
23-07-2025, 07:05 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,110
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان
الحلقة (1080)
صــ 301 لى صــ 310
ربه، وأداء فرائضه؛ فذلك من السرف، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه؛ فذلك من الإقتار وبين ذلك القوام على هذا النحو، كل ما جانس ما ذكرنا، فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس، وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه، مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع، مما هو دونه من الأغذية، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته، فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القوام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك، وحضّ على بعضه، كقوله: "مَا عَلى أحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ: ثَوْبًا لِمِهْنَتِهِ، وَثَوْبًا لجُمْعَتِهِ وَعِيدِه" وكقوله: "إذَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ" وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيَّناها في مواضعها.
وأما قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) فإنه النفقة بالعدل والمعروف على ما قد بيَّنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن أبي سليمان، عن وهب بن منبه، في قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) قال: الشطر من أموالهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) النفقة بالحقّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) قال: القوام: أن ينفقوا في طاعة الله، ويمسكوا عن محارم الله.
قال: أخبرني إبراهيم بن نشيط، عن عمر مولى غُفْرة، قال: قلت له: ما القوام؟ قال: القوام: أن لا تنفق في غير حقّ، ولا تمسك عن حقّ هو عليك. والقوام في كلام العرب، بفتح القاف، وهو الشيء بين الشيئين. تقول للمرأة المعتدلة الخلق: إنها لحسنة القوام في اعتدالها، كما قال الحطيئة:
طَافَتْ أُمَامَةُ بالرُّكْبانِ آونَةً ... يا حُسْنَهُ مِنْ قَوَام ما وَمُنْتَقَبا (1)
(1) البيت للحطيئة: وآونة: جمع أوان. والقوام: حسن الطول. والمنتقب: مصدر ميمي بمعنى الانتقاب. يقول: إن أمامة كانت أحيانًا تطوف بالركبان، فما أعدل قوامها، وأحسن نقبتها. والنقاب: ما وضع على مارن الأنف من أغطية الوجه. والنقبة: هيئة الانتقاب به، يقال: إن فلانة لحسنة النقبة. ويكون معنى القوام كذلك: الشيء الوسط بين الشيئين. وقد حمل عليه المؤلف معنى البيت.
فأما إذا كسرت القاف فقلت: إنه قِوام أهله، فإنه يعني به: أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفيه لغات أُخَر، يقال منه: هو قيام أهله وقيّمهم في معنى قوامهم. فمعنى الكلام: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا لا مجاوزة عن حد الله، ولا تقصيرا عما فرضه الله، ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه، وأذن فيه ورخص.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَلَمْ يَقْتُرُوا) فقرأته عامة قرّاء المدينة "ولمْ يُقْتروا" بضم الياء وكسر التاء من أقتر يَقْتِر. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين (وَلَمْ يَقْتُرُوا) بفتح الياء وضم التاء من قتر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة "وَلمْ يَقْتِروا" بفتح الياء وكسر التاء من قتر يَقْتِر.
والصواب من القول في ذلك، أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب، وقراءات مستفيضات وفي قرّاء الأمصار بمعنى واحد، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب.
وقد بيَّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وفي نصب القَوام وجهان: أحدهما ما ذكرت، وهو أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى: وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما: أي عدلا والآخر أن يجعل بين هو الاسم، فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع، كما يقال: كان دون هذا لك كافيا، يعني به: أقلّ من هذا كان لك كافيا، فكذلك يكون في قوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) لأن معناه: وكان الوسط من ذلك قواما.
القول في تأويل قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
يقول تعالى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) قتلها (إِلا بِالْحَقِّ) إما بكفر بالله بعد إسلامها، أو زنا بعد إحصانها، أو قتل نفس، فتقتل بها (وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرّم الله بغير الحق، وزنى (يَلْقَ أَثَامًا) يقول: يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه، وهو أنه (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ، ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قيس الكناني:
جَزَى اللهُ ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى ... عُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أثامُ (1)
يعني بالأثام: العقاب.
وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام، فاستفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يعلمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم.
(1) البيت لبلعام بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر، واسمه حميضة وهو من كنانة بن خزيمة، وكان بلعاء رأس بني كنانة في أكثر حروبهم ومغازيهم، وكان كثير الغارات على العرب، وله أخبار في حروب الفجار. وهو شاعر محسن، قال في كل فن أشعاراً جيادًا (انظر المؤتلف والمختلف 106 ومعجم الشعراء للمرزباني 357) . والبيت أنشده صاحب (اللسان: أثم) ونسبه إلى شافع الليثي. ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن إلى بلعاء بن قيس الكناني، وعنه أخذ المؤلف قال في اللسان: "قال أبو إسحاق: تأويل الأثام: المجازاة وفال أبو عمرو الشيباني: لقي فلان أثام ذلك: أي جزاء ذلك، فإن الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن معناه: يلقى جزاء الأثام. وقول شافع الليثي في ذلك جزى الله ابن عروة ... له أثام"
أي عقوبة مجازاة العقوق، وهي قطيعة الرحم. وقال الليث: الأثام في جملة التفسير عقوبة الإثم. وقيل في قوله تعالى {يلق أثاما} قيل: هو واد في جهنم. قال ابن سيده: والصواب عندي: أن معناه: يلق عقاب الأثام. اهـ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: ثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعونا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) ونزلت: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إلى قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) قال ابن جُرَيج: وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء.
حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن أبي معاوية، عن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما الكبائر؟ قال: أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ، وأنْ تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان عن الأعمش ومنصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ، قلت: ثم أي؟ قال: أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ، قلت: ثم أي؟ قال: أنْ تُزَاني حَلِيلَةِ جَارِكَ "فأنزل تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) " ... الآية.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا عليّ بن قادم، قال: ثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثني عمي يحيى بن عيسى،
عن الأعمش، عن سفيان، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ ثم ذكر نحوه.
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا عامر بن مدرك، قال: ثنا السريّ - يعني ابن إسماعيل - قال: ثنا الشعبي، عن مسروق، قال: قال عبد الله: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فاتبعته، فجلس على نشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، فاغتنمت خلوته وقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، أي الذنوب أكبر؟ قال:" أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ. قلت: ثم مه؟ قال: "أنْ تَقْتَلَ وَلَدَكَ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ" . قلت: ثم مه؟ قال: "أنْ تُزَانِي حَلِيلَةِ جَارِكَ" ، ثم تلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جُبير، أو حُدثت عن سعيد بن جُبير، أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ... إلى آخر الآية، والآية التي في الفرقان (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) إلى (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فلا توبة له، والتي في الفرقان لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ، فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت (إِلا مَنْ تَابَ) قال: فمن تاب منهم قُبل منه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جبير، أو قال: حدثني الحكم عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي، فقال: سل ابن عباس، عن هاتين الآيتين، ما أمرهما عن الآية التي في الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) الآية، والتي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) فسألت ابن عباس عن ذلك، فقال: لما أنزل الله التي في الفرقان، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرّم الله، ودعونا مع الله إلها آخر، فقال: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) الآية. فهذه لأولئك. وأما التي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) ... الآية، فإن الرجل إذا عرف الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم، فلا توبة له. فذكرته لمجاهد،
فقال: إلا من ندم.
حدثنا محمد بن عوف الطائي، قال: ثنا أحمد بن خالد الذهني، قال: ثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، قال: ثني سعيد بن جُبير، قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عباس، عن هاتين الآيتين عن قول الله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى (مَنْ تَابَ) وعن قوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ... إلى آخر الآية، قال: فسألت عنها ابن عباس، فقال: أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) فقال المشركون: فما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وأتينا الفواحش، قال: فأنزل الله (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) ... إلى آخر الآية، قال: وأما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قتل، فلا توبة له.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في هذه الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) ... الآية، قال: نزلت في أهل الشرك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هذه الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) فذكر نحوه.
