
24-07-2025, 03:20 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ لقمان
الحلقة (1128)
صــ 151 لى صــ 160
قالوا ذلك، فقل لهم: الحمد لله الذي خلق ذلك، لا لمن لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ثم قال تعالى ذكره: (بَلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلَمون) يقول: بل أكثر هؤلاء المشركون لا يعلمون من الذي له الحمد، وأين موضع الشكر، وقوله: (لِلهِ ما فِي السَّمَوَاتِ والأرْضِ) يقول تعالى ذكره: لله كلّ ما في السموات والأرض من شيء ملكا كائنا ما كان ذلك الشيء من وثن وصنم وغير ذلك، مما يعبد أو لا يعبد (إنَّ الله هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ) يقول: إن الله هو الغنيّ عن عباده هؤلاء المشركين به الأوثان والأنداد، وغير ذلك منهم ومن جميع خلقه؛ لأنهم ملكه وله، وبهم الحاجة إليه، الحميد: يعني: المحمود على نعمه التي أنعمها على خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) }
يقول تعالى ذكره: ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما (والبَحْرُ يَمُدُّهُ) يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله: (يَمُدُّهُ) عائدة على البحر. وقوله: (منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مِا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفذ ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن عن هذه الآية (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال: لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحور مدادا، وقال الله: إن من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفد ماء البحور، وتكسَّرت الأقلام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو في قوله: (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال: لو بريت أقلاما والبحر مدادا، فكتب بتلك الأقلام منه (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ولو مدّه سبعة أبحر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلَوْ أنَّما في
الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، قال: لو كان شجر البرّ أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب مجادلة كانت من اليهود له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد، أرأيت قوله: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلا) إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلا" ، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كلّ شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّها في عِلْمِ اللهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذلكَ ما يكْفِيكُمْ" ، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) قال: فنزلت (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدذُهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال: ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار، وأدخلكم الجنة، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: لما نزلت بمكة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العلْم إلا قَلِيلا) يعني: اليهود، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أتاه أحبار يهود، فقالوا: يا محمد، ألم يبلغنا أنك تقول: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا) أفتعنينا أم قومك؟ قال: "كُلا قَدْ عَنَيْتُ" ، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان
كلّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ فِي عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ، وقَدْ أتاكُمُ اللهُ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ" ، فأنزل الله: (وَلَوْ أنَّما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ... ) إلى قوله: (إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (والبَحْرُ يَمُدُّهُ مَنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والكوفة: (والبحرُ) رفعا على الابتداء، وقرأته قرّاء البصرة نصبا، عطفا به على "ما" في قوله: (وَلَوْ أنَّمَا فِي الأرْضِ) ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندي. وقوله: (إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول: إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به، وادّعى معه إلها غيره، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) }
يقول تعالى ذكره: ما خلقكم أيها الناس ولا بعثكم على الله إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، وذلك أن الله لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه (إنما أمره إذَا أرَادَ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) فسواء خلق واحد وبعثه، وخلق الجميع وبعثهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (كَنَفْسٍ وِاحِدَةٍ) يقول: كن فيكون للقليل والكثير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) قال: يقول: إنما خلق الله الناس كلهم وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها، وإنما صلح أن يقال: إلا كنفس واحدة، والمعنى: إلا كخلق نفس واحدة؛ لأن المحذوف فعل يدلّ عليه قوله: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) والعرب تفعل ذلك في المصادر، ومنه قول الله: (تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ) والمعنى: كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، فلم يذكر الدوران والعين لما وصفت.
وقوله: (إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله سميع لما يقول هؤلاء المشركون ويفترونه على ربهم، من ادّعائهم له الشركاء والأنداد وغير ذلك من كلامهم وكلام غيرهم، بصير بما يعملونه وغيرهم من الأعمال، وهو مجازيهم على ذلك جزاءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) }
يقول تعالى ذكره: (ألَمْ تَرَ) يا محمد بعينك (أنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يقول: يزيد من نقصان ساعات الليل في ساعات النهار (وَيُولجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يقول: يزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات اللَّيل.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) نقصان الليل في زيادة النهار (وَيُولجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) نقصان النهار في زيادة الليل.
وقوله: (وَسَخَّر الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلى أجَل مُسَمًّى) يقول تعالى ذكر: وسخر الشمس والقمر لمصالح خلقه ومنافعهم، (كلٌّ يجري) يقول: كلّ ذلك يجري بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدود إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول: لذلك كله وقت وحد معلوم، لا يجاوزه ولا يعدوه.
