
25-07-2025, 02:02 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,670
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ص
الحلقة (1185)
صــ 171 لى صــ 180
فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟! فقال له داود: نعم، والله لأنفذنّ أمر الله فيك; فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أُخِذت بهذا الذنب، ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فبذلك قُتلت، فأمر به داود فقُتل، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود، وشدد به مُلْكه، فهو قول الله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ) .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك تعالى أخبر أنه شَدَّد ملك داود، ولم يحضر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له ولا على هيبة الناس له دون الجنود. وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا، وجائز أن يكون كان بجميعها، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله، إذ لم يحر ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له.
وقوله (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني بها النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السديّ، قوله (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) قال: النبوّة.
وقال آخرون: عنى بها أنه علم السنن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) : أي السنة.
وقد بينا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال
بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) قال: أعطي الفهم.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: إصابة القضاء وفهمه.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: علم القضاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: الخصومات التي يخاصم الناس إليه فصل ذلك الخطاب، الكلام الفهم، وإصابة القضاء والبيِّنات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، قال: سمعت أبا عبد الرحمن يقول: فصل الخطاب: القضاء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب، بتكليف المدّعي البينة، واليمين على المدعى عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، قال: ثني الشعبيّ أو غيره، عن شريح أنه قال في قوله (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: بيِّنة المدَّعي، أو يمين المُدَّعى عليه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن داود بن أبي هند، في قوله (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: نُبِّئْت عن شريح أنه قال: شاهدان أو يمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر، قال: سمعت داود قال: بلغني
أن شريحا قال (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) الشاهدان على المدعي، واليمين على من أنكر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن طاوس، أن شريحا قال لرجل: إن هذا يعيب عليّ ما أُعْطِيَ داود، الشهود والأيمان.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن شريح أنه قال في هذه الآية (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: الشهود والأيمان.
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا داود، عن الشعبي، في قوله (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: يمين أوْ شَاهِدٌ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) البينة على الطالب، واليمين على المطلوب، هذا فصل الخطاب.
وقال آخرون: بل هو قولُ: أما بعد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال: قول الرجل: أما بعد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى داود صلوات الله عليه فصل الخطاب، والفصل: هو القطع، والخطاب هو المخاطبة، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم، ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا، فإقامة البينة على دعواه وإن كان مدعى عليه فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد. فإذ كان ذلك كله محتملا ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أي ذلك المراد، ولا ورد به خبر عن الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ثابت، فالصواب أن يعم الخبر، كما عمه الله، فيقال: أوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل: إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان، وخرج في لفظ الواحد، لأنه مصدر مثل الزور والسفر، لا يثنى ولا يجمع; ومنه قول لبيد:
وَخَصْمٍ يَعدوّنَ الذُّحُولَ كَأَنَّهُمْ ... قُرُوم غَيَارَى كلُّ أزْهَرَ مُصْعَب (1)
وقوله (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) يقول: دخلوا عليه من غير باب المحراب; والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه.
وقوله (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ) فكرّر إذ مرّتين وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: قد يكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت، فيكون الدخول هو الاجتراء، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما، فكأنه قال: إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا، قال: وإن شئت جعلت لما في الأول، فإذا كان لما أولا أو آخرا، فهي بعد صاحبتها، كما تقول: أعطيته لما سألني، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره.
وقوله (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) يقول القائل: وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان، فإن فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المدخل
(1) البيت للبيد (مجاز القرآن لأبي عبيدة، الورقة 213 - ب) . قال: "نبأ الخصم" : يقع على الواحد والجمع. قال لبيد: "وخصم ..." البيت. والذحول: جمع ذحل، وهو الثأر. والقروم جمع قرم، وهو الفحل العظيم من الإبل. وغياري: جمع غيران. والأزهر: الأبيض والمصعب: الشديد القوي الذي يودع من الركوب والعمل، للفحلة. (اللسان: صعب. أهـ شبه الخصوم الأقوياء بالفحول من الإبل.
