
23-07-2025, 02:32 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,406
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النور
الحلقة (1070)
صــ 201 لى صــ 210
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (44) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي) يعني: يسوق (سحابا) حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يقول: ثم يؤلف بين السحاب، وأضاف بين إلى السحاب، ولم يذكر مع غيره، وبين لا تكون مضافة إلا إلى جماعة أو اثنين؛ لأن السحاب في معنى جمع، واحده سحابة، كما يجمع النخلة: نخل، والتمرة تمر، فهو نظير قول قائل: جلس فلان بين النخل، وتأليف الله السحاب: جمعه بين متفرّقها.
وقوله: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) يقول: ثم يجعل السحاب الذي يزجيه، ويؤلف بعضه إلى بعض ركاما، يعني: متراكما بعضه على بعض.
وقد حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا خالد، قال: ثنا مطر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد بن عمير الليثي، قال: الرياح أربع: يبعث الله الريح الأولى فتقُمّ الأرض قما، ثم يبعث الثانية فتنشئ سحابا، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاما، ثم يبعث الرابعة فتمطره.
وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) يقول: فترى المطر يخرج من بين السحاب، وهو الودق، قال: الشاعر:
فَلا مُزْنَةٌ ودقَتْ ودْقَهَا ... ولا أَرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَها (1)
والهاء في قوله: (مِنْ خِلالِهِ) من ذكر السحاب، والخلال: جمع خلل. وذُكر عن ابن عباس وجماعة أنهم كانوا يقرءون ذلك: "مِنْ خَلَلِهِ" .
(1) البيت لعامر بن جوين الطائي (اللسان: ودق) قال: الودق: المطر كله شديده وهينه وقد ودق يدق ودقًا أي قطر، قال عامر بن جوين الطائي "فلا مزنة" البيت والمزنة سحابة واستشهد المؤلف بالبيت على أن معنى الودق المطر
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي بنُ عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قَتَادة، عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ هذا الحرف: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) : "مِنْ خَلَلِهِ" .
قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن رجل، عن ابن عباس أنه قرأ هذا الحرف: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) : "من خَلَله" .
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: أخبرني عمارة بن أبي حفصة، عن رجل، عن ابن عباس، أنه قرأها: "مِنْ خَلَلِهِ" بفتح الخاء، من غير ألف.
قال هارون: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: إنها لحسنة، ولكن خلاله أعمّ.
وأما قرّاء الأمصار، فإنهم على القراءة الأخرى من خلاله، وهي التي نختار لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) قال: الودْقَ: القطر، والخلال: السحاب.
وقوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) : قيل في ذلك قولان: أحدهما: أن معناه أن الله ينزل من السماء من جبال في السماء من برد مخلوقة هنالك خلقه، كأن الجبال على هذا القول هي من برد، كما يقال: جبال من طين. والقول الآخر: أن الله ينزل من السماء قدر جبال، وأمثال جبال من برد إلى الأرض، كما يقال: عندي بيتان تبنا، والمعنى قدر بيتين من التبن، والبيتان ليسا من التبن.
وقوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) يقول: فيعذّب بذلك الذي ينزل من السماء من جبال فيها من برد، من يشاء فيهلكه، أو يهلك به زروعه وماله (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) من خلقه، يعني: عن زروعهم وأموالهم.
وقوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ) يقول: يكاد شدّة ضوء برق هذا السحاب يذهب بأبصار من لاقى بصره، والسنا مقصور، وهو ضوء البرق.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) قال: ضوء برقه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) يقول: لمعان البرق يذهب بالأبصار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ) قال: سناه ضوء يذهب بالأبصار.
وقرأت قرّاء الأمصار (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ) بفتح الياء من يذهب سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرأه بضم الياء "يُذْهِبُ بِالأبْصَارِ" .
والقراءة التي لا أختار غيرها هي فتحها؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وأن العرب إذا أدخلت الباء في مفعول ذهبت، لم يقولوا: إلا ذهبت به، دون أذهبت به، وإذا أدخلوا الألف في أذهبت لم يكادوا أن يدخلوا الباء في مفعوله، فيقولون: أذهبته وذهبت به.
