عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 22-07-2025, 04:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثامن عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الحج
الحلقة (1039)
صــ 581 إلى صــ 590





صلى الله عليه وسلم، وما ينزل عليه. وقال آخرون ممن قال "الهاء" التي في قوله: (يَنْصُرَهُ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم; معنى النصر هاهنا الرزق، فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام: من كان يظنّ أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا، ولن يعطيه. وذكروا سماعا من العرب: من ينصرني نصره الله، بمعنى: من يعطيني أعطاه الله، وحكوا أيضا سماعا منهم: نصر المطر أرض كذا: إذا جادها وأحياها.
واستشهد لذلك ببيت الفقعسيّ:
وإنَّكَ لا تُعْطِي امْرأً فَوْقَ حَظِّهِ ... ولا تَمْلِكُ الشَّقَّ الَّذِي الغَيْثُ ناصِرُهُ (1)
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا، فليربط حبلا في سقف ثم ليختنق به حتى يموت.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) قال: أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) والسبب: الحَبْل، والسماء: سقف البيت، فليعلق حبلا في سماء البيت ثم ليختنق (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن مطرف، عن أبي
(1)
البيت للفقعسي، كما قال المؤلف. والشاهد فيه قوله "الغيث ناصره" . قال في (اللسان: نصر) قال أبو حنيفة الدينوري الناصر والناصرة: ما جاء من مكان بعيد إلى الوادي، فنصر السيول. ونصر البلاد ينصرها أتاها. عن ابن الأعرابي، ونصرت أرض بني فلان أي أتيتها، ونصر الغيث الأرض نصرا: أغاثها وسقاها وأنبتها. قال: من كان أخطأه الربيع فإنما ... نصر الحجاز بغيث عبد الواحد

ونصر الغيث البلد: إذا أعانه على الخصب والنبات. وقال أبو عبيدة: نصرت البلاد: إذا مطرت فهي منصورة: أي ممطورة. ونصر القوم: إذا أغيثوا. وفي الحديث. "إن هذه السحابة تنصر أرض بني كعب" أي تمطرهم.
إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميميّ، عن ابن عباس: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) قال: سماء البيت.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت التميميّ، يقول: سألت ابن عباس، فذكر مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبى، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) ... إلى قوله: (مَا يَغِيظُ) قال: السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به، قال: فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله!
وقال آخرون: الهاء في ينصره من ذكر "مَنْ" . وقالوا: معنى الكلام: من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ، أنه لا يرزق!
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث (1) ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) قال: يرزقه الله. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) قال: بحبل (إِلَى السَّمَاءِ) سماء ما فوقك (ثُمَّ لِيَقْطَعْ) ليختنق، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) يرزقه الله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) قال: بحبل إلى السماء.
قال ابن جُرَيج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس، قال: (إِلَى السَّمَاءِ) إلى سماء البيت. قال ابن جُرَيج: وقال مجاهد: (ثُمَّ لِيَقْطَعْ) قال: ليختنق، وذلك كيده (مَا يَغِيظُ) قال: ذلك خنقه أن لا يرزقه الله.
(1)
في السند اختصار لعله من الناسخ.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) يعني: بحبل (إِلَى السَّمَاءِ) يعني: سماء البيت.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عطية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: سُئل عكرِمة عن قوله: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) قال: سماء البيت. (ثُمَّ لِيَقْطَعْ) قال: يختنق.
وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره، ذكر قومًا يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه، وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فيها، ثم أتبع ذلك هذه الآية، فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين، أو على شكهم فيه نفاقهم، استبطاء منهم السعة في العيش، أو السبوغ في الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم، فمعنى الكلام إذن، إذ كان كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا، فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سَني عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه: إما سقف بيت، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله، فاستعجل انكشاف ذلك عنه، فلينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ، فإن لم يذهب ذلك غيظه؛ حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يُؤَخِّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته، ولا يعجَّل قبل حينه، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان، تباطئوا عن الإسلام، وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يُرَوُّوننا، فقال الله تبارك وتعالى لهم: من استعجل من الله نصر محمد، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه، هل هو مُذْهِبٌ غيظه؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدّم نصره قبل حينه.
واختلف أهل العربية في "ما" التي في قوله: (مَا يَغِيظُ) فقال بعض نحوييِّ البصرة هي بمعنى الذي، وقال: معنى الكلام: هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه، قال: وحذفت الهاء لأنها صلة الذي، لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخفّ. وقال غيره: بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء، هل يذهبنّ كيده غيظه.
وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) يقول تعالى ذكره: وكما بيَّنت لكم حُججي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه، فأوضحتها أيها الناس، كذلك أنزلنا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بيِّنات، يعني دلالات واضحات، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحقّ (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يقول جلّ ثناؤه: ولأن الله يوفق للصواب ولسبيل الحقّ من أراد، أنزل هذا القرآن آيات بيِّنات، فأن في موضع نصب.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) }
يقول تعالى ذكره: إن الفصل بين هؤلاء المنافقين الذين يعبدون الله على حرف، والذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام، والذين هادوا، وهم اليهود والصابئين والنصارى والمجوس الذي عظموا النيران وخدموها، وبين الذين آمنوا بالله ورسله إلى الله، وسيفصل بينهم يوم القيامة بعدل من القضاء وفصله بينهم إدخاله النار الأحزاب كلهم والجنة المؤمنين به وبرسله، فذلك هو الفصل من الله بينهم.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون للقبلة، ويقرءون الزبور. والمجوس: يعبدون الشمس والقمر
والنيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. وأدخلت "إن" في خبر "إن" الأولى لما ذكرت من المعنى، وأن الكلام بمعنى الجزاء، كأنه قيل: من كان على دين من هذه الأديان، ففصل ما بينه وبين من خالفه على الله والعرب تدخل أحيانا في خبر "إن" "إن" إذا كان خبر الاسم الأوّل في اسم مضاف إلى ذكره، فتقول: إن عبد الله إن الخير عنده لكثير، كما قال الشاعر.
