَ من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6)
(1) في صحيح مسلم "حين نهي عن كلامنا" ، وضبط "نهي" بالبناء للمجهول، ورواية أبي جعفر، تصحح ضبطه بالبناء للمعلوم أيضا.
(2) في المطبوعة: "التي ذكر الله عنا" ، غير ما في المخطوطة، هو مطابق لما في صحيح مسلم، وهو العربي العريق.
(3) "أوفى عليه" ، صعده وارتفع عليه، فأشرف على الوادي منه واطلع.
(4) "آذن" أعلم الناس بها. ورواية مسلم: "فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس" ، والذي هنا مطابق لرواية البخاري، بغير هذا الإسناد.
(5) "ذهب" ، سلف ما كتبته عن الاستعانة بقولهم: "ذهب" و "جعل" . انظر رقم: 17429، ص: 541، تعليق 3، والمراجع هناك.
(6) انظر ص: 553، تعليق: 1.
فتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة ويقولون: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك! (1) حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهَرول حتى صافحني، وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره = قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة (2) = قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرُقُ وجهه من السرور: أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك! فقلت: أمن عندك، يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأن وجه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
= قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك، فهو خيرٌ لك! قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت! قال: فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صِدْق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، أحسن مما ابتلاني، (4)
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "لتهنك" ، وهي كذلك في رواية البخاري بغير هذا الإسناد، وفي صحيح مسلم المطبوع: "لتهنئك" ، وذكره القاضي عياض في مشارق الأنوار (هنأ) فقال: "ولتهنك توبة الله، يهمز، ويسهل" . وقد ذكر صاحب لسان العرب (هنأ) أن العرب تقول: "ليهنئك الفارس" بجزم الهمزة، و "ليهنيك الفارس" بياء ساكنة، ولا يجوز "ليهنك" كما تقول العامة "، والذي قاله ونسبه للعامة، صواب لا شك فيه عندي."
(2) قال الحافظ في الفتح: "قالوا: سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة، لما آخى بين المهاجرين والأنصار. والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير، لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين، فهو أخو أخيه" .
(3) "انخلع من ماله" ، أي: خرج من جميع ماله، وتعرى منه كما يتعرى إنسان إذا خلع ثوبه. وأراد: إخراجه متصدقا به.
(4) "أبلاه" أي: أنعم عليه.
والله ما تعمَّدت كِذْبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله: (لقد تابَ الله على النبي) ، حتى بلغ: (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، إلى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
= قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمةٍ قطُّ بعد أن هَدَاني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، (1) فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شَرَّ ما قال لأحدٍ: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ، إلى قوله: (لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ، [سورة التوبة: 95، 96] .
= قال كعب: خُلِّفنا، أيها الثلاثة، (2) عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حَلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال الله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا عن الغزو، (3) إنما هو تخليفه إيّانا، (4) وإرجاؤه أمرَنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. (5)
(1) "أن لا أكون" ، "لا" زائدة، كالتي في قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة: الأعراف: 12] . انظر ما سلف في تفسير الآية 12: 323 - 325.
(2) في المطبوعة: "خلفنا" دون "كنا" ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وما أثبته مطابق لرواية مسلم في صحيحه.
(3) في صحيح مسلم: "مما خلفنا، تخلفنا عن الغزو" ، والذي هنا وفي المخطوطة، مطابق لما فيه رواية البخاري بغير هذا الإسناد.
(4) في المطبوعة: "ختم الجملة بقوله:" فقبل منهم "بالجمع، خالف ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم والبخاري."
(5) الأثر: 17447 - حديث كعب بن مالك، سيرويه أبو جعفر من طرق سأبينها بعد. أما روايته هذه من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، فهو إسناد مسلم في صحيحه 17: 87، 98، وانظر التعليق على الأخبار التالية. وانظر الأثرين السالفين رقم: 16147، 17091، والتعليق عليهما.
