
23-07-2025, 02:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان
الحلقة (1074)
صــ 241 لى صــ 250
سل لنفسك ذلك لنأكل نحن.
وبعدُ، فإن في قوله تعالى ذكره: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) دليلا بيِّنا على أنهم إنما قالوا له: اطلب ذلك لنفسك، لتأكل أنت منه، لا نحن.
وقوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ) يقول: وقال المشركون للمؤمنين بالله ورسوله: (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أيها القوم باتباعكم محمدا (إِلا رَجُلا) به سحر.
القول في تأويل قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين شبهوا لك الأشباه بقولهم لك: هو مسحور، فضلوا بذلك عن قصد السبيل، وأخطؤوا طريق الهدى والرشاد، فلا يستطيعون يقول: فلا يجدون سبيلا إلى الحقّ، إلا فيما بعثتك به، ومن الوجه الذي ضلوا عنه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جُبير، أو عكرمة، عن ابن عباس (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) أي التمسوا الهدى في غير ما بعثتك به إليهم فضلوا، فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهدى في غيره.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) قال: مخرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك.
وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول تعالى ذكره: تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك.
واختلف أهل التأويل في المعني ب: "ذلك" التي في قوله: (جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) فقال
بعضهم: معنى ذلك: خيرا مما قال هؤلاء المشركون لك يا محمد: هلا أوتيته وأنت لله رسول، ثم بين تعالى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مما قالوا، فقال: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) .
* ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) خيرا مما قالوا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) قال: مما قالوا وتمنوا لك، فيجعل لك مكان ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقال آخرون: عني بذلك المشي في الأسواق، والتماس المعاش.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما يرى الطبري، عن سعيد بن جُبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: ثم قال: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) من أن تمشي في الأسواق، وتلتمس المعاش كما يلتمسه الناس، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) .
قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها، وأن لا يلقى إليه كنز واستنكروا أن يمشي في الأسواق، وهو لله رسول، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير مما كان عند المشركين عظيما، لا مما كان منكرا عندهم، وعني بقوله: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) قال: حوائط.
وقوله: (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) يعني بالقصور: البيوت المبنية.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: قال أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) قال: بيوتا مبنية مشيدة، كان ذلك في الدنيا، قال: كانت قريش ترى البيت من الحجارة قصرا كائنا ما كان.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) مشيدة في الدنيا، كل هذا قالته قريش. وكانت قريش ترى البيت من حجارة ما كان صغيرا (1) قصرا.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يعطى من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله تعالى، فقال: "اجمعوها لي في الآخرة" ، فأنزل الله في ذلك (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) }
(1) الظاهر أنه سقط من قلم الناسخ "أو كبيرًا" كما يفيده ما قبله. والذي في ابن كثير "صغيرًا كان أو كبيرًا"
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) }
يقول تعالى ذكره: ما كذب هؤلاء المشركون بالله، وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من الحق من أجل أنك تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد، ولا يصدقون بالثواب والعقاب تكذيبا منهم بالقيامة، وبعث الله الأموات أحياء لحشر القيامة.
(واعتدنا) يقول: وأعددنا لمن كذب ببعث الله الأموات أحياء بعد فنائهم لقيام الساعة، نارا تسعر عليهم وتتقد (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) ، يقول: إذا رأت هذه النار التي اعتدناها لهؤلاء المكذبين أشخاصهم من مكان بعيد، تغيظت عليهم، وذلك أن تغلي وتفور، يقال: فلان تغيظ على فلان، وذلك إذ غضب عليه، فغلى صدره من الغضب عليه،
وتبين في كلامه، (وَزَفِيرًا) ، وهو صوتها.
فإن قال قائل: وكيف قيل (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا) والتغيظ: لا يسمع، قيل معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد.
حدثني محمود بن خداش، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال: ثنا أصبع بن زيد الوَرَّاقُ، عن خالد بن كثير، عن فديك، عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَقُولُ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا" قالوا: يا رسول الله، وهل لها من عين؟ قال: "أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى قَوْلِ اللهِ (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) " ... الآية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر في قوله: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) قال: أخبرني المنصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر ترعد فرائضه حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه، فيقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي!.
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: إن الرجل ليجر إلي النار، فتنزوي، وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ فتقول: إنه ليستجير مني! فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار، فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، قال: فيقول أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجرُّ إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) }
يقول تعالى ذكره: وإذا ألقي هؤلاء المكذّبون بالساعة من النار مكانا ضيقا، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) .
واختلف أهل التأويل في معنى الثبور، فقال بعضهم: هو الويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس. في قوله: (وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) يقول: ويلا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا) يقول: لا تدعوا اليوم ويلا واحدا، وادعوا ويلا كثيرا.
وقال آخرون: الثبور الهلاك.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا) الثبور: الهلاك.
قال أبو جعفر: والثبور في كلام العرب: أصله انصراف الرجل عن الشيء، يقال منه: ما ثبرك عن هذا الأمر: أي ما صرفك عنه، وهو في هذا الموضع دعاء هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا، والإيمان بما جاءهم به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة منه، كما يقول القائل: وا ندامتاه، وا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول في قوله: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أي هلكة، ويقول: هو مصدر من ثبر الرجل: أي أهلك، ويستشهد لقيله في ذلك ببيت ابن الزّبَعْرى:
إذ أُجاري الشَّيطَان في سَنَن الغ ... يّ ومن مَال مَيْلَهُ مَثْبُورا (1)
وقوله: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ) أيها المشركون ندمًا واحدًا: أي مرة واحدة، ولكن ادعوا ذلك كثيرا. وإنما قيل: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا) لأن الثبور مصدر؛ والمصادر لا تجمع، وإنما توصف بامتداد وقتها وكثرتها، كما يقال: قعد قعودا طويلا وأكل أكلا كثيرا.
