عرض مشاركة واحدة
  #983  
قديم 21-07-2025, 03:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثامن عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الكهف
الحلقة (983)
صــ 15 إلى صــ 25





أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
وقوله: (بِئْسَ الشَّرَابُ) يقول تعالى ذكره: بئس الشراب، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية.
وقوله: (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) يقول تعالى ذكره: وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا، والمرتفق في كلام العرب: المتكأ، يقال منه: ارتفقت إذا اتكأت، كما قال الشاعر:
قالَتْ لَهُ وارْتَفَقَتْ ألا فَتى ... يَسُوقُ بالقَوْمِ غَزَالاتِ الضُّحَى (1)
أراد: واتكأت على مرفقها، وقد ارتفق الرجل: إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم، وهو مرتفق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا ... كَأنَّ عَيْني فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ (2)
وأما من الرفق فإنه يقال: قد ارتفقت بك مرتفقا، وكان مجاهد يتأول قوله: (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) يعني المجتمع.
* ذكر الرواية بذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مُرْتَفَقا) : أي مجتمعا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا معتمر، عن ليث، عن مجاهد (وساءت مُرْتَفَقا) قال: مجتمعا.
(1)
هذان بيتان من مشطور الرجز، ذكرهما اللسان في: غزل. ورواية الأول منهما مختلفة عن رواية المؤلف، وهي: * دعت سليمى دعوة هل من فتى *

وفي رواية أخرى: * ودعوة القوم ألا هل من فتى *
وغزالة الضحى وغزالاته: بعد ما تنبسط الشمس وتضحى. ولا شاهد في البيت الأول على هاتين الروايتين.
(2)
البيت في ديوان أبي ذؤيب الهذلي طبع دار الكتب المصرية، (القسم الأول من ديوان الهذليين ص 104) وهو مطلع قصيدة له. وفيه "مشتجرا" في موضع "مرتفقا" ومشتجرا أي يشجر رأسه بيده، يريد أنه وضع رأسه على يديه، كما يشجر الثوب بالعود. وقال الأصمعي: الصاب: شجرة مرة لها لبن يمض العين إذا أصابها. ومذبوح: مشقوق. والذبح: الشق. ومرتفقا: واضعا مرفقه تحت رأسه. والبيت: من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1: 400) وأوله: "إني أرقت فبت. . ." . وقال: "ساءت مرتفقا" : أي متكئا. قال أبو ذؤيب. . . البيت.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله، ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب، وإنما الارتفاق: افتعال، إما من المرفق، وإما من الرفق.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملا فأطاع الله، واتبع أمره ونهيه، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
فإن قال قائل: وأين خَبَر "إن" الأولى؟ قيل: جائز أن يكون خبرها قوله: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا) فيكون معنى الكلام:
إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا، فترك الكلام الأوّل، واعتمد على الثاني بنية التكرير، كما قيل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) بمعنى: عن قتال فيه على التكرير، وكما قال الشاعر:
إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ اللهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبالَ مُلْك بِهِ تُرْجَى الخَواتِيمُ (1)
ويروى: تُرْخَى، وجائز أن يكون: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) جزاء، فيكون معنى الكلام: إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره، فتضمر الفاء في قوله "إنا" ، وجائز أن يكون خبرها: أولئك لهم جنات عدن، فيكون معنى الكلام: إن
(1)
في (اللسان: سربل) السربال: القميص والدرع. وفي حديث عثمان: "لا أخلع سربالا سربلنيه الله" كنى به عن الخلافة. واستشهد به المؤلف على أن التكرار في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ الآية، له نظير في قول الشاعر: "إن الخليفة إن الله سربله. . ." البيت. وقد بين وجهي الإعراب في المكرر. والبيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن: الورقة 185 من مصورة الجامعة) قال: خبر الذين آمنوا في قوله: إنا لا نضيع وهو مثل قول الشاعر: إن الخليفة. . . البيت، فإنه في المعنى: إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا. فترك الكلام الأول، واعتمد على الثاني، بنية التكرير. كما قال: "يسئلونك عن الشهر الحرام" ، ثم قال: قتال فيه "يريد: عن قتال فيه، بالتكرير ويكون أن تجعل" إن الذين آمنوا وعملوا "في مذهب جزاء، كقولك: إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره، فتضمر الفاء في قوله" فإنا "، وإلقاؤها جائز، وهو أحب الوجوه إلي."

الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم جنات عدن.
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) }
يقول تعالى ذكره: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتُ عدن، يعني بساتين إقامة في الآخرة، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ) يقول: تجري من دونهم ومن بين أيديهم الأنهار،
وقال جلّ ثناؤه: من تحتهم، ومعناه: من دونهم وبين أيديهم، (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ) يقول: يلبسون فيها من الحلي أساور من ذهب، والأساور: جمع إسوار.
وقوله: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ)
والسندس: جمع واحدها سندسة، وهي ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه وثخُن، وقيل: إن الإستبرق: هو الحرير، ومنه قول المُرقش:
تَرَهُنَّ يَلْبَسْنَ المَشاعِرَ مَرَّةٌ ... وإسْتَبْرَقَ الدّيباجِ طَوْرًا لِباسُها (1)
يعني: وغليظ الديباج.
وقوله: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ) يقول: متكئين في جنات عدن على الأرائك، وهي السرر في الحِجال، واحدتها: أريكة، ومنه قول الشاعر:
خُدُودا جَفَتْ في السَّيْرِ حتى كأنَّما ... يُبًاشرن بالمَعْزاءِ مَسّ الأرَائك (2)
ومنه قول الأعشي:
بينَ الّرَواق وجانِبِ مِن سِتْرها ... مِنْها وبين أرِيكَةِ الأنْضَادِ (3)
(1)
البيت للمرقش. المشاعر: جمع مشعر، وهو الشعار الذي يلي جسد الإنسان من الثياب، دون ما سواه. وفي الحديث ذكر الأنصار: هم الشعار دون الدثار، يصفهم بالمودة والقرب. وقد فسر المؤلف الإستبرق والديباج. والبيت شاهد على معنى الإستبراق.

(2)
البيت لذي الرمة (ديوانه طبع كيمبردج سنة 1919 ص 422) وقبله قوله: إذا وَقَعُوا وَهْنا كَسَوْا حَيْثُ مَوَّتَتْ ... مِنَ الجَهْدِ أنْفاسُ الرّياحِ الحَوَاشِكِ

