عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 23-07-2025, 02:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النور
الحلقة (1069)
صــ 191 لى صــ 200





عني به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فيها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يقول: يتلى فيها كتابه. وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك؛ لأن تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله، غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه، فلذلك اخترنا القول به.
وقول: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار (يُسَبِّحُ لَهُ) بضم الياء وكسر الباء، بمعنى يصلي له فيها رجال، ويجعل يسبح فعلا للرجال، وخبرا عنهم، وترفع به الرجال، سوى عاصم وابن عامر، فإنهما قرأا ذلك: "يُسَبَّحُ لَهُ" بضمّ الياء وفتح الباء، على ما لم يسمّ فاعله، ثم يرفعان الرجال بخبر ثان مضمر، كأنهما أرادا: يُسَبَّحُ الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع، فسبَّح له رجال، فرفعا الرجال بفعل مضمر، والقراءة التي هي أولاهما بالصواب، قراءة من كسر الباء، وجعله خبرا للرجال وفعلا لهم. وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت، لا يتمّ إلا بقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) ، فأما والخبر عنها دون ذلك تامّ، فلا وجه لتوجيه قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ) إلى غيره أي (1) غير الخبر عن الرجال. وعني بقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) يصلي له في هذه البيوت بالغُدُوات والعشيات رجال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن سفيان، عن عمار الدهني (2) عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة.
حدثني عليّ، قال ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) يقول: يصلي له فيها بالغداة والعشيّ،
(1)
في الأصل: إلى غير. ولعله تحريف.

(2)
هو عمار بن معاوية الدهني بضم المهملة، الكوفي، وثقه أحمد مات سنة 133، اهـ.

يعني بالغدو: صلاة الغداة، ويعني بالآصال صلاة العصر وهما أوّل ما افترض الله من الصلاة، فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عبادته.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ) أذن الله أن تبنى، فيصلي فيها بالغدوّ والآصال.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول في قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) يعني الصلاة المفروضة.
وقوله: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد، التي أذن الله أن ترفع، عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة - تجارة ولا بيع.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ... إلى قوله: (وَالأبْصَارُ) قال: هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم؛ لا تلهيهم تجاراتهم، ولا بيوعهم عن ذكر الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله أنه نظر إلى قوم من السوق، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ... الآية.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، عن سيار، عمن حدثه، عن ابن مسعود، نحو ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن سيار، قال: حُدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) .
وقال بعضهم: معنى ذلك: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ) عن صلاتهم المفروضة عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقول: عن الصلاة المكتوبة.
قوله: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) يقول: ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها.
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، عن رجل نسي عوف اسمه في (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) قال: يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة.
فإن قال قائل: أو ليس قوله: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) مصدرا من قوله: أقمت؟ قيل: بلى. فإن قال: أو ليس المصدر منه إقامة، كالمصدر من آجرت إجارة؟ قيل: بلى. فإن قال: وكيف قال: (وَإِقَامِ الصَّلاةِ) أو تجيز أن نقول: أقمت إقاما؟ قيل: ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة. فإن قيل: وما وجه جواز ذلك؟ قيل: إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال: إقواما، كما يقال: أقعدت فلانا إقعادا، وأعطيته إعطاء. ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت فسقطت لاجتماعها، وهي ساكنة، والميم وهي ساكنة، بنوا المصدر على ذلك، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة، فسقطت الأولى منهما، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف، كما فعلوا ذلك في قولهم: وعدته عدة، ووزنته زنة، إذ ذهبت الواو من أوّله، كثروه من آخره بالهاء; فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير وهي الهاء في آخرها؛ لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد، وقد قال بعضهم في نظير ذلك:
إنَّ الخَلِيطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانجَرَدُوا ... وأخْلَفُوكَ عدَى الأمْرِ الَّذِي وَعَدُوا (1)
(1)
البيت للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب وهو في (اللسان: وعد) قال: وقال الفراء: وعدت عدة، ويحذفون الهاء إذا أضافوا وأنشد: "إن الخليط.. ." البيت. وقال ابن الأنباري وغيره: الفراء يقول: عدة وعدى وأنشد: "وأخلفوك عدى.. ." البيت. وقال: أراد: عدة الأمر، فحذف الهاء عند الإضافة، قال: ويكتب بالياء. وقال الجوهري: والعدة الوعد، والهاء عوض من الواو. والخليط: اسم لمن يخالطك بجوار أو قرابة أو عمل أو نحوه. وأجدوا البين: أسرعوا في الفراق، واجتهدوا فيه. وانجردوا: أسرعوا وشمروا والشاهد في البيت عند المؤلف أن الهاء في عدة ونحوها تحذف منها عند الإضافة استغناء عنها بالمضاف إليه عن الحرف الزائد.