17448- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك = وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِي = قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فذكر نحوه. (1)
17449- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاة غَزاها إلا بدرًا، ولم يعاتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عن بدر، ثم ذكر نحوه. (2)
17450- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السلمي، عن أبيه، أن أباه عبد الله بن كعب، وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره = قال: سمعت أبي كعبَ بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه، قال: ما تخلفت عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر، ثم ذكر نحوه. (3)
* * *
(1) الأثر: 17448 - من هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 86 - 93) ، وأحمد في مسنده 3: 459، 460، الحديث بطوله.
(2) الأثر: 17449 - من هذه الطريق، طريق معمر، رواه أحمد في مسنده 6: 387 - 390. وانظر أيضا ما رواه أحمد في مسنده 3: 456، روايته من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، الحديث بطوله، وصحيح مسلم 17: 98 - 100.
(3) الأثر: 17450 - سيرة ابن هشام 4: 175 - 181، الحديث بطوله.
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين، معرِّفَهم سبيل النجاة من عقابه، والخلاصِ من أليم عذابه: (يا أيها الذين آمنوا) ، بالله ورسوله = (اتقوا الله) ، وراقبوه بأداء فرائضه، وتجنب حدوده = (وكونوا) ، في الدنيا، من أهل ولاية الله وطاعته، تكونوا في الآخرة = (مع الصادقين) ، في الجنة. يعني: مع من صَدَق اللهَ الإيمانَ به، فحقَّق قوله بفعله، ولم يكن من أهل النفاق فيه، الذين يكذِّب قيلَهم فعلُهم.
وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا، كما قال جل ثناؤه: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) [سورة النساء: 69] .
* * *
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام، لأن كون المنافق مع المؤمنين غيرُ نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم، إن لم يكن عاملا عملهم. وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم، كان وجْهُ الكلام أن يقال: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، (1) ولتوجيه الكلام إلى ما وجَّهنا من تأويله، فسَّر ذلك من فسَّره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو: مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين رحمة الله عليهم.
* * *
* ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله:
(1) في المطبوعة: "كان لا وجه في الكلام أن يقال" ، غير ما في المخطوطة، والذي فيها ما أثبته، وهو مستقيم صحيح. والذي جاء به من عنده مفسد للكلام.
17451- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، عن نافع في قول الله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
17452- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن زيد بن أسلم، عن نافع قال: قيل للثلاثة الذين خُلِّفوا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، محمدٍ وأصحابه.
17453- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما، رحمةُ الله عليهم.
17454- قال، حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرمّاني، عن سعيد بن جبير في قول الله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع أبي بكر وعمر، رحمة الله عليهما. (1)
17455- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع المهاجرين الصادقين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه: (وَكُونُوا مِن الصَّادِقينَ) ، ويتأوّله: أنّ ذلك نَهْىٌ من الله عن الكذب.
* ذكر الرواية عنه بذلك:
17456- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة،
(1) الأثر: 17454 - "أبو هاشم الرماني" ثقة، روى له الجماعة. مختلف في اسمه، مضى برقم: 10818.
عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحلُّ منه جدٌّ ولا هزلٌ، اقرءوا إن شئتم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) ، قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود: (من الصادقين) ، فهل ترون في الكذب رُخْصَة؟
17457- قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة، عن عبد الله، نحوه.
17458- قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة يحدِّث عن عبد الله قال: الكذب لا يصلح منه جدٌّ ولا هزل، اقرءوا إن شئتم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) = وهي كذلك في قراءه عبد الله = فهل ترون من رخصة في الكذب؟
17459- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله قال: لا يصلح الكذب في هزلٍ ولا جدٍّ. ثم تلا عبد الله: (اتقوا الله وكونوا) ، ما أدري أقال: (من الصادقين) أو (مع الصادقين) ، وهو في كتابي: (مع الصادقين) .
17460- قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله، مثله.
17461- قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصحيح من التأويل في ذلك، هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك. وذلك أنّ رسوم المصاحف كلّها مجمعة على: (وكونوا مع الصادقين) ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحدٍ القراءةَ بخلافها.
* * *
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|