| 
 
25-07-2025, 03:23 PM
 | 
| 
|  | قلم ذهبي مميز |  | 
تاريخ التسجيل: Feb 2019 مكان الإقامة: مصر الجنس :   
المشاركات: 164,770
 
الدولة :        |  | 
| 
 رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد 
   تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآنالإمام محمد بن جرير الطبري
 الجزء الحادى والعشرون
 تَفْسِيرِ سُّورَةِ ص
 الحلقة (1189)
 صــ 211 لى صــ 220
 
 الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلا.
 القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) }
 اختلف أهل التأويل في معنى قوله (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)  وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في سورة الأنبياء  بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام: فاغتسل وشرب، ففرجنا عنه  ما كان فيه من البلاء، ووهبنا له أهله، من زوجة وولد (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا) له ورأفة (وَذِكْرَى) يقول: وتذكيرا لأولي العقول، ليعتبروا بها فيتعظوا.
 وقد حدثني يونس،  قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن  أنس بن مالك، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ  نَبِيَّ الله أيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤهُ ثَمانِيَ عَشْرَة سَنَة،  فَرَفَضَه القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، إلا رَجُلانِ مِنْ إخْوَانِهِ كانا مِنْ  أخَصّ إخْوَانِهِ بِهِ، كَانَا يَغْدُوانِ إلَيْهِ ويَرُوحانِ، فَقالَ  أحَدُهُما لِصَاحِبه: تَعْلَم والله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْبًا ما  أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ومَا ذَاكَ؟  قَالَ: مِنْ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله فَيَكْشِفَ ما  بِهِ; فَلَمَّا رَاحا إلَيْهِ لَمْ يَصْبِر الرَّجُلُ حتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ  لَهُ، فقَالَ أيَّوُّبُ: لا أدْرِي ما تَقُولُ، غَيرَ أنَّ الله يَعْلَمُ  أنِّي كُنْتُ أمُرُّ على الرُّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ فَيَذْكُرَانِ الله،  فَأَرْجِعَ إلى بَيْتِي فَأكفِّرُ عَنْهُما كَرَاهِيَةَ أنْ يُذْكَرَ الله  إلا في حَقّ; قال: وكان يَخْرُجُ إلى حاجَتِهِ، فإذَا قَضَاها أمْسَكَت  امْرأُتُه بِيَدِهِ حتى يَبْلُغ فَلَما كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأُ عَلَيْها،  وأوحِيَ إلى أيُّوب في مَكانِهِ: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)  فاسْتَبطأتَهُ، فَتَلقتهُ تَنْظُرُ، فأقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أذْهَبَ الله  ما بِهِ مِنَ البَلاءِ، وَهُوَ عَلى أحْسَنِ ما كانَ; فَلَمَّا رَأتْهُ  قَالَتْ: أيْ بارَكَ الله فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ الله هَذَا  المُبْتَلى، فوالله على ذلك ما رَأَيْتُ أحَدًا"
 أشْبَهَ بِهِ  منْكَ إذْ كانَ صحيحا؟ قال: فإنّي أنا هُوَ; قال: وكانَ لَهُ أنْدرَانِ:  أنْدَرٌ للْقَمْحِ، وأنْدَرٌ للشَّعِيرِ، فَبَعَثَ الله سَحَابَتَيْنِ،  فَلَمَّا كانَتْ إحْداهُما على أنْدَرِ القَمْحِ، أفْرَغَتْ فِيهِ  الذَّهَبَ حتى فاضَ، وأفرغَتِ الأخْرَى في أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِق حتى  فاضَ "."
 حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال: قال الحسن وقتادة: فأحياهم الله بأعيانهم، وزادهم مثلهم.