يريد: عدة الأمر. فأسقط الهاء من العدة لما أضافها، فكذلك ذلك في إقام الصلاة.
وقوله (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) قيل: معناه وإخلاص الطاعة لله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) ، وقوله: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) ، وقوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) ، وقوله: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً) ونحو هذا في القرآن، قال: يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص، وقوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) يقول: يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله بين طمع بالنجاة، وحذر بالهلاك، والأبصار: أي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين أم ذات الشمال، ومن أين يؤتون كتبهم، أمن قبل الأيمان، أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الله بن عياش، قال زيد بن أسلم في قول الله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) ... إلى قوله: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) : يوم القيامة.
وقوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) يقول: فعلوا ذلك، يعني أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا ربهم؛ مخافة عذابه يوم القيامة، كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ويزيدهم على ثوابه إياهم على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله، فَيُفْضل عليهم عن عنده بما أحبّ من كرامته لهم. وقوله: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول تعالى ذكره: يتفضل على من شاء وأراد من طوْله وكرامته، مما لم يستحقه بعمله، ولم يبلغه بطاعته (بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، يقول: بغير
محاسبة على ما بذل له وأعطاه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) }
وهذا مثل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به، فقال: والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن، وبمن جاء به مَثَلُ أعمالهم التي عملوها (كسراب) يقول: مثل سراب، والسراب ما لصق بالأرض، وذلك يكون نصف النهار، وحين يشتدّ الحرّ والآل، ما كان كالماء بين السماء والأرض، وذلك يكون أوّل النهار، يرفع كلّ شيء ضحى. وقوله: (بقيعة) وهي جمع قاع، كالجيرة جمع جار، والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب. وقوله: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) يقول: يظن العطشان من الناس السراب ماء (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) والهاء من ذكر السراب، والمعنى: حتى إذا جاء الظمآنُ السرابَ ملتمسا ماءً، يستغيث به من عطشه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) يقول: لم يجد السراب شيئا، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غرور، يحسبون أنها منجيتهم عند الله من عذابه، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرويه من ظمئه، حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله، لم يجده ينفعه شيئا; لأنه كان عمله على كفر بالله، ووجد الله، هذا الكافرُ عند هلاكه بالمرصاد، فوفاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا، وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه.
فإن قال قائل: وكيف قيل: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) فإن لم يكن السراب شيئا، فعلام أدخلت الهاء في قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) ؟ قيل: إنه شيء يرى من بعيد كالضباب، الذي يرى كثيفا من بعيد، والهباء، فإذا قرب منه المرء، رقّ وصار كالهواء. وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب؛ لم يجد السراب شيئا، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه، (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول والله سريع حسابه; لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع، ولا حفظ بقلب، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد، ومن بعد ما عمله.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، قال: ثم ضرب مثلا آخر، فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة، وهو يحسب أن له عند الله خيرا فلا يجد، فيُدخله النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، بنحوه.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) يقول: الأرض المستوية.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) ... إلى قوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قال: هو مثل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه، فرأى سرابا فحسبه ماء، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه، حتى أتاه، فلما أتاه لم يجده شيئا، وقبض عند ذلك، يقول الكافر كذلك، يحسب أن عمله مغن عنه، أو نافعه شيئا، ولا يكون آتيًا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا، ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السرابِ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قال: بقاعٍ من الأرض، والسراب: عمله، زاد الحارث في حديثه عن الحسن: والسراب: عمل الكافر (إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) إتيانه إياه: موته، وفراقه الدنيا (وَوَجَدَ اللَّهَ) عند فراقه الدنيا، (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتَادة، في قوله: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قال: بقيعة من الأرض (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) هو مثل ضربه الله لعمل الكافر، يقول: يحسب أنه في شيء، كما يحسب هذا السراب ماء (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وكذلك الكافر إذا مات لم يجد عمله شيئا (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ... إلى قوله: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ) قال: هذا مثل ضربه الله للذين كفروا (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) قد رأى السراب، ووثق بنفسه أنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا، قال: وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالحة، وأنهم سيرجعون منها إلى خير، فلم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب، فهذا مثل ضربه الله جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }
وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار، يقول تعالى ذكره: ومثل أعمال هؤلاء الكفار، في أنها عمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها، وعلى غير هدى، مثَلُ ظلمات في بحر لجِّيّ، ونسب البحر إلى اللجة وصفًا له بأنه عميق كثير الماء، ولجة البحر معظمه (يَغْشَاهُ مَوْجٌ) يقول: يغشى البحر موج (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) يقول: من فوق الموج موج آخر يغشاه، (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) يقول: من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب، فجعل الظلمات مثلا لأعمالهم، والبحر اللجيّ مثلا لقلب الكافر، يقول: عمل بنية قلب قد غمره الجهل، وتغشَّته الضلال والحيرة، كما يغشى هذا البحر اللجّي موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات، يغشاه الجهل بالله، بأن الله ختم عليه، فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي،
(1)
قال الشوكاني في فتح القدير (4: 38) : ومن غرائب التفاسير: أنه سبحانه وتعالى أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجى قلبه، وبالموج: ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة. والسحاب: الرين والختم والطبع على قلبه. وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد 1 هـ.

عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) ... إلى قوله: (مِنْ نُورٍ) قال: يعني بالظلمات: الأعمال، وبالبحر اللجّي: قلب الإنسان، قال: يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، قال: ظلمات بعضها فوق بعض، يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ... الآية، وكقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) ... إلى قوله: (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) عميق، وهو مثل ضربه الله للكافر، يعمل في ضلالة وحيرة، قال: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) .
ورُوي عن أُبيّ بن كعب ما حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ) ... الآية، قال: ضرب مثلا آخر للكافر، فقال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) ... الآية، قال: فهو يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن أبي الربيع، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب، بنحوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) ... إلى قوله: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) قال: شرّ بعضه فوق بعض.
وقوله: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) يقول: إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات لم يكد يراها.
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) ، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف، وقد علمت أن قول القائل: لم أكد أرى فلانا، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه، فكيف فيها؟ قيل في ذلك أقوال نذكرها، ثم نخبر بالصواب من
ذلك، أحدها: أن يكون معنى الكلام: إذا أخرج يده رائيا لها لم يكد يراها: أي لم يعرف من أين يراها، فيكون من المقدّم الذي معناه التأخير، ويكون تأويل الكلام على ذلك: إذا أخرج يده لم يقرب أن يراها. والثاني: أن يكون معناه: إذا أخرج يده لم يرها (1) ويكون قوله: (لَمْ يَكَدْ) في دخوله في الكلام نظير دخول الظنّ فيما هو يقين من الكلام، كقوله: (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ونحو ذلك. والثالث: أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد، كما يقول القائل لآخر: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه، ولكن بعد إياس وشدة، وهذا القول الثالث أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب أكاد في كلامها، والقول الآخر الذي قلنا إنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها، قول أوضح من جهة التفسير، وهو أخفى معانيه. وإنما حسُن ذلك في هذا الموضع، أعني أن يقول: لم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر; لأن ذلك مثل لا خبر عن كائن كان. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا) يقول: من لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه، (فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) : يقول فما له من إيمان وهدى ومعرفة بكتابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فتعلم أن الله يصلي له من في السماوات والأرض من ملك وإنس وجنّ (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) في الهواء أيضا تسبح له (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (2) والتسبيح عندك صلاة، فيقال: قيل: إن الصلاة لبني آدم، والتسبيح لغيرهم من الخلق، ولذلك فصّل فيما بين ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
في فتح القدير للشوكاني (طبعة الحلبي 4: 38) قال الزجاج وأبو عبيدة: لم يرها ولم يكد. وقال الفراء: إن كاد زائدة، وقال المحقق الرضي في شرحه لكافية ابن الحاجب (2: 306) : إن نفي القرب من الفعل أبلغ في انتفاء ذلك الفعل، من نفي الفعل نفسه؛ فإن ما قربت من الضرب، آكد في نفي الضرب من ما ضربت. أهـ.

(2)
يظهر أن في الكلام سقطًا. تقديره: فإن قيل: ما فائدة عطف "وتسبيحه" على صلاته.. . إلخ. بدليل قوله: قيل.. . إلخ وهو جواب عن سؤال.

* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) قال: والصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) قال: صلاته للناس، وتسبيحه عامة لكلّ شيء.
ويتوجه قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) لوجوه: أحدها أن تكون الهاء التي في قوله: (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) من ذكر كلّ، فيكون تأويل الكلام: كل مصلّ ومسبِح منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه، ويكون الكلّ حينئذ مرتفعا بالعائد من ذكره في قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) وهو الهاء التي في الصلاة.
والوجه الآخر: أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح أيضا للكل، ويكون الكل مرتفعا بالعائد من ذكره عليه في (عَلِمَ) ويكون (عَلِمَ) فعلا للكلّ، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قد علم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبيحه، الذي كُلِّفه وأُلْزمه.
والوجه الآخر: أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح من ذكر الله، والعلم للكل، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قد علم كلّ مسبح ومصلّ صلاة الله التي كلفه إياها، وتسبيحه، وأظهر هذه المعاني الثلاثة على هذا الكلام، المعنى الأوّل، وهو أن يكون المعنى: كلّ مصلّ منهم ومسبح قد علم الله صلاته وتسبيحه.
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بما يفعل كلّ مصلّ ومسبح منهم، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، طاعتها ومعصيتها، محيط بذلك كله، وهو مجازيهم على ذلك كله.
وقوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) يقول جلّ ثناؤه: ولله سلطان السماوات والأرض وملكها دون كلّ من هو دونه من سلطان وملك، فإياه فارهبوا أيها الناس، وإليه فارغبوا لا إلى غيره، فإن بيده خزائن السماوات والأرض، لا يخشى بعطاياكم منها فقرا (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) يقول: وأنتم إليه بعد وفاتكم، مصيركم ومعادكم، فيوفيكم
أجور أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا في طاعته، وقدموا لأنفسكم الصالحات من الأعمال.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]