وقوله: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) يقول: يعقب اللهُ بين الليل والنهار ويصرفهما، إذا أذهب هذا جاء هذا، وإذا أذهب هذا جاء هذا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ) يقول: إنّ في إنشاء الله السحاب، وإنزاله منه الودق، ومن السماء البردَ، وفي تقليبه الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر به، وعظةً لمن اتعظ به. ممن له فهم وعقل; لأن ذلك ينبئ ويدلّ على أنه له مدبِّرا ومصرِّفًا ومقلبا لا يشبهه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم: "وَاللهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ" . وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) بنصب كل، وخلق على مثال فَعَلَ، وهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، وذلك أن الإضافة في قراءة من قرأ ذلك "خَالِقُ" تدلّ على أن معنى ذلك المضيّ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) يعني: من نطفة، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالحيات وما أشبهها، وقيل: إنما قيل: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) والمشي لا يكون على البطن; لأن المشي إنما يكون لما له قوائم على التشبيه وأنه لما خالط ما له قوائم ما لا قوائم له جاز، كما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) كالطير، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) كالبهائم.
فإن قال قائل: فكيف قيل: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي) ، و "مَنْ" للناس، وكلّ هذه
الأجناس أو أكثرها لغيرهم؟ قيل: لأنه تفريق ما هو داخلٌ في قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) وكان داخلا في ذلك الناس وغيرهم، ثم قال: (فمنهم) ، لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم، ثم فسرهم ب "مِنْ" ، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يقول: يحدث الله ما يشاء من الخلق (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: إن الله على إحداث ذلك وخلقه، وخلق ما يشاء من الأشياء غيره، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) }
يقول تعالى ذكره: لقد أنزلنا أيها الناس علامات واضحات دالات على طريق الحقّ وسبيل الرشاد (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول: والله يرشد من يشاء من خلقه بتوفيقه، فيهديه إلى دين الإسلام، وهو الصراط المستقيم والطريق القاصد الذي لا اعوجاج فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره: ويقول المنافقون: صدّقنا بالله وبالرسول، وأطعنا الله وأطعنا الرسول (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يقول: ثم تدبر كلّ طائفة منهم من بعد ما قالوا هذا القول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدعو إلى المحاكمة إلى غيره خصمها (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) يقول: وليس قائلو هذه المقالة، يعني قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا) بالمؤمنين؛ لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه. وقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول: وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) فيما اختصموا فيه بحكم الله (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبول الحقّ، والرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ
مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
يقول تعالى ذكره: وإن يكن الحق لهؤلاء الذين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم فيأبون ويعرضون عن الإجابة إلى ذلك، قِبَل الذين يدعونهم إلى الله ورسوله - يأتوا إلى رسول الله مذعنين، يقول: مذعنين منقادين لحكمه، مقرّين به طائعين غير مكرهين، يقال منه: قد أذعن فلان بحقه إذا أقرّ به طائعا غير مستكره وانقاد له وسلم.
وكان مجاهد فيما ذكر عنه يقول في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) قال: سراعا.
وقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يقول تعالى ذكره: أفي قلوب هؤلاء الذين يعرضون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، شكّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لله رسول، فهم يمتنعون من الإجابة إلى حكمه والرضا به (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) إذا احتكموا إلى حكم كتاب الله وحكم رسوله وقال: (أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) والمعنى: أن يحيف رسول الله عليهم، فبدأ بالله تعالى ذكره تعظيما لله، كما يقال: ما شاء الله ثم شئت، بمعنى شئت. ومما يدلّ على أن معنى ذلك كذلك قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) فأفرد الرسول بالحكم، ولم يقل: ليحكما.
