عرض مشاركة واحدة
  #1030  
قديم 22-07-2025, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,363
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثامن عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الأنبياء
الحلقة (1030)
صــ 491 إلى صــ 500





له، قال: ربّ أقبل عليّ برحمتك، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت؟ أو لأيّ شيء صرفت وجهك الكريم عني، وجعلتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني، ليس يغيب عنك شيء تُحصي قَطْر الأمطار، وورق الأشجار، وذرّ التراب، أصبح جلدي كالثوب العفن، بأيه أمسكت سقط في يدي، فهب لي قُربانا من عندك، وفرجا من بلائي، بالقدرة التي تبعث موتى العباد، وتنشر بها ميت البلاد، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي، ولا تُفسد عمل يديك، وإن كنت غنيا عني، ليس ينبغي في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عَجَل، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإنما يعجل من يخاف الفوت، ولا تذكرني خطئي وذنوبي، اذكر كيف خلقتني من طين، فجُعِلت مضغة، ثم خلقت المضغة عظاما، وكسوت العظام لحما وجلدا، وجعلت العصب والعروق لذلك قَواما وشدة، وربَّيتني صغيرا، ورزقتني كبيرا، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك، فإن أخطأت فبين لي، ولا تهلكني غمًّا، وأعلمني ذنبي، فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذّبني، وإن كنت من بين خلقك تحصي عليّ عملي، وأستغفرك فلا تغفر لي، إن أحسنت لم أرفع رأسي، وإن أسأت لم تبلعني ريقي، ولم تُقِلني عثرتي، وقد ترى ضعفي تحتك، وتضرّعي لك، فلم خلقتني، أو لم أخرجتني من بطن أمي، لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك، وليس جسدي يقوم بعذابك، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض، وغمّ الموت.
قال صافر: قد تكلمت يا أيوب، وما يطيق أحد أن يحبس فمك، تزعم أنك بريء، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك، وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك، هل تعلم سَمْك السماء كم بُعده؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده؟ أم هل تعلم أيّ الأرض أعرضها؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به؟ أم هل تعلم أيّ البحر أعمقه؟ أم هل تعلم بأيّ شيء تحبسه؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه، فإن الله خلقه وهو يحصيه، لو تركت كثرة الحديث، وطلبت إلى ربك رجوتَ أن يرحمك، فبذلك تستخرج رحمته، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مُصِرّ على ذنبك إصرار الماء الجاري في صَبَب لا يستطاع إحباسه، فعند طلب الحاجات
إلى الرحمن تسودّ وجوه الأشرار، وتظلم عيونهم، وعند ذلك يسرّ بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم، وتقدّموا في التضرّع، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها، وهم الذين كابدوا الليل، واعتزلوا الفرش، وانتظروا الأسحار.
قال أيوب: أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يُوَقِّرونني، وأنا معروف حقي منتصف من خصمي، قاهر لمن هو اليوم يقهرني، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك، ولكنه يبكي معه، وإن كنت جادًّا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه، فسل طير السماء هل تخبرك، وسل وحوش الأرض هل تَرْجِع إليك؟ وسل سباع البرية هل تجيبك؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته، وهيأه بلطفه. أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه، وما طعم بفيه، وما شمّ بأنفه، وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه، له الحكمة والجبروت، وله العظمة واللطف، وله الجلال والقدرة، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يُفْصح؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه، وإن أذن لها ابتلعت الأرض، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبْهَت الملوك عند ملكه، وتطيش العلماء عند علمه، وتعيا الحكماء عند حكمته، ويخسأ المبطلون عند سلطانه، هو الذي يذكر المنسي، وينسى المذكور، ويجري الظلمات والنور، هذا علمي، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي.
قال بلدد: إن المنافق يجزى بما أسرّ من نفاقه، وتضلّ عنه العلانية التي خادع بها، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة، ويوحش سبيله، وتوقعه في الأحبولة سريرته، وينقطع اسمه من الأرض، فلا ذكر فيها ولا عمران، لا يرثه ولد مصلحون من بعده، ولا يبقى له أصل يعرف به، ويبهت من يراه، وتقف الأشعار عند ذكره.