عليه، فراعه دخولهما كذلك عليه. وقيل: إن فزعه كان منهما، لأنهما دخلا عليه ليلا في غير وقت نظره بين الناس; قالوا: (لا تَخَفْ) يقول تعالى ذكره: قال له الخصم: لا تخف يا داود، وذلك لمَّا رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه، وهو مرافع خصمان، وذلك نحن. وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع، لأن قوله (خَصْمَانِ) فعل للمتكلم، والعرب تضمر للمتكلم والمكلم والمخاطب ما يرفع أفعالهما، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما، فيقولون للرجل يخاطبونه: أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه: أحسن إليك وتجمل، وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكَّلم، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حُذف الاسم، وأكثر ما يجيءُ ذلك في الاستفهام، وإن كان جائزا في غير الاستفهام، فيقال: أجالس راكب؟ فمن ذلك قوله خَصْمان; ومنه قول الشاعر:
وَقُولا إذا جاوَزْتُمَا أرْضَ عامِرٍ ... وَجَاوَزْتُمَا الحَيْين نَهْدًا وَخَشْعَما نزيعانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبَّانَ إنهمْ ... أبَوْا أنْ يُميرُوا في الهَزَاهِزِ مِحْجَما (1)
وقول الآخر:
تَقُولُ ابْنَةُ الكَعْبِيّ يوْمَ لَقِيتُها ... أمُنْطَلِقٌ فِي الجَيشِ أمْ مُتَثَاقِلُ (2)
(1) البيتان: من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 278) على أن خصمان من قوله تعالى: "قالوا خصمان" : رفع بإضمار نحن. قال: والعرب تضمر للمتكلم والمخاطب ما يرفع فعله، ولا يكادون يفعلون ذلك بغير المخاطب أو المتكلم. من ذلك أن تقول للرجل: أذاهب؟ أو أن يقول المتكلم: واصلكم إن شاء الله، ومحسن إليكم. من ذلك أن تقول للرجل: أذاهب؟ أو أن يقول المتكلم: واصلكم إن شاء الله، ومحسن إليكم. وذلك أن المتكلم والمكلم حاضران فتعرف معنى أسمائها إذ تركت. وأكثره في الاستفهام، يقولون: أجاد؟ أمنطق وقد يكون في غير الاستفهام. فقوله "خصمان" من ذلك. وقال الشاعر: "وقولا إذا ..." البيتين. وقد جاء في آثار للراجع من سفر: "تائبون آيبون، لربنا حامدون" الخ. قلت: والشاهد في البيتين قوله "نزيعان" : أي نحن نزيعان. فهو مرفوع على تقدير مضمر قبله، وإن لم يكن معه استفهام
(2) وهذا البيت أيضاً من شواهد الفراء في معاني القرآن، على أنه قد يكون المبتدأ محذوفاً ويكثر أن يكون ذلك مع وجود الاستفهام في الكلام، كقوله في البيت: أمنطلق في الجيش أم متثاقل؟ أي أأنت منطلق ... الخ.
ومنه قولهم: "مُحْسِنة فهيلى" . وقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "آئِبُونَ تَائِبُونَ" . وقوله: "جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله" كلّ ذلك بضمير رَفَعه. وقوله عزّ وجلّ (بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) يقول: تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ) يقول: فاقض بيننا بالعدل (وَلا تُشْطِطْ) : يقول: ولا تجُر، ولا تسرف في حكمك، بالميل منك مع أحدنا على صاحبه. وفيه لغتان: أشَطَّ، وشَطَّ. ومن الإشطاط قول الأحوص:
ألا يا لقَوْمٍ قدْ أشَطَّتْ عَوَاذِلِي ... وَيَزْعُمْنَ أنْ أودَى بحَقِّي باطِلي (1)
ومسموع من بعضهم: شَطَطْتَ عليّ في السَّوم. فأما في البعد فإن أكثر كلامهم: شَطَّتْ الدار، فهي تَشِطّ، كما قال الشاعر:
تَشِطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا ... وللدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أبْعَدُ (2)
وقوله (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) يقول: وأرشدنا إلى قصد الطريق المستقيم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَلا تُشْطِطْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلا تُشْطِطْ) : أي لا تمل.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلا تُشْطِطْ) يقول: لا تُحِف.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تُشْطِطْ) تخالف عن الحقّ، وكالذي قلنا أيضا في قوله (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) قالوا.
(1) وهذا البيت للأحوص، وهو كسابقه مروي في اللسان: "شطط" وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة، شاهداً على أن معنى أشطت، بالهمز في أوله: أبعدت. وأودى بحقه: ذهب به وأهلكه.
