عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 22-07-2025, 10:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المؤمنون
الحلقة (1052)
صــ 21 إلى صــ 30





(لَكُمْ فِيهَا) يقول: لكم في الجنات فواكه كثيرة. (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) يقول: ومن الفواكه تأكلون، وقد يجوز أن تكون الهاء والألف من ذكر الجنات، ويحتمل أن تكون من ذكر النخيل والأعناب. وخصّ جل ثناؤه الجنات التي ذكرها في هذا الموضع، فوصفها بأنها من نخيل وأعناب، دون وصفها بسائر ثمار الأرض; لأن هذين النوعين من الثمار كانا هما أعظم ثمار الحجاز وما قرب منها، فكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف، فذكَّر القوم بما يعرفون من نعمة الله عليهم، بما أنعم به عليهم من ثمارها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (20) }
يقول تعالى ذكره: وأنشأنا لكم أيضا شجرة تخرج من طور سيناء وشجرة منصوبة عطفا على الجنات ويعني بها: شجرة الزيتون.
وقوله: (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) يقول: تخرج من جبل ينبت الأشجار.
وقد بيَّنت معنى الطور فيما مضى بشواهده، واختلاف المختلفين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: (سَيْنَاءَ) فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (سِيناء) بكسر السين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (سَيْنَاءَ) بفتح السين، وهما جميعا مجمعون على مدّها.
والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار، بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: المبارك، كأن معنى الكلام عنده: وشجرة تخرج من جبل مبارك.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (طُورِ سَيْنَاءَ) قال: المبارك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) قال: هو جبل بالشام مبارك.
وقال آخرون: معناه: حسن.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (طُورِ سَيْنَاءَ) قال: هو جبل حسن.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) الطور: الجبل بالنبطية، وسيناء، حسنة بالنبطية.
وقال آخرون: هو اسم جبل معروف.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، في قوله: (مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) قال: الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (طُورِ سَيْنَاءَ) قال: هو جبل الطور الذي بالشام، جبل ببيت المقدس، قال: ممدود، هو بين مصر وبين أيلة.
وقال آخرون: معناه: أنه جبل ذو شجر.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عمن قاله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن سيناء اسم أضيف إليه الطور يعرف به، كما قيل: جبلا طيئ، فأضيفا إلى طيئ، ولو كان القول في ذلك كما قال من قال: معناه: جبل مبارك، أو كما قال من قال: معناه حسن، لكان الطور منوّنا، وكان قوله سيناء من نعته، على أن سيناء بمعنى: مبارك وحسن، غير معروف في كلام العرب، فيجعل ذلك من نعت الجبل، ولكن القول في ذلك إن شاء الله كما قال ابن عباس، من أنه جبل عرف بذلك، وأنه الحبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك مبارك، لا أن معنى سيناء: معنى مبارك.
وقوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (تُنْبِتُ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار: (تَنْبُت) بفتح التاء، بمعنى: تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن، وقرأه بعض قرّاء البصرة: (تُنْبِت) بضم التاء، بمعنى تنبت الدهن، تخرجه. وذكر أنها في قراءة عبد الله: (تُخْرجُ الدُّهْن) وقالوا: الباء في هذا الموضع زائدة كما قيل: أخذت ثوبه، وأخذت بثوبه، وكما قال الراجز:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أرْبابُ الفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالبيضِ وَنَرْجُو بالفَرَج (1)
بمعنى: ونرجو الفرج. والقول عندي في ذلك أنهما لغتان: نبت، وأنبت; ومن أنبت قول زهير:
رأيْتَ ذوي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... قَطِينا لَهُمْ حتى إذا أنْبَتَ البَقْلُ (2)
ويروى: نبت، وهو كقوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) و "فاسر" ، غير أن ذلك وإن كان
(1)
البيت لنابغة بني جعدة (خزانة الأدب للبغدادي 4: 160) والفلج في الأصل النهر الصغير، والماء الجاري. والمراد في البيت: موضع في أعلى بلاد قيس. ويروى (نضرب بالسيف) . والبيض: جمع أبيض، وهو السيف. والبيت شاهد على زيادة الباء في قوله بالفرج، أي ونرجو الفرج. وهي زائدة في المفعول به سماعًا. قال ابن عصفور في الضرائر: زيادة الباء هنا: ضرورة. وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب لابن قتيبة: إنما عدى الرجاء بالباء، لأنه بمعنى الطمع يتعدى بالباء، كقولك: طمعت بكذا. قال الشاعر: طَمِعْتُ بِلَيْلَى أنْ تجُودَ وَإِنَّمَا ... تُقَطِّعُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ المَطَامِعُ

وبنو جعدة يروى بالرفع على أنه خبر نحن، وبالنصب على الاختصاص، والخبر: أرباب. اهـ.