وقوله: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يقول: ما خاف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله، إذ أعرضوا عن الإجابة إلى ذلك مما دعوا إليه، أن يحيف عليهم رسول الله، فيجور في حكمه عليهم، ولكنهم قوم أهل ظلم لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم، ومعصيتهم الله فيما أمرهم من الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحبوا وكرهوا، والتسليم له.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) }
يقول تعالى ذكره: إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا إلى حكم الله وإلى حكم رسوله، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وبين خصومهم، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا) ما قيل لنا
(وأطعنا) مَن دعانا إلى ذلك. ولم يُعن ب (كَانَ) في هذا الموضع الخبر عن أمر قد مضى فيقضى، ولكنه تأنيب من الله الذي أنزلت هذه الآية بسببهم، وتأديب منه آخرين غيرهم. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يقول تعالى ذكره: والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم وبين خصومهم (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا المفلحون يقول: هم المنجحون المدركون طِلباتهم، بفعلهم ذلك، المخلدون في جنات الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمره ونهاه، ويسلم لحكمهما له وعليه، ويخف عاقبة معصية الله ويحذره، ويتق عذاب الله بطاعته إياه في أمره ونهيه (فأولئك) يقول: فالذين يفعلون ذلك (هُمُ الْفَائِزُونَ) برضا الله عنهم يَوم القيامة، وأمنهم من عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره وحلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله، إذ دعوا إليه (بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) يقول: أغلظ أيمانهم وأشدّها (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يا محمد بالخروج إلى جهاد عدوك وعدو المؤمنين (لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا) لا تحلفوا، فإن هذه (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) منكم فيها التكذيب.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) قال: قد عرفت طاعتكم إلي أنكم تكذبون (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول: إن الله ذو خبرة بما تعملون من طاعتكم الله ورسوله، أو خلافكم أمرهما، أو غير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو مجازيكم بكل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
يقول تعالى ذكره: (قل) يا محمد لهؤلاء المقسمين بالله (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) ، وغيرهم من أمتك (أَطِيعُوا اللَّهَ) أيها القوم فيما أمركم به، ونهاكم عنه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فإن طاعته لله طاعة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يقول:فإن تعرضوا وتدبروا عما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نهاكم عنه، وتأبوا أن تذعنوا لحكمه لكم وعليكم (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) يقول: فإنما عليه فعل ما أمر بفعله من تبليغ رسالة الله إليكم على ما كلَّفه من التبليغ (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) يقول: وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما ألزمكم، وأوجب عليكم من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم.
وقلنا: إن قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بمعنى فإن تتولوا، فإنه في موضع جزم; لأنه خطاب للذين أمر رسول الله بأن يقول لهم (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يدل على أن ذلك كذلك قوله: (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) ولو كان قوله: (تولوا) فعلا ماضيا على وجه الخبر عن غيب لكان في موضع قوله: (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) .
وقوله: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) يقول تعالى ذكره: وإن تطيعوا - أيها الناس - رسول الله - فيما يأمركم وينهاكم - ترشدوا وتصيبوا الحقّ في أموركم (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يقول: وغير واجب على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلغهم رسالته بلاغا يبين لهم ذلك البلاغ عما أراد الله به.
يقول فليس على محمد - أيها الناس - إلا أداء رسالة الله إليكم، وعليكم الطاعة، وإن أطعتموه (1) لحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن عصيتموه بأنفسكم فتوبقون (2) .
القول في تأويل قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي
(1) كأنه عل تقدير الفاء في جواب الشرط أي فلحظوظ إلخ
(2) كان الأولى أن يقول: وإن عصيتموه فلأنفسكم توبقون
لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
يقول تعالى ذكره: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ منكم) أيها الناس، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ) يقول: ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول: كما فعل منْ قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم، وجعلهم ملوكها وسكانها (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) يقول: وليوطئنّ لهم دينهم، يعني: ملتهم التي ارتضاها لهم، فأمرهم بها. وقيل: وعد الله الذين آمنوا، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله: (ليستخلفنهم) لأن الوعد قول يصلح فيه "أن" ، وجواب اليمين كقوله: وعدتك أن أكرمك، ووعدتك لأكرمنك.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (كَمَا اسْتَخْلَفَ) فقرأته عامة القرّاء (كَمَا اسْتَخْلَفَ) بفتح التاء واللام، بمعنى: كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم. وقرأ ذلك عاصم "كَما اسْتُخْلِفَ" بضم التاء وكسر اللام، على مذهب ما لم يسمّ فاعله.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله: (وليبدلنهم) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم (وليبدلنهم) بتشديد الدال، بمعنى: وليغيرنّ حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن، والعرب تقول: قد بدّل فلان إذا غيرت حاله، ولم يأت مكان غيره، وكذلك كلّ مغير عن حاله، فهو عندهم مبدل بالتشديد. وربما قيل بالتخفيف، وليس بالفصيح، فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره، فذلك بالتخفيف أبدلته فهو مبدل. وذلك كقولهم: أبدل هذا الثوب: أي جُعل مكانه آخر غيره، وقد يقال بالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت. وكان عاصم يقرؤه "وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ" بتخفيف الدال.