 حدثني محمد بن  عوف، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان، قال: ثنا عبد الرحمن بن  جُبَير، قال: لما ابتُلي نبيّ الله أيوب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم  بماله وولده وجسده، وطُرح في مَزْبَلة، جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما  تطعمه، فحسده الشيطان على ذلك، وكان يأتي أصحاب الخبز والشويّ الذين كانوا  يتصدّقون عليها، فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم، فإنها تعالج صاحبها  وتلمسه بيدها، فالناس يتقذّرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على  ذلك; وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لمَا لقي أيوب، فيقول: لَجَّ صاحبك،  فأبى إلا ما أتى، فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كلّ ضرّ، ولرجع إليه  ماله وولده، فتجيء، فتخبر أيوب، فيقول لها: لقيك عدوّ الله فلقنك هذا  الكلام; ويلك، إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته  وأدخلته، وإن لم يأتها بشيء طردته، وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله  المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفر به، ونبدّل فيره! إن  أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنَّك مئةً، قال: فلذلك قال الله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ)
 وقوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا)  يقول: وقلنا لأيوب: خذ بيدك ضغثا، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرُّطْبة،  وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق; ومنه  قول عوف بن الخَرِع:
 وأسْفَل مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُها ... وألْقَيْتُ ضِغْثا مِن خَلا متَطَيِّبِ (1)
 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس، قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) يقول: حُزْمة.
 حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به.
 حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، في قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) قال: عيدانا رطبة.
 حدثنا أبو هشام الرفاعيّ، قال: ثنا يحيى، عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) قال: هو الأثْل.
 حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا)  .. الآية، قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء،  فقال: لو تكلمت بكذا وكذا، وإنما حملها عليها الجزع، فحلف نبي الله: لِئن  الله شفاه ليجلِدنَّها مئة جلدة; قال: فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا،  والأصل تكملة المِئَة، فضربها ضربة واحدة، فأبرّ نبيُّ الله، وخَفَّفَ الله  عن أمَتِهِ، والله رحيم.
 
 (1)البيت لعوف بن الخرع (مجاز القرآن لأبى عبيدة الورقة 215 - ب) ويؤيد أنه في معجم الشعراء: عوف بن عطية بن الخرع، وكذا في التاج. قال أبو عبيدة عند تفسير قوله تعالى: "وخذ بيدك ضعثا: وهو ملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ وما أشبه ذلك، قال عوف بن الخرع:" واسفل منى ... البيت ". وفي اللسان: وفرس نهد جسيم مشرف وقيل النهد الضخم القوى والأنثى نهدة. والخلا: الرطب من الحشيش (مثل البرسيم، أو هو البرسيم) ." حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا)  يعني: ضِغْثا من الشجر الرَّطْب، كان حلف على يمين، فأخذ من الشجر عدد ما  حلف عليه، فضرب به ضَرْبة واحدة، فبرّت يمينه، وهو اليوم في الناس يمين  أيوب، من أخذ بها فهو حسن.
 حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) قال: ضِغْثا واحدا من الكلأ فيه أكثر من مِئَة عود، فضرب به ضربة واحدة، فذلك مِئَة ضربة.
 حدثني محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان، قال: ثنا عبد الرحمن بن جُبَير (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ) يقول: فاضرب زوجتك بالضِّغْث، لتَبرّ في يمينك التي حلفت بها عليها أن تضربها (وَلا تَحْنَثْ) يقول: ولا تحنَثْ في يمينك.
 وقوله (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ) يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله، والدخول في معصيته (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) يقول: إنه على طاعة الله مقبل، وإلى رضاه رجَّاع.
 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ (47) }
 اختلفت القرّاء في قراءة قوله (عِبَادِنَا) فقرأته عامة قرّاء الأمصار: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا) على الجماع غير ابن كثير، فإنه ذكر عنه أنه قرأه: "واذكر عبدنا" على التوحيد، كأنه يوجه الكلام إلى أن إسحاق ويعقوب من ذرّية إبراهيم، وأنهما ذُكِرا من بعده.
 حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، سمع ابن عباس يقرأ: "واذكر عبدنا إن إبراهيم" قال: إنما ذكر إبراهيم، ثم ذُكِر ولده بعده.
 والصواب عنده من  القراءة في ذلك، قراءة من قرأه على الجماع، على أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب  بيان عن العباد، وترجمة عنه، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
 وقوله (أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) ويعني بالأيدي: القوّة، يقول: أهل القوّة على عبادة الله وطاعته. ويعني بالأبصار: أنهم أهل أبصار القلوب، يعني به: أولى العقول (1) للحقّ.
 وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم في ذلك نحوًا مما قلنا فيه.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أُولِي الأيْدِي) يقول: أولي القوّة والعبادة، والأبْصَارِ يقول: الفقه في الدين.
 حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) قال: فضِّلوا بالقوّة والعبادة.
 حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور أنه قال في هذه الآية (أُولِي الأيْدِي) قال: القوّة.
 حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزّة، عن مجاهد، في قوله (أُولِي الأيْدِي) قال:
 
 (1)لعل العبارة قد سقط منهما كلمة "والأبصار" . كما يفهم مما قبله، ومما يجيء. القوّة في أمر الله.
 حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (أُولِي الأيْدِي) قال: الأيدي: القوّة في أمر الله، (وَالأبْصَارَ) : العقول.
 حدثني محمد بن  عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن،  قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) قال: القوّة في طاعة الله، (وَالأبْصَارَ) : قال: البصر في الحقّ.
 حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) يقول: أعطوا قوة في العبادة، وبصرًا في الدين.
 حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله (أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) قال: الأيدي: القوّة في طاعة الله، والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم.
 حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله (أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) قال: الأيدي: القوّة، والأبصار: العقول.
 فإن قال لنا  قائل: وما الأيدي من القوّة، والأيدي إنما هي جمع يد، واليد جارحة، وما  العقول من الأبصار، وإنما الأبصار جمع بصر؟ قيل: إن ذلك مثل، وذلك أن باليد  البطش، وبالبطش تُعرف قوّة القويّ، فلذلك قيل للقويّ: ذو يَدٍ; وأما  البصر، فإنه عنى به بصر القلب، وبه تنال معرفة الأشياء، فلذلك قيل للرجل  العالم بالشيء: يصير به. وقد يُمكن أن يكون عَنى بقوله (أُولِي الأيْدِي)  : أولي الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة، فجعل الله أعمالهم الصالحة التي  عملوها في الدنيا أيديا لهم عند الله تمثيلا لها باليد، تكون عند الرجل  الآخر.
 وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرؤه: "أولى الأيدِ" بغير ياء، وقد
 يُحتمل أن يكون ذلك من التأييد، وأن يكون بمعنى الأيدي، ولكنه أسقط منه الياء، كما قيل: (يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي) ، وقوله عَزّ وجلّ: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ) يقول تعالى ذكره: إنا خصصناهم بخاصة: ذكر الدار.
 واختلف القرّاء في قراءة قوله (بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) فقرأته عامة قرّاء المدينة: "بخالصة ذكرى الدار" بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار، بمعنى: أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى، والذكرى إذا قُرئ كذلك غير الخالصة، كما المتكبر إذا قُرئ: "على كلّ قلب متكبر" بإضافة القلب إلى المتكبر، هو الذي له القلب وليس بالقلب. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق: (بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) بتنوين قوله (خَالِصَةً)  وردّ ذكرى عليها، على أن الدار هي الخالصة، فردّوا الذكر وهي معرفة على  خالصة، وهي نكرة، كما قيل: لشرّ مآب: جهنم، فرد جهنم وهي معرفة على المآب  وهي نكرة.
 والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
 وقد اختلف أهل  التأويل، في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى  الدار: أي أنهم كانوا يذَكِّرون الناس الدار الآخرة، ويدعونهم إلى طاعة  الله، والعمل للدار الآخرة.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال: بهذه أخلصهم الله، كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله.