حدثني عبد الكريم بن عمير، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: ثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان، مَولى لبني الديل من أهل المدينة، عن فليح الشماس، عن عبيد بن أبي عبيد، عن أبي هريرة، قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَتَمة، ثم انصرفت فإذا امرأة عند بابي، ثم سلمت، ففتحت ودخلت، فبينا أنا في مسجدي أصلي، إذ نقرت الباب، فأذنت لها، فدخلت فقالت: إني جئتك أسألك عن عمل عملت، هل لي من توبة؟ فقالت: إني زنيت وولدت، فقتلته، فقلت: ولا لا نعمت العين ولا كرامة، فقامت وهي تدعو بالحسرة تقول: يا حسرتاه، أخُلق هذا الحسن للنار؟ قال: ثم صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة، ثم جلسنا ننتظر الإذن عليه، فأذن لنا، فدخلنا، ثم خرج من كان معي، وتخلفت، فقال: مَا لَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ، ألَكَ حَاجَة؟ فقلت له: يا رسول الله صليت معك البارحة ثم"
انصرفت. وقصصت عليه ما قالت المرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قُلْت لَهَا؟ قال: قلت لها: لا والله، ولا نعمت العين ولا كرامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِئسَ مَا قُلتَ، أمَا كُنْتَ تَقْرَأ هذِهِ الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) ... الآية (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) فقال أبو هريرة: فخرجت، فلم أترك بالمدينة حصنا ولا دارًا إلا وقفت عليه، فقلت: إن تكن فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة الليلة، فلتأتني ولتبشر; فلما صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا هي عند بابي، فقلت: أبشري، فإني دخلت على النبيّ، فذكرت له ما قلت لي، وما قلت لك، فقال: وبئس ما قلت لها، أما كنت تقرأ هذه الآية؟ فقرأتها عليها، فخرّت ساجدة، فقالت: الحمد لله الذي جعل مخرجًا وتوبة مما عملت، إن هذه الجارية وابنها حرَّان لوجه الله، وإني قد تبت مما عملت" .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، قال: اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه، ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول: إن الله يقول لذنب: لا أغفره.
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بالتي في النساء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن الحراني، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل العراق، وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان، والتي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من المنسوخة، نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جُبير: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا فقرأ عليه هذه الآية كلها، فقال سعيد بن جُبير:
قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي، فقال: هذه مكية، نسختها آية مدنية، التي في سورة النساء، وقد أتينا على البيان عن الصواب من القول في هذه الآية التي في سورة النساء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في الأثام من القول، قال أهل التأويل، إلا أنهم قالوا: ذلك عقاب يعاقب الله به من أتى هذه الكبائر بواد في جهنم يُدعى أثاما.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدّث، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: الأثام: واد في جهنم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يَلْقَ أَثَامًا) قال: واديا في جهنم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) قال: واديا في جهنم فيه الزناة.
حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا محمد بن زياد، قال: ثنا شرقي بن قطاميّ، عن لقمان بن عامر الخزاعيّ، قال: جئت أبا أمامة صديّ بن عجلان الباهلي، فقلت: حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدعا لي بطعام، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْر عَشْرَوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَهَا خَمْسِينَ خَرِيفا، ثُمَّ تَنْتَهِي إلى غَيٍّ وأثامٍ" . قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: بِئْرَان فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أهْلِ النَّار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه (أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقوله في الفرقان (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَلْقَ أَثَامًا) قال: الأثام الشرّ، وقال: سيكفيك ما وراء ذلك: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (يَلْقَ أَثَامًا) قال: نكالا قال: وقال: إنه واد في جهنم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا بحجر يهوي فيها أو بصخرة تهوي، عظمها كعشر عشراوات سمان، فقال له رجل: فهل تحت ذلك من شيء؟ قال: نعم غيّ وأثام.
قوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى عاصم (يُضَاعفْ) جزما (وَيَخْلُدْ) جزما. وقرأه عاصم: (يضَاعَفُ) رفعا (وَيَخْلُدُ) رفعا كلاهما على الابتداء، وأن الكلام عنده قد تناهى عند (يَلْقَ أَثَامًا) ثم ابتدأ قوله: (يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ) . والصواب من القراءة عندنا فيه: جزم الحرفين كليهما: يضاعفْ، ويخلدْ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له، ولو كان فعلا له كان الوجه فيه الرفع، كما قال الشاعر:
مَتى تأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ (1)
فرفع تعشو، لأنه فعل لقوله تأته، معناه: متى تأته عاشيا.
وقوله (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان. وقوله: (إِلا مَنْ
(1) البيت للحطيئة (اللسان: عشا) . قال: عشا إلى النار وعشاها عشوًا وعشوًا (كفعول) واعتشاها واعتشى بها: كله: رآها ليلا على بعد، فقصدها مستضيئا بها؛ قال الحطيئة: * متى تأته تعشو *
البيت. أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك. اهـ. وجملة تعشو: في محل نصب على الحال. ولذلك قال المؤلف: فرفع تعشو لأنه فعل لقوله تأته، أي: هو حال من فاعل تأته. أي متى تأته عاشيًا. أما ما رواه الطبري من أن القراء مختلفون في قراءة: (يضاعف) جزمًا ورفعًا فهو كلام وجيه، ولكل قراءة تأويلها من جهة النحو، ولكنه يؤثر رواية الجزم على التفسير، أي البدل مما قبله، وهو (يلق) والذي ذهب إليه المؤلف تبع فيه الفراء في معاني القرآن (مصور الجامعة رقم 24059 ص 226) قال: وقوله: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة} : قرأت القراء بجزم {يضاعف} ورفعه عاصم بن أبي النجود؛ والوجه الجزم. وذلك إن فسرته ولم يكن فعلا لما قبله (أي مصاحبا الفعل الذي قبله) فالوجه الجزم. وما كان فعلا لما قبله رفعته، فأما المفسر للمجزوم (أي المبدل منه) فقوله: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} ثم فسر الأثام، فقال {يضاعف له العذاب} . ومثله في الكلام: "إن تكلمني توصني بالخير والبر أقبل منك" . ألا ترى أنك فسرت الكلام بالبر، ولم يكن له فعلا له، فلذلك جزمت، ولو كان الثاني فعلا للأول لرفعته، كقولك: "إن تأتنا تطلب الخير تجده" . ألا ترى تجد تطلب فعلا للإتيان، كقيلك: إن تأتنا طالبًا للخير تجده، قال الشاعر: متى تأته تعشو ...
"البيت، فرفع تعشو لأنه أراد: متى تأته عاشيًا. ورفع عاصم {يضاعف له} ، لأنه أراد الاستئناف، كما تقول: إن تأتنا نكرمك، نعطيك كل ما تريد، لا على الجزاء."
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) يقول تعالى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جلّ ثناؤه يلق أثاما (إِلا مَنْ تَابَ) يقول: إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك، وإنابته إلى ما يرضاه الله (وَآمَنَ) يقول: وصدّق بما جاء به محمد نبيّ الله (وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) يقول: وعمل بما آمره الله من الأعمال، وانتهى عما نهاه الله عنه.
قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدله بالشرك إيمانا، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به، وبالزنا عفة وإحصانا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحوّلهم إلى الحسنات، وأبدلهم مكان السيئات حسنات.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) ... إلى آخر الآية، قال: هم الذين يتوبون فيعملون بالطاعة، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن سعيد، قال: نزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى آخر الآية في وحشي وأصحابه، قالوا: كيف لنا بالتوبة، وقد عبدنا الأوثان، وقتلنا المؤمنين، ونكحنا المشركات، فأنزل الله فيهم (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قال ابن عباس، في قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: بالشرك إيمانا، وبالقتل إمساكا، والزنا إحصانا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|