وقوله خدودا: مفعول كسوا في البيت قبله. والمعزاء الأرض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك، هي الأسرة، الواحد سرير. أي صيروا المكان الذي ناموا فيه كسوة للخدود. وفي (اللسان. أرك) قال المفسرون: الأرائك: السرر في الحجال. وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال، وقيل هي الأسرة، وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال، أو في غير الحجال. وقيل: الأريكة، سرير منجد مزين في قبة أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة.
(3)
البيت لم أجده في ديوان الأعشى ميمون، ولا سائر أشعار العشى الملحقة به، إنما وجدت بيتين اثنين من وزنه وقافيته، ص 245 طبعة الدكتور محمد حسين بالقاهرة. ولم أجد غيرها. والرواق، بضم الراء المشددة وكسرها: الخيمة. والبيت شاهد كالذي قبله، على أن معنى الأرائك: السرر في الحجال، وأن واحدتها: أريكة. والأنضاد: جمع نضد بالتحريك، وهو ما نضد من متاع البيت، وجعل بعضه فوق بعض.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (عَلَى الأرَائِكِ) قال: هي الحجال. قال معمر، وقال غيره: السرر في الحجال.
وقوله: (نِعْمَ الثَّوَابُ) يقول: نعم الثواب جنات عدن، وما وصف جلّ ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلموا الصالحات (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) يقول: وحسنت هذه الأرائك في هذه الجنان التي وصف تعالى ذكره في هذه الآية متكأ. وقال جلّ ثناؤه: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) فأنث الفعل بمعنى: وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا، ولو ذكر لتذكير المرتفق كان صوابا، لأن نعم وبئس إنما تدخلهما العرب في الكلام لتدلا على المدح والذم لا للفعل، فلذلك تذكرهما مع المؤنث، وتوحِّدهما مع الاثنين والجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، (مَثَلا) مثل (رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ) أي جعلنا له بستانين من كروم (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) يقول: وأطفنا هذين البستانين بنخل. وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) يقول: وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا، وقوله: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) يقول: كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع. وقال: كلتا الجنتين، ثم قال: آتت، فوحَّد الخبر، لأن كلتا لا يفرد واحدتها، وأصله كلّ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية، قال بعض الرُّجاز في ذلك:
فِي كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلامي وَاحدَه ... كِلْتاهُما مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ (1)
يريد بكلت: كلتا، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد، وقوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) يقول: ولم تنقص من الأكل شيئا، بل آتت ذلك تاما كاملا ومنه قولهم: ظلم فلان فلانا حقَّه: إذا بخَسَهُ ونقصه، كما قال الشاعر:
تَظَّلَمَنِي مالي كَذَا وَلَوَى يَدِي ... لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غالِبُهْ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
(1)
البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 186 من مصورة الجامعة رقم 24059) قال: وقد تفرد العرب إحدى "كلي" (كتبها بالياء للإمالة) . وهو من شواهد النحويين على أن "كلت" أصلها "كلتا" ، حذفت ألفها للضرورة، وفتحة التاء دليل عليها (خزانة الأدب للبغدادي 1: 62) وقال: رأيت في حاشية الصحاح أن هذا البيت من رجز يصف به نعامة، فضمير رجليها عائد على النعامة. والسلامي: على وزن حباري عظم في فرسن البعير، وعظام صغار طول إصبع أو أقل في اليد والرجل. والجمع: سلاميات والفرسن: بمنزلة الحافر للفرس. والضمير في كلتاهما للرجلين. ثم قال: استدلالهم بهذا البيت على الإفراد يرده معناه، فإن المعنى على التثنية، بدليل تأكيده بالمصراع الثاني، فتأمل. وقال أبو حبان في تذكرته: هذا البيت من اضطرار الشعراء، وكلت ليس بواحد كلتا، بل هو جاء بمعنى كلا، غير أنه أسقط الألف اعتمادا على الكسرة التي قبلها على أنها تكفي من الألف الممالة إلى الياء؛ وما من الكوفيين أحد يقول: كلت واحدة كلتا، ولا يدعي أن لكلا وكلتا واحدا منفردا في النطق مستعملا، فإن ادعاه عليه مدع فهو تشنيع وتفحيش من الخصوم على قول خصومهم. انتهى.

(2)
البيت من أبيات تسعة لفرعون بن الأعراف في ابنه منازل (الحماسة بشرح التبريزي 4: 9) وأوله "تغمد حقي ظالما ولوى يدي" . وتغمد حقي؛ ستره. وهو في معنى: "تظلمني مالي" ولوى يدي: أي فتلها وأزالها عن حالها وهيئتها. وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1: 402) قال: "ولم تظلم منه شيئا" : ولم تنقص. ويقال: ظلمني فلان حقي، أي نقصني وقال رجل لابنه: "تظلمني مالي كذا. . . إلخ" .