إنَّ الخَلِيفَةَ إن اللهَ سَرْبَلَهُ ... سِرْبالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الخَوَاتِيمُ (1)
وكان الفرّاء يقول: من قال هذا لم يقل: إنك إنك قائم، ولا إن إياك إنه قائم، لأن الاسمين قد اختلفا، فحسن رفض الأوّل، وجعل الثاني كأنه هو المبتدأ، فحسن للاختلاف وقبح للاتفاق.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقول: إن الله على كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه، وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفى عنه شيء من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}
(1)
البيت لجرير (ديوانه طبعة الصاوي، ص 527) وهو من قصيدة يمدح بها بعض بني مروان وفي روايته: "يكفي" في موضع "إن" الأولى. وتزجى، في موضع ترجى. قال شارح شواهد الكشاف: خاتم الشيء: عاقبته. وتزجى أي تساق خواتيم الإمارة، والخاتم بفتح التاء وكسرها، يقال أزجيت الإبل أي سقتها. والبيت شاهد عند قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين. . . . . إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أدخلت إن على كل واحد من جزأي الجملة، لزيادة التأكيد. وحسن دخول إن الثانية على الجملة الواقعة خبرا، طول الفصل بينهما بالمعاطيف. والمؤلف ساق البيت شاهدا على أنه نظير ما في الآية من دخول إن الثانية على جملة الخبر إذا كان فيه ضمير. ويجوز في البيت وجه آخر، وهو أن تكون جملة إن الله سربله سربال ملك، جملة معترضة بين اسم إن وخبرها، ولا يجوز ذلك في الآية، قاله أبو حيان، ونقله عن شارح شواهد الكشاف. أه. والسربال: القميص والدرع. والمراد هنا الأول.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال، والشجر، والدوابّ في الأرض، وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس، وحين تزول، إذا تحولّ ظلّ كل شيء فهو سجوده.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) قال: ظلال هذا كله.
وأما سجود الشمس والقمر والنجوم، فإنه كما حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر، قالا ثنا عوف، قال: سمعت أبا العالية الرياحي يقول: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين، وزاد محمد: حتى يرجع إلى مطلعه.
وقوله: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يقول: ويسجد كثير من بني آدم، وهم المؤمنون بالله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) قال: المؤمنون. وقوله: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) يقول تعالى ذكره: وكثير من بني آدم حقّ عليه عذاب الله، فوجب عليه بكفره به، وهو مع ذلك يسجد لله ظله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) وهو يسجد مع ظله، فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد، وقع قوله (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) بالعطف على قوله (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ويكون داخلا في عداد من وصفه الله بالسجود له، ويكون قوله (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) من صلة كثير، ولو كان "الكثير الثاني من لم يدخل في عداد من وصف بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله: (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) وكان معنى الكلام حينئذ: وكثير أبى السجود، لأن"
قوله (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) يدلّ على معصية الله وإبائه السجود، فاستحقّ بذلك العذاب.
"18"
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (17) }
يقول تعالى ذكره: ومن يهنه الله من خلقه فَيُشْقِه، (فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) بالسعادة يسعده بها، لأن الأمور كلها بيد الله، يوفِّق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء، ويُشقي من أراد، ويسعد من أحبّ.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) يقول تعالى ذكره: إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد كرامته، لأن الخلق خلقه والأمر أمره، (لا يسئل عما يفعل وهم يسألون) . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه (فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ) بمعنى: فما له من إكرام، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه.
القول في تأويل قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله، فقال بعضهم: أحد الفريقين: أهل الإيمان، والفريق الآخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا
أبو هاشم عن أبي مجلز، عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يُقْسم قَسَما أن هذه الآية (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، قال: وقال علىّ: إني لأوّل، أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسما: لنزلت هذه الآية في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) . .. إلى آخر الآية (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذرّ يقسم، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن محبب، قال: ثنا سفيان، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، قال: نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت هؤلاء الآيات: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. إلى قوله (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) .
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي هاشم، عن أبي مُجَلِّز، عن قيس بن عباد، قال: والله لأنزلت هذه الآية: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر: حمزة، وعليّ، وعبيدة رحمة الله عليهم، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة.
وقال آخرون: ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان، بل الفريق الآخر أهل
الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال: هم أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم في ربهم.
وقال آخرون منهم: بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا أبو تُمَيلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعطاء بن أبي رَباح، وأبي قزعة، عن الحسين، قال: هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم.
قال ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: مثل الكافر والمؤمن. قال ابن جُرَيج: خصومتهم التي اختصموا في ربهم، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال: أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل، قال: جعل الشرك ملة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال: مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث.
وقال آخرون: الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية: الجنة والنار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة في (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال: هما الجنة والنار اختصمتا، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة:
خلقني الله لرحمته، فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين، وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حقّ عليه العذاب، فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ثم قال: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما، فقال: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) وقال الله (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ; فكان بيِّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ إنَّ ذَلكَ نزل في الذين بارزوا يوم بدر؟ قيل: ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم.
فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه.
وقوله: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) يقول تعالى ذكره: فأما الكافر بالله منهما فانه يقطع له قميص من نحاس من نار.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) قال: الكافر قطعت له ثياب من نار، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]