(2)
البيت في (اللسان نبت) قال: ونبت البقل وأنبت بمعنى، وأنشد لزهير بن أبي سلمى: إذَا السَّنَةُ الشَّهْبَاءُ بِالنَّاسِ أجْحَفَتْ ... وَنَالَ كِرَامَ النَّاسِ فِي الحَجْرةِ الأَكلُ

ثم قال: يعني بالشهباء البيضاء من الجدب، لأنها تبيض بالثلج أو عدم النبت. والحجرة السنة الشديدة التي تحجر الناس في بيوتهم، فينحروا كرائم إبلهم ليأكلوها. والقطين: الحشم، وسكان الدار. وأجحفت أضرت بهم، وأهلكت أموالهم. قال: ونبت وأنبت: مثل قولهم مطرت السماء وأمطرت. وقال في قوله تعالى: {تنبت بالدهن} قرأ ابن كثير وأبو عمرو الحضرمي: {تنبت} بضم في التاء، وكسر الباء. وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: بفتح التاء. وقال الفراء: هما لغتان: نبتت الأرض وأنبتت، قال ابن سيده: أما تنبت (بضم التاء) فذهب كثير من الناس إلى أن معناه: تنبت الدهن، أي شجر الدهن، أو حب الدهن، وأن الباء فيه زائدة، وكذلك قول عنترة "شربت بماء الدحرضين ... البيت" قالوا: أراد شربت ماء الدحرضين. قال: وهذا عند حذاق أصحابنا على غير وجه الزيادة، وإنما تأويله والله أعلم: تنبت ما تنبته والدهن فيها، كما تقول: خرج زيد بثيابه عليه؛ وركب الأمير بسيفه، أي وسيفه معه. اهـ.
كذلك، فإن القراءة التي لا أختار غيرها في ذلك قراءة من قرأ: (تَنْبُت) بفتح التاء؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليها. ومعنى ذلك: تَنْبُت هذه الشجرة بثمر الدهن.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) قال: بثمره.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
والدهن الذي هو من ثمره الزيت، كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) يقول: هو الزيت يوكل، ويدهن به.
وقوله: (وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ) يقول: تنبت بالدهن وبصبغ للآكلين، يصطبغ بالزيت الذين يأكلونه.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ) قال: هذا الزيتون صبغ للآكلين، يأتدمون به، ويصطبغون به.