قال أيوب: إن أكن غويا فعليّ غواي، وإن أكن بريا فأيّ منعة عندي، إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني، وإن سكتُّ فمن ذا الذي يَعْذرني، ذهب رجائي وانقضت أحلامي، وتنكرت لي معارفي؛ دعوت غلامي، فلم يجبني،
وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني، وقع عليّ البلاء فرفضوني، أنتم كنتم أشدّ عليّ من مصيبتي، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي، أما سمعتم بما أصابني، وما شغلكم عني ما رأيتم بي، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته، وألقاني هاهنا، وهنت عليه، لا هو عذرني بعذري، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه، ويراني ولا أراه، وهو محيط بي، ولو تجلى لي لذابت كليتاي، وصعق روحي، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي، ونزع الهيبة مني، علمت بأيّ ذنب عذّبني، نودي فقيل: يا أيوب، قال: لبيك، قال: أنا هذا قد دنوت منك، فقم فاشدد إزارك، وقم مقام جبار، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد، والسِّخال في فم العنقاء، واللحم في فم التنين، ويكيل مكيالا من النور، ويزن مثقالا من الريح، ويُصر صُرَّة من الشمس، ويردّ أمس لغد، لقد منَّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أيّ مرام رام بك، أردت أن تخاصمني بغيَّك؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك، أم أردت أن تكاثرني بضعفك، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أم كنت معي تمرّ بأطرافها؟ أم تعلم ما بُعد زواياها؟ أم على أيّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها، ولا يحملها دعائم من تحتها، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها، أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب، ونصبت شوامخ الجبال، هل لك من ذراع تطيق حملها، أم هل تدري كم مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزل من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب، وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود؟ أم من أي شيء لهب البروق؟ هل رأيت عمق البحور؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل؟ وأين طريق النور؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ وأين خزانة الريح، كيف تحبسه الأغلاق؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار، ومن ذلَّت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها، وعطَّفها على أفراخها، من أعتق الوحش من الخدمة، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات، ولا تهاب المسلطين، أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير، وأولاد الدّوابّ لأمهاتها؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها، وآثرتها بالعيش على نفوسها؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت (1) مكانه في منقطع التراب، والوتينان (2) يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤوسهما، كأنها آكام الحبال، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد، وكأن جلودهما فِلَق الصخور، وعظامهما كأنها عَمَد النحاس، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال، أأنت ملأت جلودهما لحما؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا؟ أم هل لك في خلقهما من شِرك؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما، أو تصدّهما عن قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت التّنين ورزقه في البحر، ومسكنه في السحاب، عيناه تَوَقَّدان نارا، ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونَفَسه يلتهب، وزبده كأمثال الصخور، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البرق، أسراره لا تدخله الهموم، تمرّ به الجيوش وهو متكئ، لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل [زُبَر] الحديد عنده مثل التين، والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع من النُّشاب، ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويضحك من النيازك، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرُّ به ملك الوحوش، وإياه آثرت بالقوّة على خلقي، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه، أو واضع اللجام في شدقه، أتظنه يوفي بعهدك، أو يسبح من خوفك؟ هل تحصي عمره، أم هل تدري أجله، أو تفوّت رزقه؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض؟ أم ماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى؟
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لي، ليت الأرض انشقت بي، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، اجتمع عليّ البلاء، إلهي حملتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك، وأعظم من هذا ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية، ولا تغيب عنك غائبة، مَنْ هذا الذي يظن أن يُسِرّ عنك سرّا، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا، فأمَّا الآن فهو بصر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلت فلن أعود، قد وضعت يديّ على فمي، وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدّي، ودست وجهي لصغاري، وسكت كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تبارك وتعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي، وبحلمي صرفت عنك غضبي، إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرِّب عن صحابتك قُربانا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليمانيّ، وغيره من أهل الكتب الأوَل، أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم، وكان الله قد اصطفاه ونبأه، وابتلاه
(1)
في الكتاب المقدس ص 831: "بهيموث" .

(2)
في الكتاب المقدس ص 381: "لوياثان" .

في الغنى بكثرة الولد والمال، وبسط عليه من الدنيا، فوسَّع عليه في الرزق، وكانت له البَشَنية من أرض الشأم، أعلاها وأسفلها، وسهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله، من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العِدة والكثرة، وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان برًّا تقيا رحيما بالمساكين، يطعم المساكين ويحمل الأرامل، ويكفل الأيتام، ويكرم الضيف، ويبلِّغ ابن السبيل، وكان شاكرا لأنعم الله عليه، مودّيا لحق الله في الغنى، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزّة والغفلة، والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه، وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه، منهم رجل من أهل اليمن يقال له: أليفز، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما: صوفر، وللآخر: بِلدد، وكانوا من بلاده كهولا وكان لإبليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كلّ سنة موقعا يسأل فيه، فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه، فقال الله له: أو قيل له عن الله: هل قدرت من أيوب عبدي على شيء؟ قال: أي ربّ وكيف أقدر منه على شيء؟ أو إنما ابتليتَه بالرخاء والنعمة والسعة والعافية، وأعطيته الأهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله، فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به، لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك، ولترك عبادتك، ولخرج من طاعتك إلى غيرها، أو كما قال عدوّ الله، فقال: قد سلطتك على أهله وماله، وكان الله هو أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء، وليجعله عبرة للصابرين، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به، وليرجوا من عاقبة الصبر في عَرَض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب، فانحطّ عدوّ الله سريعا، فجمع عفاريت الجنّ ومَرَدة الشياطين من جنوده، فقال: إني قد سُلّطت على أهل أيوب وماله، فماذا عليكم؟ فقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار، فلا أمرّ بشيء من ماله إلا أهلكته، قال: أنت وذاك، فخرج حتى أتى إبله، فأحرقها ورعاتَها جميعا، ثم جاء عدوّ الله أيوب في صورة قيِّمه عليها هو في مصلَّى فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري، فجئتك أخبرك بذلك، فعرفه أيوب، فقال: الحمد لله الذي هو أعطاها، وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزُّوان من الحبّ النقيّ، ثم انصرف عنه، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مرّ على آخره، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء، ووطَّن نفسه بالصبر على البلاء، حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده، وهم في قصر لهم معهم حَظياتهم، وخدّامهم، فتمثَّل ريحا عاصفا، فاحتمل القصر من نواحيه، فألقاه على أهله وولده، فشدخهم تحته، ثم أتاه في صورة قَهْرمانه عليهم، قد شدخ وجهه، فقال: يا أيوب قد أتت ريح عاصف، فاحتملت القصر من نواحيه، ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري، فجئتك أخبرك ذلك، فلم يجزع على شيء أصابه جزعه على أهله وولده، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه، ثم قال: ليت أمي لم تلدني، ولم أك شيئا، وسرّ بها عدوّ الله منه، فأصعد إلى السماء جَذِلا وراجع أيوب التوبة مما قال، فحمد الله، فسبقت توبته عدو الله إلى الله، فلما جاء وذكر ما صنع، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته، قال: أي ربّ فسلطني على جسده، قال: قد سلَّطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره، فأقبل إليه عدوّ الله وهو ساجد، فنفخ في جسده نفخة أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم، فحكّ بأظفاره حتى ذهبت، ثم بالفَخَّار والحجارة حتى تساقط لحمه، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام، عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل، ولم يخلص إلى شيء من حشو البطن، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث.
فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن ابن دينار، عن الحسن أنه كان يقول: مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية، قال وهب بن منبه: ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، ولا يقدر عدوّ الله منه على قليل ولا كثير مما يريد. فلما طال البلاء عليه وعليها، وسئمها الناس، وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه، قال وهب بن منبه: فحُدثت أنها التمست له يوما من الأيام تطعمه، فما وجدت شيئا حتى جزّت قَرْنا من رأسها فباعته برغيف. فأتته به
فعشته إياه، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين، حتى إن كان المارّ ليمرّ فيقول: لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمه، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وكان وهب بن منبه يقول: لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا، فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال ليس لها، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت نعم، قال: هل تعرفينني؟ قالت لا قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كلّ ما كان لكما من مال وولد، فإنه عندي، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه، قال: وقد سمعت أنه إنما قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي مما به من البلاء، والله أعلم، وأراد عدوّ الله أن يأتيه من قِبَلها، فرجعت إلى أيوب، فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: أو قد آتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة، فلما طال عليه البلاء، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدّقوه معهم فتى حديث السنّ، قد كان آمن به وصدّقه، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء، فأعظموا ذلك وفَظِعوا به، وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده، وذلك حين أراد الله أن يفرِّج عنه ما به، فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه، قال: أي ربّ لأيّ شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت عليّ البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، إلى: وكابدوا الليل، واعتزلوا الفراش، وانتظروا الأسحار، ثم زاد فيه: أولئك الآمنون الذي لا يخافون، ولا يهتمون ولا يحزنون، فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم؟
قال فتى حضرهم وسمع قولهم، ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه، وإنما قيَّضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم، فأراد الله أن يصغر به
إليهم أنفسهم وأن يسفِّه بصغره لهم أحلامهم، فلما تكلم تمادى في الكلام، فلم يزدد إلا حكما، وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وُعظوا أو ذُكِّروا، فقال: إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول، وكنتم أحقّ بالكلام وأولى به مني لحقّ أسنانكم، ولأنكم جرّبتم قبلي، ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم، وعرفتم ما لم أعرف، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحقّ والذِّمام أفضلُ من الذي وصفتم، هل تدرون أيها الكهول حقّ من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم، ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبيّ الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض، يومكم هذا اختاره الله لوحيه، واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوّته، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ أتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا أن أيوب غَيَّر الحقّ في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخِيْرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوّة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذُل أخاه عند البلاء، ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكن يرحمه ويبكي، معه ويستغفر له، ويحزن لحزنه، ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيّها الكهول في أنفسكم.
قال: ثم أقبل على أيوب صلى الله عليه وسلم فقال: وقد كان في عظمة الله وجلاله، وذكر الموت ما يقطع لسانك، ويكسر قلبك، وينسيك حججك، ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بَكَم؟ وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله، وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استَبَقوا إلى الله
بالأعمال الزاكية، يَعُدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ومع المقصِّرين والمفرِّطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون لله بالقليل، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون، متى ما رأيتهم يا أيوب.
قال أيوب: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم، فهنالك بغيتم وتعزّزتم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي، معروفا حقي، منتصفا من خصمي، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني، مهيبا مكاني، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي، ورفع حذري، وملَّني أهلي، وعقني أرحامي، وتنكرت لي معارفي، ورغب عني صديقي، وقطعني أصحابي، وكفرني أهل بيتي، وجُحِدَتْ حقوقي، ونُسِيت صنائعي، أصرخ فلا يُصْرِخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، وإن قضاءه هو الذي أذلني، وأقمأني وأخسأني، وأن سُلطانه، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، ثم كان ينبغي للعبد يحاجَّ عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني، ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده، أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه، ثم قيل له: يا أيوب، إن الله يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك، ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزارك، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل، إلى آخره، وزاد فيه: ورحمتي سبقت غضبي، فاركُض برجلك هذا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]