ورواية البيت في اللسان: "تظلم مالي هكذا. . ." البيت. ولم ينسبه. وقال قبله: وظلمه حقه، وتظلمه إياه. يريد أنهما بمعنى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) : أي لم تنقص، منه شيئا.
وقوله: (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا) يقول تعالى ذكره:
وسيَّلنا خلال هذين البستانين نهرا، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا. وقيل: (وَفَجَّرْنَا) فثقل الجيم منه، لأن التفجير في النهر كله، وذلك أنه يميد ماء فيُسيل بعضه بعضا.
وقوله: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق: "وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" بضم الثاء والميم. واختلف قارئو ذلك كذلك، فقال بعضهم: كان له ذهب وفضة، وقالوا: ذلك هو الثمر، لأنها أموال مثمرة، يعني مكثرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) قال: ذهب وفضة، وفي قول الله عزّ وجل: (بِثُمُرِهِ) قال: هي أيضا ذهب وفضة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال:
ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله (ثَمَرٌ) قال: ذهب وفضة. قال: وقوله: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) هي هي أيضا.
وقال آخرون: بل عُنِي به: المال الكثير من صنوف الأموال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن هارون، عن سعيد بن أبي عِروبة، عن قتادة، قال: قرأها ابن عباس: "وكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" بالضمّ، وقال: يعني أنواع المال.
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وكانَ لَهُ ثُمُرٌ" يقول: مال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: "وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" يقول: من كلّ المال.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) قال: الثمر من المال كله يعني الثمر، وغيره من المال كله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: "الثُّمُر" المال كله، قال: وكلّ مال إذا اجتمع فهو ثُمُر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله.
وقال آخرون: بل عُنِي به الأصل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: "وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" الثمر الأصل، قال "وأُحِيطَ بثُمُرِهِ" قال: بأصله، وكأنّ الذين وجَّهوا معناها إلى أنها أنواع من المال، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر، كما يجمع الكتاب كتبا، والحمار حمرا، وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء في هذه القراءة "ثُمُرٌ" بضم الثاء وسكون الميم، وهو يريد الضمّ فيها، غير أنه سكنها طلب التخفيف، وقد يحتمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة، كما تجمع الخَشبة خَشَبا. وقرأ ذلك بعض المدنيين: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) بفتح الثاء والميم، بمعنى جمع الثمرة، كما تجمع الخشبة خشبا، والقصبة قَصبا.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ "وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ" بضمّ الثاء والميم لإجماع الحجة من القرّاء عليه وإن كانت جمع ثمار، كما الكتب جمع كتاب.
ومعنى الكلام: (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ) منهما "ثُمُرٌ" بمعنى من جنتيه أنواع من الثمار وقد بين ذلك لمن وفق لفهمه، قوله: (جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا
جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) ثم قال: وكان له من هذه الكروم والنخل والزرع ثمر.
وقوله: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) يقول عزّ وجلّ: فقال هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه:
(أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) يقول: وأعزّ عشيرة ورَهْطا، كما قال عُيينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن سادات العرب، وأرباب الأموال، فنحّ عنا سلمان وخبَّابا وصُهيبا، احتقارا لهم، وتكبرا عليهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) وتلك والله أمنية الفاجر: كثرة المال، وعزّة النفر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) }
يقول تعالى ذكره: هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب (دَخَلَ جَنَّتَهُ) وهي بستانه (وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) وظلمه نفسه: كفره بالبعث، وشكه في قيام الساعة، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى، فأوجب لها بذلك سخط الله وأليم عقابه، وقوله: (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) يقول جلّ ثناؤه: قال لما عاين جنته، ورآها وما فيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار المطردة شكا في المعاد إلى الله: ما أظنّ أن تبيد هذه الجنة أبدا، ولا تفنى ولا تَخْرب، وما أظنّ الساعة التي وعد الله خلقه الحشر فيها تقوم فتحدث، ثم تمنى أمنية أخرى على شكّ منه، فقال: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي) فرجعت إليه، وهو غير موقن أنه راجع إليه (لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) يقول: لأجدنّ خيرا من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعا ومردًا، يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) قال: شكّ، ثم قال: (وَلَئِنْ) كان ذلك ثم (رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) ما أعطاني هذه إلا ولي عنده خير من ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) كفور لنعم ربه، مكذّب بلقائه: متمنّ على الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) }