والصواب من القراءة في ذلك التشديد، على المعنى الذي وصفت قبلُ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن، وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف وجَّه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف، وجاء بحال الأمن، فخفف ذلك.
ومن الدليل على ما قلنا، من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر، قول أبي النجم:
عَزْلُ الأمير للأمِيرِ المبْدَل (1)
(1) البيت من مشطور الرجز، لأبي النجم العجلي الراجز (اللسان: بدل) قال: قال أبو العباس (يعني ثعلبًا) وحقيقته: أن التبديل تغيير الصورة إلى صورة أخرى، والجوهرة بعينها؛ والإبدال: تنحية الجوهرة، واستئناف جوهرة أخرى. منه قول أبي النجم: * عزل الأمير للأمير المبدل *
ألا ترى أنه نحى جسمًا، وجعل مكانه جسمًا غيره؟ .
وقوله: (يعبدونني) يقول: يخضعون لي بالطاعة ويتذللون لأمري ونهيي (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) يقول: لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها، بل يخلصون لي العبادة فيفردونها إليَّ دون كل ما عبد من شيء غيري، وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدوّ في خوف شديد مما هم فيه من الرعب والخوف، وما يلقون بسبب ذلك من الأذى والمكروه.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ... الآية، قال: فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تَغْبُرُونَ إلا يَسيرًا حتى يجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملإ العَظيمِ مُحْتَبِيًا فِيه، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ" . (1) فأنزل الله هذه الآية (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ... إلى قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) "قال: يقول: من كفر بهذه النعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وليس يعني الكفر بالله. قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا، ثم تجبروا، فغيرَ الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم، قال القاسم: قال أبو علي: بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه."
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) فقال أبو العالية (2) ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله.
ورُوي عن حُذيفة في ذلك ما حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان،
(1) في فتح القدير للشوكاني (4: 47) ليست فيهم جديدة. ولعلها رواية أخرى
(2) لعله أبو العالية، راوي الحديث.
عن حبيب بن أبي الشعثاء، قال: كنت جالسا مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود، فقال حُذيفة: ذهب النفاق، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو الكفر بعد الإيمان، قال: فضحك عبد الله، فقال: لم تقول ذلك؟ قال: علمت ذلك، قال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ) ... حتى بلغ آخرها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: ثنا شعبة، عن أبي الشعثاء، قال: قعدت إلى ابن مسعود وحُذيفة، فقال حذيفة: ذهب النفاق فلا نفاق، وإنما هو الكفر بعد الإيمان، فقال عبد الله: تعلم ما تقول؟ قال: فتلا هذه الآية (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) ... حتى بلغ: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قال: فضحك عبد الله، قال: فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام، فقلت: من أي شيء ضحك عبد الله؟ قال: لا أدري، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يعجبه، وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه، فمن أي شيء ضحك؟ لا أدري. والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية، أنه منعم به عليهم، ثم قال عقيب ذلك: فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) قال: تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد (أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) قال: لا يخافون غيري.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) }
يقول تعالى ذكره: (وأقيموا أَيُّهَا النَّاسُ الصلاة) بحدودها، فلا تضيعوها، (وَآتُوا الزَّكَاةَ) التي فرضها الله عليكم أهلها، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم ونهاكم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يقول: كي يرحمكم ربكم، فينجيكم من عذابه، وقوله: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ) يقول تعالى ذكره: لا تحسبن يا محمد، الذين كفروا بالله معجزيه في الأرض إذا أراد إهلاكهم (ومأواهم) بعد هلاكهم (النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|