
21-07-2025, 04:37 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثامن عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الكهف
الحلقة (982)
صــ 5 إلى صــ 14
لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركنّ تلاوته، واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه، والعمل بحلاله وحرامه، فتكون من الهالكين، وذلك أن مصير من خالفه، وترك اتباعه يوم القيامة إلى جهنم (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) يقول: لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك أهل معاصيه، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك.
وقوله: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) يقول: وإن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه ومعدلا تعدل عنه إليه، لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (مُلْتَحَدًا) قال أهل التأويل، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (مُلْتَحَدًا) قال: مَلْجَأ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مُلْتَحَدًا) قال: ملجأ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) قال: موئلا.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (مُلْتَحَدًا) قال: ملجأ ولا موئلا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) قال: لا يجدون ملتحدا يلتحدونه، ولا يجدون من دونه ملجأ ولا أحدا يمنعهم، والملتحد: إنما هو المفتعل من اللحد، يقال منه: لحدت إلى كذا: إذا ملت إليه، ومنه قيل للحد: لحد، لأنه في ناحية من القبر، وليس بالشق الذي في وسطه، ومنه الإلحاد في الدين، وهو المعاندة بالعدول عنه، والترك له.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واصْبِرْ) يا محمد (نَفْسَكَ مَعَ) أصحابك (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها (يُرِيدُونَ) بفعلهم ذلك (وَجْهَهُ) لا يريدون عرضا من عرض الدنيا.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) في سورة الأنعام، والصواب من القول في ذلك عندنا، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع، والقرّاء على قراءة ذلك (بالغَدَاةِ والعَشيّ) ، وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه (بالغَدَوةِ والعَشِيّ) ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة، لأن غدوة معرّفة، ولا ألف ولا لام فيها، وإنما يعرف بالألف واللام ما لم يكن معرفة، فأما المعارف فلا تعرّف بهما، وبعد، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة، وإنما تقول العرب: أتيتك غداة الجمعة، ولا تقول: أتيتك غدوة الجمعة، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القرّاء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك، وللعلة التي بيَّنا من جهة العربية.
وقوله: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) يقول جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا تجاوزهم إليه، وأصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) قال: لا تجاوزهم إلى غيرهم.
حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) يقول: لا تتعدّهم إلى غيرهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ... الآية، قال: قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم يا محمد، وجالس أشراف العرب، فنزل القرآن (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) ولا تحقرهم، قال: قد أمروني بذلك، قال: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) .
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف، أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) فخرج يلتمس، فوجد قوما يذكرون الله، منهم ثائر الرأس، وجافّ الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم، فقال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي فِي أُمَّتِي مَنْ أمرني أنْ أصبِرَ نَفْسي مَعَهُ" ورُفعت العينان بالفعل، وهو لا تعد.
وقوله: (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا، قالوا: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ثم كان يقوم إذا أراد القيام، ويتركهم قعودا، فأنزل الله عليه (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) الآيَةَ (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يريد زينة الحياة الدنيا: مجالسة أولئك العظماء الأشراف. وفد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام.
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي، قال: ثني أبي، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود، عن خباب في قصة ذكرها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قال: تجالس الأشراف.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم: لقد آذاني ريح سلمان الفارسي، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه، فنزلت الآية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبِرَ نَفْسِي مَعَه" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قال: تريد أشراف الدنيا.
حدثنا صالح بن مسمار، قال: ثنا الوليد بن عبد الملك، قال: سليمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله الجهنيّ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي، عن سلمان الفارسي، قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن، (1) والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا نبيّ الله، إنك لو جلست في صدر المسجد، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم
(1) في الأصل: عيينة بن بدر. والصواب: ابن حصن، ولعله من سبق القلم. وقد ذكره صحيحا بعده بقليل.
يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك، وأخذنا عنك، فأنزل الله: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) ، حتى بلغ (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) يتهدّدهم بالنار، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْني حتى أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجالٍ منْ أُمَّتي، مَعَكُمُ المَحْيا وَمَعَكُمُ المَماتُ" .
وقوله: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك، عن ذكرنا، بالكفر وغلبة الشقاء عليه، واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه، وهم فيما ذُكر: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم.
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) قال: عُيينة، والأقرع.
وأما قوله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: وكان أمره ضياعا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) قال ابن عمرو في حديثه قال: ضائعا. وقال الحارث في حديثه: ضياعا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ضياعا.
وقال آخرون: بل معناه: وكان أمره ندما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد بن راشد، عن داود (فُرُطا) قال: ندامة.
وقال آخرون: بل معناه: هلاكا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن عمرو، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) قال: هلاكا.
وقال آخرون: بل معناه: خلافا للحق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) قال: مخالفا للحقّ، ذلك الفُرُط.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفا قد تجاوز حدّه، فَضَيَّع بذلك الحقّ وهلك.
وقد: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: قيل له: كيف قرأ عاصم؟ فقال (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) قال أبو كريب: قال أبو بكر: كان عُيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم، الحقّ أيها الناس من عند
ربكم، وإليه التوفيق والحذلان، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد، فيؤمن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا، وبالله وبما أنزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته.
وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) يقول: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر، وهو قوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد.
وقد بين أن ذلك كذلك قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) والآيات بعدها.
كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عمر بن حبيب، عن داود، عن مجاهد، في قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) . قال: وعيد من الله، فليس بمعجزي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) قال: هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا. وقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) يقول تعالى ذكره: إنا أعددنا، وهو من العُدّة. للظالمين: الذين كفروا بربهم.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) قال: للكافرين، وقوله: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) يقول: أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم، وذلك فيما قيل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط، كما قال رؤبة:
يا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بنَ الجارُودْ ... سُرادِقُ الفَضْلِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ (1)
وكما قال سلامة بن جندل:
هُوَ المُولِجُ النُّعْمانَ بيْتا سَماؤُهُ ... صُدُورُ الفُيُولِ بعدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقَ (2)
يعني: بيتا له سرادق.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) قال: هي حائط من نار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عمن أخبره، قال (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) قال: دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي قال الله: (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) .
(1) البيتان من أرجوزة قصيرة سبعة أبيات لرؤبة في (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ضمن الزوائد الملحقة بالديوان، وهما الأول والخامس، ص 172) . والبيتان من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1: 399) إلا أن رواية البيت الثاني فيه: * أنت الجواد بن الجود المحمود *
وبعده البيت الثاني. قال: "أحاط بهم سرادقها" :كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط؛ قال رؤبة * يا حكم بن المنذر بن الجارود *
وفي (اللسان: سردق) : السرادق: ما أحاط بالبناء، والجمع سرادقات. قال سيبويه: جمعوه بالتاء وإن كان مذكرا، حين لم يكسر. وفي التنزيل "أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا" . في صفة النار أعاذنا الله منها. قال الزجاج: صار عليهم سرادق من العقاب. والسرادق ما أحاط بالشيء، نحو الشقة في المضرب (الخيمة) أو الحائط المشتمل على الشيء.
(2) البيت في ديوان سلامة بن جندل السعدي التميمي (طبعة بيروت سنة 1910 ص 19) من قصيدة عدة أبياتها ثلاثون بيتا. قال أبو عمرو: كان كسرى حبس النعمان في بيت فيه ثلاثة فيول، والمسردق: ذو السرادق، أو الذي عليه سرادق. وقال أبو عبيدة في (مجاز القرآن 1: 399) بعد أن أورد البيت: أي له سرادق. اه. وفي (اللسان: سردق) وقد سردق البيت. قال سلامة بن جندل: (وأورد البيت) . ثم قال الجوهري: السرادق: واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف (قطن) فهو سرادق. قال رؤبة: يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود
قال: وقيل: الرجز للكذاب الحرمازي. ونسب الجوهري بيت سلامة بن جندل إلى الأعشى، وقال في سببه: يذكر ابن وبر وقتله النعمان بن المنذر. عن (لسان العرب: سردق) .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدلّ على أن معنى قوله (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) أحاط بهم ذلك في الدنيا، وأن ذلك السرادق هو البحر.
ذكر من قال ذلك: حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر، قالا ثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن أمية، قال: ثني محمد ابن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَحْرُ هو جَهَنَّمُ" قال: فقيل له: كيف ذلك، فتلا هذه الآية، أو قرأ هذه الآية: (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) ثم قال: والله لا أدْخُلُها أبَدًا أوْ ما دُمْتُ حَيًّا، ولا تُصِيبُني مِنْها قَطْرَة.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا رشدين بن سعد، قال: ثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً" .
حدثنا بشر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لِسُرَادِقِ النَّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً" .
حدثنا بشر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ماءٌ كالمُهْلِ" ، قال: "كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فإذا قَرَّبَهُ إليه سقط فَرْوَةُ وَجْهِه فِيهِ" .
وقوله: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) يقول تعالى ذكره: وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل.
واختلف أهل التأويل في المهل، فقال بعضهم: هو كلّ شيء أذيب وانماع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سِقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض، ثم قذف فيه من جزل حطب، ثم قذف فيه تلك السقاية، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه: ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا، فلما دخلوا عليه قال: أترون هذا؟ قالوا: نعم، قال: ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة، حين أزبد وانماع.
وقال آخرون: هو القيح والدم الأسود.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبي بَزَة، عن مجاهد في قوله: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) قال: القيح والدم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) قال: القيح والدم الأسود، كعكر الزيت، قال الحارث في حديثه: يعني درديه.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كالمُهْلِ) قال: يقول: أسود كهيئة الزيت.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ) قال: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال آخرون: هو الشيء الذي قد انتهى حرّه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال: المهل: هو الذي قد انتهى حرة.
وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعنى، وذلك
أن كل ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّه، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت، فقد انتهى أيضا حرّه.
وقد: حُدثت عن معمر بن المثنى، أنه قال: سمعت المنتجع بن نبهان يقول: والله لفلان أبغض إليّ من الطلياء (1) والمهل، قال: فقلنا له: وما هما؟ فقال: الجرباء، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار، كأنها سهلة (2) حمراء مدققة، فهي أحمره، فالمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره، أو لم يكن مائعا، فانماع بالوقود عليه، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ.
وقوله: (يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ) يقول جلّ ثناؤه: يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم.
كما حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر، هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) قال: يقرب إليه فيتكرّهه، فإذا قرب منه، شوى وجهه، ووقعت فَرْوة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، يقول الله: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب) .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني إبراهيم بن إسحاق الطالَقاني ويعمر بن بشر، قالا ثنا ابن المبارك، عن صفوان، عن عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال هارون: إذا جاع أهل النار، وقال جعفر: إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارا مار بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصبّ عليهم العطش، فيستغيثون، فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من
(1) يريد بالطلياء الناقة الجرباء المطلية بالقطران أو الخضخاض. ويريد بالمهل: الملة إذا حميت جدا ورأيتها تموج.
(2) السهلة، بالكسر، تراب كالرمل أحمر يجيء به الماء (اللسان)
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|