يقول تعالى ذكره: قال لصاحب الجنتين صاحبه الذي هو أقل منه مالا وولدا، (وهو يحاوره) : يقول: وهو يخاطبه ويكلمه: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ) يعني خلق أباك آدم من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يقول: ثم أنشأك من نطفة الرجل والمرأة، (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا) يقول: ثم عدلك بشرا سويا رجلا ذكرا لا أنثى، يقول: أكفرت بمن فعل بك هذا أن يعيدك خلقا جديدا بعد ما تصير رفاتا (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكن أنا هو الله ربي، معناه أنه يقول: ولكن أنا أقول: هو الله ربي (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) . وفي قراءة ذلك وجهان: أحدهما لكنّ هو الله ربي بتشديد النون وحذف الألف في حال الوصل، كما يقال: أنا قائم فتحذف الألف من أنا، وذلك قراءة عامة قراء أهل العراق. وأما في الوقف فإن القراءة كلها تثبت فيها الألف، لأن النون إنما شددت لاندغام النون من لكن، وهي ساكنة في النون التي من أنا، إذ سقطت الهمزة التي في أنا، فإذا وقف عليها ظهرت الألف التي في أنا، فقيل: لكنا، لأنه يقال في الوقف على أنا بإثبات الألف لا بإسقاطها. وقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز: (لَكِنَّا) بإثبات الألف في الوصل والوقف، وذلك وإن كان مما ينطق به في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:
أنا سَيْفُ العَشِيرَة فاعْرِفُونِي ... حميدا قد تذريت السناما (1)
فأثبت الألف في أنا، فليس ذلك بالفصيح من الكلام، والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقيين، وهو حذف الألف من "لكنّ" في الوصل، وإثباتها في الوقف.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) }
يقول عز ذكره: وهلا إذ دخلت بستانك، فأعجبك ما رأيت منه، قلت ما شاء الله كان، وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه، وهو جواب الجزاء، وذلك كان.
وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى الذي قلنا كانت "ما" نصبا بوقوع فعل الله عليه، وهو شاء، وجاز طرح الجواب، لأن معنى الكلام معروف، كما قيل: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض، وترك الجواب، إذ كان مفهوما معناه، وكان بعض أهل العربية يقول "ما" من قوله: (مَا شَاءَ اللَّهُ) في موضع رفع بإضمار هو، كأنه قيل: قلت هو ما شاء الله (لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) يقول: لا قوة على ما نحاول من طاعته إلا به.
وقوله: (إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا) وهو قول المؤمن الذي لا مال له، ولا عشيرة، مثل صاحب الجنتين وعشيرته،
(1)
البيت من شواهد النحويين، على أن ثبوت ألف "أنا" في الوصل عند غير بني تميم لا يكون إلا في ضرورة الشعر. (خزانة الأدب للبغدادي 2: 390) ثم قال: قال ابن جني في شرح تصريف المازني: أما الألف في "أنا" في الوقف فزائدة، ليست بأصل؛ ألا ترى أنك تقول في الوصل: أن زيد، كما قال تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ تكتب بألف بعد النون، وليست الألف في اللفظ، وإنما كتبت على الوقف، فصار سقوط الألف في الوصل، كسقوط الهاء التي تلحق في الوقف لبيان الحركة في الوصل وبينت الحركة بالألف كما بينت بالهاء، لأن الهاء مجاورة للألف. اهـ. و "حميدا" بدل من الياء في اعرفوني، يروى مصغرا ومكبرا. وفي الصحاح: " جميعا في موضع "حميدا" . وتذريت السنام: علوته. ونسب ياقوت هذا البيت في حاشية الصحاح إلى حميد بن بحدل، شاعر. وهو حميد بن حريث بن بحدل، من بني كلب بن وبرة، ينتهي نسبه إلى قضاعة. وهو شاعر إسلامي، كانت عمته ميسون بنت بحدل، أم يزيد بن معاوية."

وهو مثل سَلْمان وصُهَيب وخباب، يقول: قال المؤمن للكافر: إن ترن أيها الرجل أنا أقل منك مالا وولدا، فإذا جعلت أنا عمادا نصبت أقل، وبه القراءة عندنا، لأن عليه قراءة الأمصار، وإذا جعلته اسما رفعت أقل.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن الموقن للمعاد إلى الله للكافر المرتاب في قيام الساعة: إن ترن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالا وولدا في الدنيا، فعسى ربي أن يرزقني خيرا من بستانك هذا (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا) يعني على جنة الكافر التي قال لها: ما أظن أن تبيد هذه أبدا (حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) يقول: عذابا من السماء ترمي به رميا، وتقذف. والحسبان: جمع حُسْبانة، وهي المرامي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) عذابا.
حُدثت عن محمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: عذابا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) قال: عذابا، قال: الحُسبان: قضاء من الله يقضيه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الحُسبان: العذاب.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) قال: عذابا.
وقوله: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) يقول عز ذكره: فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فيها، قد ذهب كل ما فيها من غَرْس ونبت، وعادت




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]