وقوله: (وَأنَّ اللهَ بمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ) يقول: وإن الله بأعمالكم أيها الناس من خير أو شرّ ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك، وخرج هذا الكلام خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به المشركون، وذلك
أنه تعالى ذكره: نبه بقوله: (أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) على موضع حجته من جهل عظمته، وأشرك في عبادته معه غيره، يدلّ على ذلك قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) }
يقول تعالى ذكر: هذا الذي أخبرتك يا محمد أن الله فعله من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، وغير ذلك من عظيم قُدرته، إنما فعله بأنه الله حقا، دون ما يدعوه هؤلاء المشركون به، وأنه لا يقدر على فعل ذلك سواه، ولا تصلح الألوهة إلا لمن فعل ذلك بقُدرته.
وقوله. (وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ) يقول تعالى ذكره: وبأن الذي يعبد هؤلاء المشركون من دون الله الباطل الذي يضمحلّ، فيبيد ويفنى (وأنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) يقول تعالى ذكره: وبأن الله هو العليُّ، يقول: ذو العلوّ على كلّ شيء، وكلّ ما دونه فله متذلل منقاد، الكبير الذي كل شيء دونه، فله متصاغر.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد أن السفن تجري في البحر نعمة من الله على خلقه (لِيُرِيكُمْ مِنْ آياتِهِ) يقول: ليريكم من عبره وحججه عليكم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول: إن في جري الفلك في البحر دلالة على أن الله الذي أجراها هو الحقّ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطل (لكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول: لكلّ من صبر نفسه عن محارم الله، وشكره على نعمه فلم يكفره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قال: كان مطرف يقول: إنّ من أحبّ عباد الله إليه: الصبَّار الشَّكور.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ
لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ، (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُوقِنينَ) ، (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُؤْمِنينَ) .
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة، عن الشعبيّ (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال: الصبر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله.
إن قال قائل: وكيف خصّ هذه الدلالة بأنها دلالة للصبَّار الشَّكور دون سائر الخلق؟ قيل: لأنّ الصبر والشكر من أفعال ذوي الحجى والعقول، فأخبر أن في ذلك لآيات لكلّ ذي عقل؛ لأن الآيات جعلها الله عبرا لذوي العقول والتمييز.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) }
يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان في البحر -إذا ركبوا في الفُلك- موج كالظُلل، وهي جمع ظُلَّة، شبَّه بها الموج في شدة سواد كثرة الماء، قال نابغة بني جعدة في صفة بحر:
يُماشِيهِنَّ أخْضَرُ ذُو ظلال ... عَلى حافاتِهِ فِلَق الدّنانِ (1)
وشبه الموج وهو واحد بالظلل، وهي جماع، لأن الموج يأتي شيء منه بعد شيء، ويركب بعضه بعضا كهيئة الظلل. وقوله: (دَعَوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره. قوله: (فَلَمَّا نجَّاهُمْ إلى البَرّ) مما كانوا يخافونه في البحر من الغرق والهلاك إلى البرّ. (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يقول: فمنهم مقتصد في قوله وإقراره بربه، وهو مع ذلك مضمر الكفر به.
(1) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 191 ب) قال عند تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل) : واحدتها: ظلة. ومجازه: من شدة سواد كثرة الماء ومعظمه. قال النابغة الجعدي وهو يصف البحر: "يماشيهن ... فلق الدنان" . يريد: أن البحر يمتد معهن في سيرهن. وظلال البحر: أمواجه، لأنها ترفع فتظل السفينة ومن فيها. والدنان بالدال المهملة: جمع دن بالفتح، هو راقود الخمر الكبير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال: المقتصد في القول وهو كافر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال: المقتصد الذي على صلاح من الأمر.
وقوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) يقول تعالى ذكره: وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلا كلّ غدّار بعهده، والختر عند العرب: أقبح الغدر، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
وَإنَّكَ لَوْ رأيْتَ أبا عُمَيْرٍ ... مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرٍ (1)
وقوله: (كَفُور) يعني: جحودا للنعم، غير شاكر ما أسدى إليه من نعمة.
وبنحو الذي قلنا في معنى الختار قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: كلّ غَدّار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كُلُّ خَتَّارٍ) قال: غدّار.
حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا ثنا ابن علية، عن أبي رجاء عن الحسن في قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: غدّار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَمَا يَجْحَدُ
(1) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة، الورقة 191 ب) عند تفسير قوله تعالى: (كل مختار كفور) قال: الختر: الكبر والغدر، قال عمرو بن معد يكرب "وإنك لو رأيت" البيت وفي (اللسان ختر) : الختر شبيه بالغدر والخديعة، وقيل: هو الخديعة بعينها، وقيل: هو أسوأ الغدر وأقبحه، ختر يختر، فهو خاتر، وختار للمبالغة، والفعل من بابي ضرب ونصر.
بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الختار: الغدار، كلّ غدار بذمته كفور بربه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: كلّ جحاد كفور.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال: الختار: الغدّار، كما تقول: غدرني.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر، قال: سمعت قَتادة قال: الذي يغدر بعهده.
قال: ثنا المحاربي، عن جُوَيبر، عن الضحاك، قال: الغدّار.
قال: ثنا أبي: عن الأعمش، عن سمر بن عطية الكاهلي، عن عليّ رضي الله عنه قال: المكر غدر، والغدر كفر.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) }
يقول تعالى ذكره: أيها المشركون من قريش، اتقوا الله، وخافوا أن يحلّ بكم سخطه في يوم لا يغني والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا؛ لأن الأمر يصير هنالك بيد من لا يغالب، ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا. وقوله: (إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ) يقول: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا) يقول: فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا ولذّاتها، فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله ذلك اليوم. وقوله: (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ) يقول: ولا يخدعنَّكم بالله خادع. والغَرور بفتح الغين: هو ما غرّ الإنسان من شيء كائنا ما كان شيطانا كان أو إنسانا، أو دنيا، وأما الغُرور بضم الغين: فهو مصدر من قول القائل: غررته غرورا.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (ولا يَغُرَّنَّكُمْ باللهِ الغَرُورُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (الغَرُور) قال: الشيطان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلا يَغُرنَّكُمْ باللهِ الغَرُور) ذاكم الشيطان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد المروزي، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الغَرُورُ) قال: الشيطان.
وكان بعضهم يتأوّل الغَرور بما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَير قوله: (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ باللهِ الغَرُورُ) قال: إن تعمل بالمعصية وتتمنى المغفرة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) }
يقول تعالى ذكره: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) هو آتيكم؛ علم إتيانه إياكم عند ربكم، لا يعلم أحد متى هو جائيكم، لا يأتيكم إلا بغتة، فاتقوه أن يفجأكم بغتة، وأنتم على ضلالتكم لم تنيبوا منها، فتصيروا من عذاب الله وعقابه إلى ما لا قبل لكم به. وابتدأ تعالى ذكره الخبر عن علمه بمجيء الساعة. والمعنى: ما ذكرت لدلالة الكلام على المراد منه، فقال: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره (وينزلُ الغيْثَ) من السماء، لا يقدر على ذلك أحد غيره، (وَيَعْلَمُ ما في الأرْحامِ) أرحام الإناث (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدًا) يقول: وما تعلم نفس حيّ ماذا تعمل في غد، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ) يقول: وما تعلم نفس حيّ بأيّ أرض تكون منيتها (إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قال: جاء رجل - قال أبو جعفر: أحسبه أنا، قال: - إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حُبلى، فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا محل جدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت، فأخبرني متى أموت، فأنزل الله: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ ... ) إلى آخر السورة، قال: فكان مجاهد يقول: هنّ مفاتح الغيب التي قال الله (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) الآية، أشياء من الغيب، استأثر الله بهنّ، فلم يطلع عليهنّ ملَكا مقرّبا، ولا نبيا مرسلا (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أيّ سنة، أو في أيّ شهر، أو ليل، أو نهار (ويُنزلُ الغَيْثَ) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلا أو نهارا ينزل؟ (وَيَعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ) فلا يعلم أحد ما فِي الأرحام، أذكر أو أنثى، أحمر أو أسود، أو ما هو؟ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) خير أم شرّ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت؟ لعلك الميت غدا، لعلك المصاب غدا؟ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ) ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض في بحر أو برّ أو سهل أو جبل، تعالى وتبارك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: قالت عائشة: من قال: إن أحدا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب، وأعظم الفرية على الله، قال الله: (لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) .
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن عمرو بن شُعيب أن رجلا قال: يا رسول الله، هل من العلم علم لم تؤته؟ قال: "لَقَدْ أُوتِيتُ عِلْما"
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|