حدثنا محمد بن مرزوق، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد قال: ثنا عليّ بن زيد، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّار إِبْلِيسُ،"
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى شاعر قريش الذي كان يهجو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثم خرج إليه وأسلم بعد فتح مكة، وقال حين أسلم شعرًا، منه هذا البيت من مقطوعة أربعة أبيات أنشدها ابن إسحاق في السيرة (طبعة الحلبي 4: 61) ومعنى أجاري: أباري وأعارض. والسنن بالتحريك: وسط الطريق. ومثبور: هالك. والشاهد فيه عند المؤلف أن الثبور معناه الهلاك والمثبور: الهالك
فَيَضَعُها عَلى حاجبَيْه، ويَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ، وَذُرَّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاه، وَهُمْ يُنَادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ فيقال: (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) "."
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا (16) }
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة: أهذه النار التي وصف لكم ربكم صفتها وصفة أهلها خير؟ أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد، الذي وعد من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه؟ وقوله: (كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا) يقول: كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته، وثواب تقواهم إياه، ومصيرا لهم، يقول: ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الآخرة. وقوله: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) يقول: لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي وعدهموها الله ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، (خَالِدِينَ) فيها، يقول: لابثين فيها ماكثين أبدا، لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها. وقوله: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) يقول الله تبارك وتعالى: وكان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الآخرة وعدا وعدهم الله على طاعتهم إياه في الدنيا، ومسألتهم إياه ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) قال: فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه.
حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا) قال: سألوه إياها في الدنيا، طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم إذ سألوه أن يعطيهم، فأعطاهم، فكان ذلك وعدا مسئولا كما وقَّت أرزاق العباد في الأرض قبل أن يخلقهم فجعلها أقواتا للسائلين، وقَّت ذلك على مسألتهم، وقرأ (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) .
وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله: (وَعْدًا مَسْئُولا) إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا، وذلك أن المسئول واجب، وإن لم يُسأل كالدين، ويقول ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفا وعدا مسئولا بمعنى واجب لك، فتسأله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) }
يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذّبين بالساعة، العابدين الأوثان، وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجنّ.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) فيقول: (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ) قال: عيسى وعُزير والملائكة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، نحوه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارئ وعبد الله بن كثير: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ) بالياء جميعا، بمعنى: ويوم يحشرهم ربك، ويحشر ما يعبدون من دون فيقول. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين (نَحْشُرُهُمْ) بالنون، فنقول. وكذلك قرأه نافع.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ) يقول: فيقول الله للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء: يقول: أنتم أزلتموهم عن طريق الهدى، ودعوتموهم إلى الغيّ والضلالة حتى تاهوا وهلكوا، أم هم ضلوا السبيل، يقول: أم عبادي هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحقّ وسلكوا العطب.
القول في تأويل قوله تعالى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ
نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا، وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم، أنت ولينا من دونهم، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة، حتى نسوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا، ولم تكن لهم أعمال صالحة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) يقول: هلكى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) يقول: هلكى.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) قال: هم الذين لا خير فيهم، حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي ليس فيه من الخير شيء.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار (نَتَّخِذَ) بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القعقاع، فإنهما قرآه: (أنَّ نُتَّخَذَ) بضم النون. فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بَيَّنَّاه في تأويله من أن الملائكة وعيسى، ومن عُبِد من دون الله من المؤمنين، هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يعبدوا من دون الله
جلّ ثناؤه، كما أخبر الله عن عيسى، أنه قال إذا قيل: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون، لعلل ثلاث: إحداهن إجماع من القرّاء عليها. والثانية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سبأ، فقال: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ) ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءوا إلى الله من ولايتهم، فقالوا لربهم: (أنت ولينا من دونهم) فذلك يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) بمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء. والثالثة: أن العرب لا تدخل "مِن" هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء، ولا تدخلها في الأخبار، لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل، وإنما يقولون: ما رأيت من أحد، وما عندي من رجل، وقد دخلت ها هنا في الأولياء، وهي في موضع الخبر، ولو لم تكن فيها "من" كان وجها حسنا. وأما البور: فمصدر واحد وجمع للبائر، يقال: أصبحت منازلهم بورا: أي خالية لا شيء فيها، ومنه قولهم: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب والمشتري، فلم يكن له طالب، فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى:
يَا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لسانِي ... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (1)
وقد قيل: إن بور: مصدر، كالعدل والزور والقطع، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة؛ لأنها لم تكن لله كما ذكرنا عن ابن عباس.
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله حين أسلم عند فتح مكة. وهو في أول المقطوعة قبل البيت الذي مضى شرحه قبل هذا. وراتق: مصلح لما أفسدت، وأصل الرتق السد للثوب الممزق بإصلاح ما تقطع منه. وفتقت: أي أفسدت من الدين، فكل إثم فتق وتمزيق، وكل ثوبة رتق وإصلاح. وبور: هالك. يقال: رجل بور وبائر، وقوم بور، وأصل البور: مصدر بار يبور بورًا، ثم وصف به فلزم الإفراد لأن المصادر لا تجمع. وقال المؤلف: إنه مصدر واحد (غير مجموع) ، وجمع للبائر، قال يقال: أصبحت منازلهم بورًا، أي خالية
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا (19) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عما هو قائل للمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم، ودعوكم إلى عبادتهم بما تقولون، يعني بقولكم، يقول: كذّبوكم بكذبكم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال:
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|