قال أبو جعفر: فالصبغ عطف على الدهن.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره: (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها الناس (فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً) تعتبرون بها، فتعرفون بها أيادي الله عندكم، وقدرته على ما يشاء، وأنه الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يعجزه شيء شاءه (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا) من اللبن الخارج من بين الفرث والدم، (وَلَكُمْ) مع ذلك
(فِيهَا) يعني في الأنعام (مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ) وذلك كالإبل التي يُحمل عليها، ويُركب ظهرها، ويُشرب درّها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) يعني من لحومها تأكلون. وقوله: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) يقول: وعلى الأنعام، وعلى السفن تحملون على هذه في البر، وعلى هذه في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) داعيهم إلى طاعتنا وتوحيدنا، والبراءة من كل معبود سوانا، (فَقَالَ) لهم نوح (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) يقول: قال لهم: ذلوا يا قوم لله بالطاعة (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) يقول: ما لكم من معبود يجوز لكم أن تعبدوه غيره، (أَفَلا تَتَّقُونَ) يقول: أفلا تخشون بعبادتكم غيره عقابه أن يحلّ بكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) }
يقول تعالى ذكره: فقالت جماعة أشراف قوم نوح، الذين جحدوا توحيد الله، وكذبوه لقومهم: ما نوح أيها القوم إلا بشر مثلكم، إنما هو إنسان مثلكم وكبعضكم (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) يقول: يريد أن يصير له الفضل عليكم، فيكون متبوعا وأنتم له تبع (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً) يقول: ولو شاء الله أن لا نعبد شيئًا سواه؛ لأنزل ملائكة، يقول: لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدّي إليكم رسالته. وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا) الذي يدعونا إليه نوح، من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية، وهي آباؤهم الأولون.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) }
يعني تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملأ الذين كفروا من قوم نوح: (إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ
بِهِ جِنَّةٌ) ما نوح إلا رجل به جنون. وقد يقال أيضا للجنّ: جنة، فيتفق الاسم والمصدر، وهو من قوله: (إِنْ هُوَ) كناية اسم نوح. وقوله: (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) يقول: فتلبثوا به، وتنظروا به حتى حين، يقول: إلى وقت مَّا، ولم يَعْنُوا بذلك وقتا معلوما، إنما هو كقول القائل: دعه إلى يوم مَّا، أو إلى وقت مَّا، وقوله: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) يقول: قال نوح داعيا ربه، مستنصرا به على قومه؛ لما طال أمره وأمرهم، وتمادوا في غيهم: (رَبِّ انْصُرْنِي) على قومي (بِمَا كَذَّبُونِ) يعني بتكذيبهم إياي، فيما بلَّغتُهم من رسالتك، ودعوتهم إليه من توحيدك. وقوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنِا وَوَحْيِنَا) يقول: فقلنا له حين استنصرنَا على كَفَرة قومه: اصنع الفلك، وهي السفينة؛ بأعيننا، يقول: بمرأى منا، ومنظر، ووحينا، يقول: وبتعليمنا إياك صنعتها، (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) يقول: فإذا جاء قضاؤنا في قومك، بعذابهم وهلاكهم (وَفَارَ التَّنُّورُ) .
وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف المختلفين في صفة فور التنور. والصواب عندنا من القول فيه بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يقول: فادخل في الفلك واحمل. والهاء والألف في قوله: (فِيهَا) من ذكر الفلك (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يقال: سلكته في كذا، وأسلكته فيه، ومن سلكته قول الشاعر:
وكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ (1)
وبعضهم يقول: أسلكت بالألف، ومنه قول الهُذَلي.
حتى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ ... شَلا كمَا تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّردَا (2)
(1)
البيت لعدي بن زيد العبادي (انظر شرحنا له في ص 82 من الجزء الثاني عشر من هذا التفسير، وقد استشهد به المؤلف هناك عند قوله تعالى {وقال هذا يوم عصيب) أي شديد واستشهد به هنا على أنه يقال: سلكته في كذا بمعنى أدخلته فيه وأسلكته فيه، والبيت شاهد على الأول. قال في اللسان (اللسان: سلك) والسلك، بالفتح: مصدر سلكت الشيء في الشيء، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل. قال عدي بن زيد: "وكنت لزاز" كما استشهد به المؤلف مرة أخرى في (14: 9) من هذه الطبعة عند قوله تعالى: كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} فراجعه ثمة.

(2)
البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي (اللسان: سلك) . قال: وسلك المكان يسلكه سلكًا وسلوكًا، وسلكه غيره (بنصب غير) وفيه، وأسلكه إياه، وفيه، وعليه (بمعنى أدخله فيه) قال عبد مناف بن ربع الهذلي: "حتى إذا أسلكوهم ... البيت" . وقد سبق استشهاد المؤلف بالبيت في ص 9 من الجزء الرابع عشر من هذه الطبعة) عند قوله تعالى: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} فراجعه ثمة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يقول لنوح: اجعل في السفينة من كل زوجين اثنين (وَأَهْلَكَ) وهم ولده ونساؤهم (إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) من الله بأنه هالك، فيمن يهلك من قومك، فلا تحمله معك، وهو يام الذي غرق.