 وقال آخرون: معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثني عليّ بن الحسن الأزدي، قال: ثنا يحي بن يمان، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال: بذكر الآخرة فليس لهم همّ غيرها.
 حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال: بذكرهم الدار الآخرة، وعملهم للآخرة.
 وقال آخرون: معنى  ذلك: إنا أخلصناهم بأفضلِ ما في الآخرة; وهذا التأويل على قراءة من قرأه  بالإضافة. وأما القولان الأوّلان فعلى تأويل قراءة من قرأه بالتنوين.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال أبن زيد، في قوله: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" قال: بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به، وأعطيناهم إياه; قال: والدار: الجنة، وقرأ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ) قال: الجنة، وقرأ: (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) قال: هذا كله الجنة، وقال: أخلصناهم بخير الآخرة.
 وقال آخرون: بل معنى ذلك: خالصة عُقْبَى الدار.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير (بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال: عُقبى الدار.
 وقال آخرون: بل معنى ذلك: بخالصة أهل الدار.
 * ذكر من قال ذلك:
 حُدثت عن ابن أبي زائدة، عن ابن جُرَيج، قال: ثني ابن أبي نجيح، أنه سمع مجاهدا يقول: (بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) هم أهل الدار; وذو الدار، كقولك: ذو الكلاع، وذو يَزَن.
 وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأوّل ذلك على القراءة بالتنوين (بِخَالِصَةٍ) عمل في ذكر الآخرة.
 وأولى الأقوال  بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال: معناه: إنا أخلصناهُمْ  بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة، فعملوا لها في الدنيا، فأطاعوا الله  وراقبوه; وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله  وإلى الدار الآخرة، لأن ذلك من طاعة الله، والعمل للدار الآخرة، غير أن  معنى الكلمة ما ذكرت. وأما على قراءة من قرأه بالإضافة، فأن يقال: معناه:  إنا أخلصناهم بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة; فلمَّا لم تُذْكر "في" أضيفت الذكرى إلى الدار كما قد بيَّنا قبل في معنى قوله (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) وقوله (بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)
 وقوله (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ) يقول: وإن هؤلاء الذين ذكرنا عندنا لمن الذين اصطفيناهم لذكرى الآخرة الأخيار، الذين اخترناهم لطاعتنا ورسالتنا إلى خلقنا.
 القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) }
 يقول  تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واذكر يا محمد إسماعيل  واليسع وذا الكفل، وما أبلوا في طاعة الله، فتأسَّ بهم، واسلك منهاجَهم في  الصبر على ما نالك في الله، والنفاذ لبلاغ رسالته. وقد بينا قبل من أخبار  إسماعيل واليسع وذا الكفل فيما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته في هذا  الموضع. والكِفْل في كلام العرب: الحظّ والجَدّ.
 وقوله (هَذَا ذِكْرُ) يقول تعالى ذكره: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد ذكر لك ولقومك، ذكرناك وإياهم به.
 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
 * ذكر من قال ذلك:
 حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (هَذَا ذِكْرُ) قال: القرآن.
 وقوله: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)  يقول: وإن للمتقين الذين اتقوا الله فخافوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه،  لحسنَ مَرْجع يرجعون إليه في الآخرة، ومَصِير يصيرون إليه. ثم أخبر تعالى  ذكره عن ذلك الذي وعده من حُسن المآب ما هو، فقال: (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ)
 حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) قال: لحسن منقلب.
 القول في تأويل قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) }
 قوله تعالى ذكره: (جَنَّاتِ عَدْنٍ)  : بيان عن حسن المآب، وترجمة عنه، ومعناه: بساتينُ إقامة. وقد بيَّنا معنى  ذلك بشواهده، وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيما مضى بما أغنى عن إعادته في  هذا الموضع.
 
  
__________________  سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك  فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى. 
 |