(2) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 213) عند قوله تعالى: "ولا تشطط" أي: لا تسرف. وأنشد "تشطط غدا دار جيراننا ..." البيت. ويقال: كلفتني شططا: منه وشطت الدار: بعدت. أهـ. وفي اللسان: (شطط) : وفي التنزيل "ولا تشطط" . وقريء "ولا تشطط" بضم الطاء الأولى، وفتح التاء، ومعناها: لا تبعد عن الحق. أهـ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) إلى عدله وخيره.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) إلى عدل القضاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) قال: إلى الحق الذي هو الحق: الطريق المستقيم (وَلا تُشْطِطْ) تذهب إلى غيرها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) : أي احملنا على الحق، ولا تخالف بنا إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) }
وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له، وذلك أن داود كانت له فيما قيل: تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة; فلما قتل نكح فيما ذكر داود امرأته، فقال له أحدهما: (إِنَّ هَذَا أَخِي) يقول: أخي على ديني.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: (إِنَّ هَذَا أَخِي) : أي على ديني (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: "إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى" وذلك على سبيل توكيد العرب الكلمة، كقولهم: هذا رجل ذكر، ولا
يكادون أن يفعلوا ذلك إلا في المؤنث والمذكر الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه كالمرأة والرجل والناقة، ولا يكادون أن يقولوا هذه دار أنثى، وملحفة أنثى، لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها. وقيل: عنى بقوله: أنثى: أنها حسنة.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن المحاربي، عن جُوَيبر، عن الضحاك "إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى" يعني بتأنيثها. حسنها.
وقوله (فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا) يقول: فقال لي: انزل عنها لي وضمها إليّ.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَكْفِلْنِيهَا) قال: أعطنيها، طلِّقها لي، أنكحها، وخلّ سبيلها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، فقال: (أَكْفِلْنِيهَا) أي احملني عليها.
وقوله (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) يقول: وصار أعز مني في مخاطبته إياي، لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشدّ مني فقهرني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال عبد الله في قوله (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) قال: ما زاد داود على أن قال: انزل لي عنها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن المسعودي، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: ما زاد على أن قال: انزل لي عنها.
وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: قال عبد الله: ما زاد داود على أن قال: (أكفلنيها) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشدّ مني، فذلك قوله (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) ; أي ظلمني وقهرني.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) قال: قهرني، وذلك العزّ; قال: والخطاب: الكلام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) : أي قهرني في الخطاب، وكان أقوى مني، فحاز نعجتي إلى نعاجه، وتركني لا شيء لي.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) قال: إن تكلم كان أبين مني، وإن بطش كان أشدّ مني، وإن دعا كان أكثر مني.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) }
يقول تعالى ذكره: قال داود للخصم المتظلم من صاحبه: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه; وهذا مما حذفت منه الهاء فأضيف بسقوط الهاء منه إلى المفعول به، ومثله قوله عزّ وجلّ: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) والمعنى: من دعائه بالخير، فلما ألقيت الهاء من الدعاء أضيف إلى الخير، وألقي من الخير الباء; وإنما كنى بالنعجة ها هنا عن المرأة، والعرب تفعل ذلك; ومنه قول الأعشى:
قَدْ كُنْتُ رَائِدَهَا وَشاةِ مُحَاذِرٍ ... حَذرًا يُقِلُّ بعَيْنِهِ إغْفَالَهَا (1)
يعني بالشاة: امرأة رجل يحذر الناس عليها; وإنما يعني: لقد ظلمت بسؤال امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه.
وقوله (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم على بعض (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول: وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، ولم يتجاوزوه (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) وفي "ما" التي في قوله (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) وجهان: أحدهما أن تكون صلة بمعنى: وقليل هم، فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يفسد معنى الكلام: والآخر أن تكون اسما، و "هم" صلة لها، بمعنى: وقليل ما تجدهم، كما يقال: قد كنت أحسبك أعقل مما أنت، فتكون أنت صلة لما، والمعنى: كنت أحسب عقلك أكثر مما هو، فتكون "ما" والاسم مصدرا، ولو لم ترد المصدر لكان الكلام بمن، لأن من التي تكون للناس وأشباههم، ومحكي عن العرب: قد كنت أراك أعقل منك مثل ذلك، وقد كنت أرى أنه غير ما هو، بمعنى: كنت أراه على غير ما رأيت.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني به عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن على، عن ابن عباس، في قوله (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) يقول: وقليل الذين هم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) قال: قليل من لا يبغي.
فعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن عباس معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل الذين
(1) البيت في ديوان الأعشى ميمون بن قيس (طبعة القاهرة ص 27) من لاميته التي مطلعها: "رحلت سمية غدوة أجمالها ..." البيت وفيه: "بت" في مكان "كنت" . والضمير في رائدها: راجع على الأرض التي تزينت بأنواع النبات في البيت السابق. والشاة من الحيوان: يكنى بها عن المرأة. ومحاذر: شديد المحاذرة عليها دائم المراقبة لها، وهو زوجها. وقوله "شاة" بالجر: معطوف على قوله في بيت سابق: "رب غانية صرمت وصالها" . يقول: رب مصاب سحابة بت رائدها، ورب امرأة لها زوج يحذر عليها ويراقبها مراقبة شديدة، حتى إذا غفل عنها آخر الليل، دنوت منها.... الخ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|