ويعني بقوله: (مِنْهُمْ) من أهلك، والهاء والميم في قوله (منهم) من ذكر الأهل.
وقوله: (وَلا تُخَاطِبْنِي) الآية، يقول: ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم.
(إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) يقول: فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) فإذا اعتدلت في السفينة أنت ومن معك، ممن حملته معك من أهلك، راكبا فيها عاليا فوقها (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني من المشركين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) }
يقول تعالى ذكره لنبيه نوح عليه السلام: وقل إذا سلمك الله، وأخرجك من الفلك، فنزلت عنها: (رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا) من الأرض (مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ) من أنزل عباده المنازل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (مُنزلا مُبَارَكًا) قال: لنوح حين نزل من السفينة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن
مجاهد، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: (رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا) بضم الميم وفتح الزاي، بمعنى: أنزلني إنزالا مباركا. وقرأه عاصم (مَنزلا) بفتح الميم وكسر الزاي. بمعنى: أنزلني مكانًا مباركًا وموضعا.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ) يقول تعالى ذكره: إن فيما فعلنا بقوم نوح يا محمد، من إهلاكناهم إذ كذبوا رسلنا، وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام- لعبرا لقومك من مشركي قريش، وعظات وحُجَجا لنا، يستدلون بها على سنتنا في أمثالهم، فينزجروا عن كفرهم، ويرتدعوا عن تكذيبك، حذرا أن يصيبهم مثل الذي أصابهم من العذاب.
وقوله: (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) يقول تعالى ذكره: وكنا مختبريهم بتذكيرنا إياهم بآياتنا، لننظر ما هم عاملون قبل نزول عقوبتنا بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره: ثم أحدثنا من بعد مَهْلِك قوم نوح، قرنا آخرين، فأوجدناهم (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ) داعيا لهم، (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) يا قوم، وأطيعوه دون الآلهة والأصنام، فإن العبادة لا تنبغي إلا له (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) يقول: ما لكم من معبود يصلح أن تعبدوا سواه (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم شيئا دونه، وهو الإله الذي لا إله لكم سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره: وقالت الأشراف من قوم الرسول الذي أرسلنا بعد نوح، وعَنَى بالرسول في هذا الموضع: صالحًا، وبقومه: ثمود. (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ) يقول: الذين جحدوا توحيد الله، وكذبوا بلقاء الآخرة، يعني، كذّبوا بلقاء الله في الآخرة. وقوله: (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول: ونعَّمناهم في حياتهم الدنيا بما وسَّعنا عليهم
من المعاش، وبسطنا لهم من الرزق، حتى بَطِرُوا وعَتوْا على ربهم، وكفروا، ومنه قول الراجز:
وَقَدْ أُرَانِي بِالدِّيَارِ مُتْرَفا (1)
وقوله: (مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يقول: قالوا: بعث الله صالحا إلينا رسولا من بيننا، وخصه بالرسالة دوننا، وهو إنسان مثلنا، يأكل مما نأكل منه من الطعام، ويشرب مما نشرب، وكيف لم يرسل ملكا من عنده يبلغنا رسالته، قال: (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) معناه: مما تشربون منه، فحذف من الكلام "منه" ؛ لأن معنى الكلام: ويشرب من شرابكم، وذلك أن العرب تقول: شربت من شرابك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره، مخبرا عن قيل الملأ من قوم صالح لقومهم: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ) فاتبعتموه، وقبلتم ما يقول وصدّقتموه. (إِنَّكُمْ) أيها القوم (إِذًا لَخَاسِرُونَ) يقول: قالوا: إنكم إذن لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة في الدنيا، باتباعكم إياه.
قوله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا) الآية، يقول تعالى ذكره: قالوا لهم: أيعدكم صالح أنكم إذا متم وكنتم ترابًا في قبوركم، وعظاما قد ذهبت لحوم أجسادكم، وبقيت عظامها - أنكم مخرجون من قبوركم أحياء، كما كنتم قبل مماتكم؟ وأعيدت (أنكم) مرّتين، والمعنى: أيعدكم أنكم إذا متم، وكنتم ترابًا وعظامًا - مخرجون مرة واحدة، لما فرق بين (أنكم) الأولى، وبين خبرها بإذا، وكذلك تفعل العرب بكل اسم أوقعت عليه الظنّ وأخواته، ثم اعترضت بالجزاء دون خبره، فتكرّر اسمه مرّة وتحذفه أخرى، فتقول: أظن أنك إن جالستنا أنك محسن، فإن حذفت أنك الأولى أو الثانية صلح، وإن أثبتهما صلح، وإن لم تعترض بينهما بشيء لم يجز خطأ أن يقال: أظنّ أنك أنك جالس، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ) .
(1)
البيت للعجاج (أراجيز العرب للسيد محمد توفيق البكري ص 19) قال في شرحه له: وقد أراني أي قد كنت أرني. والمترف من الترف، وهو النعيم والرفه. وفي (اللسان: ترف) : والمترف: المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهوتها. ورجل مترف، ومترف كمعظم: موسع عليه. وترف الرجل وأترفه: دلّله وملكه. وقوله تعالى {إلا قال مترفوها} : أي أولوا الترف وأراد رؤساءها وقادة الشر منها.

القول في تأويل قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) }
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول الملأ من ثمود أنهم قالوا: هيهات هيهات: أي بعيد ما توعدون أيه القوم، من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما مخرجون أحياءً من قبوركم، يقولون: ذلك غير كائن.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ) يقول: بعيد بعيد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) قال: يعني البعث. والعرب تُدخل اللام مع هيهات في الاسم الذي يصحبها وتنزعها منه، تقول: هيهات لك هيهات، وهيهاتَ ما تبتغي هيهات; وإذا أسقطت اللام رفعت الاسم بمعنى هيهات، كأنه قال: بعيد ما ينبغي لك; كما قال جرير:
فَهَيْهَاتَ هَيْهَات العَقِيقُ وَمَنْ بِهِ ... وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالْعَقِيقِ نُواصِلُهْ (1)
كأنه قال: العقيق وأهله، وإنما أدخلت اللام مع هيهات في الاسم، لأنهم قالوا: هيهات أداة غير مأخوذة من فعل، فأدخلوا معها في الاسم اللام، كما أدخلوها مع هلمّ
(1)
البيت لجرير بن عطية الخطفي (لسان العرب: هيه) . والرواية فيه: "العقيق وأهله" وفي الديوان (طبعة الصاوي ص479) . فأيهاتَ أيهاتَ العَقِيقُ وَمَنْ بِهِ ... وأيهاتَ وَصْلٍّ بالعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ

وهو من قصيدة يجيب بها الفرزدق. والعقيق: واد لبنى كلاب، نقله البكري في معجم ما استعجم، عن عمارة بن عقيل، وهيهات وأيهات: كلمة معناها البعد، وقيل هيهات كلمة تبعيد قال جرير: "فهيهات ..." البيت. والتاء مفتوحة مثل كيف، وأصلها هاء، وناس يكسرونها على كل حال، قال حميد الأرقط يصف إبلا قطعت بلادًا حتى صارت في القفار: هَيْهاتَ مَنْ مُصْبَحُهَا هيهات ... هَيْهَات حَجْرٌ مِنْ صُنَيْبِعَاتِ
وقال الفراء: نصب هيهات بمنزلة نصب ربة وثمة، وأنشد: مَاوِيَّ يا رُبَّتَما غَارَةٍ ... شَعْوَاءَ كاللَّذْعَةِ بِالمِيسَمِ




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]