
25-07-2025, 05:32 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,290
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الحادى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ غافر
الحلقة (1207)
صــ 391 الى صــ 400
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ) قال: الإيمان بالله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) قال هذا مومن آل فرعون، قال: يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم.
وقوله: (تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) يقول: وأشرك بالله في عبادته أوثانا، لست أعلم أنه يصلح لي عبادتها وإشراكها فى عبادة الله، لأن الله لم يأذن لي في ذلك بخبر ولا عقل.
وقوله: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) يقول: وأنا أدعوكم إلى عبادة العزيز في انتقامه ممن كفر به، الذي لا يمنعه إذا انتقم من عدوّ له شيء، الغفار لمن تاب إليه بعد معصيته إياه، لعفوه عنه، فلا يضرّه شيء مع عفوه عنه، يقول: فهذا الذي هذه الصفة صفته فاعبدوا، لا ما لا ضرّ عنده ولا نفع.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) }
يقول: حقا أن الذي تدعونني إليه من الأوثان، ليس له دعاء في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه جماد لا ينطق، ولا يفهم شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا) قال: الوثن ليس بشيء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ) : أي لا ينفع ولا يضرّ.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ) (1) .
وقوله: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ) يقول: وأن مرجعنا ومنقلبنا بعد مماتنا إلى الله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) يقول: وإن المشركين بالله المتعدّين حدوده، القتلة النفوس التي حرم الله قتلها، هم أصحاب نار جهنم عند مرجعنا إلى الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في معنى المسرفين في هذا الموضع، فقال بعضهم: هم سفاكو الدماء بغير حقها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) قال: هم السفَّاكون الدماء بغير حقها.
حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) قال: هم السفاكون الدماء
(1) سقط التفسير من قلم الناسخ، والذي في ابن كثير عنه: "لا يجيب داعيه، لا في الدنيا ولا في الآخرة" . اهـ.
بغير حقها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) قال: السفاكون الدماء بغير حقها، هم أصحاب النار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) قال: سماهم الله مسرفين، فرعون ومن معه.
وقال آخرون: هم المشركون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) : أي المشركون. وقد بيَّنا معنى الإسراف فيما مضى قبل بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع.
وإنما اخترنا في تأويل ذلك في هذا الموضع ما اخترنا، لأن قائل هذا القول لفرعون وقومه، إنما قصد فرعون به لكفره، وما كان همّ به من قتل موسى، وكان فرعون عاليا عاتيا في كفر. سفاكا للدماء التي كان محرّما عليه سفكها، وكلّ ذلك من الإسراف، فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وقومه:
فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب الله قد حل بكم، ولقيتم ما لقيتموه صدق ما أقول، وحقيقة ما أخبركم به من أن المسرفين هم أصحاب النار.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ) ، فقلت له: أو ذلك في الأخرة؟ قال: نعم.
وقوله: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) يقول: وأسلم أمري إلى الله، وأجعله إليه وأتوكل عليه، فإنه الكافي من توكل عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) قال: أجعل أمري إلى الله.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) يقول: إن الله عالم بأمور عباده، ومن المطيع منهم، والعاصي له، والمستحق جميل الثواب، والمستوجب سيئ العقاب.
وقوله: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) يقول تعالى ذكره: فدفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون بإيمانه وتصديق رسوله موسى، مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه من العذاب والبلاء، فنجاه منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) قال: وكان قبطيا من قوم فرعون، فنجا مع موسى، قال: وذكر لنا أنه بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول: أين أمرت يا نبيّ الله؟ فيقول:
أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر؟ فيقول موسى: لا والله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ، ثم يسير ساعة ويقول: أين أمرت يا نبيّ الله؟ فيقول: أمامك، فيقول: وهل أمامي إلا البحر، فيقول: لا والله ما كذبت، ولا كذبت، حتى أتى على البحر فضربه بعصاه، فانفلق اثني عشر طريقا، لكل سبط طريق.
وقوله: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) يقول: وحل بآل فرعون ووجب عليهم; وعني بآل فرعون في هذا الموضع تباعه وأهل طاعته من قومه.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قول الله: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) قال: قوم فرعون.
وعني بقوله: (سُوءَ الْعَذَابِ) : مأ ساءهم من عذاب الله، وذلك نار جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) }
يقول تعالى ذكره مبيِّنا عن سوء العذاب الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا) إنهم لما هلكوا وغرقهم الله، جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كلّ يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي قيس، عن الهذيل بن شرحبيل، قال: أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، وذلك عرضها.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوّا وعشيًّا،
حتى تقوم الساعة.
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي، قال: سمعت الأوزاعيّ وسأله رجل فقال: رحمك الله، رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا، فوجا فوحا، لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشيّ رجع مثلُها سُودا، قال: وفطنتم إلى ذلك؟ قالوا: نعم، قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يُعرضون على النار غدوّا وعشيًّا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها، وصارت سوداء، فتنبت عليها من الليل رياض بيض، وتتناثر السود، ثم تغدو، ويُعرضون على النار غدوّا وعشيا، ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دَأبُها في الدنيا; فإذا كان يوم القيامة، قال الله (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) قالوا: وكانوا يقولون: إنهم ستّ مئة ألف مقاتل.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني حرملة، عن سليمان بن حميد، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ليس في الآخرة ليل ولا نصف نهار، وإنما هو بُكرة وعشيّ، وذلك في القرآن في آل فرعون (يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وكذلك قال لأهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
وقيل: عنى بذلك: أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوّا وعشيّا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال: يعرضون عليها صباحا ومساء، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخا ونقمة وصغارا لهم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قوله: (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال: ما كانت الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا. وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن الهذيل ومن قال مثل قوله، وأن يكون كما قال قتادة، ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعني به، فلا في ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن، وهم أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا، وأصل الغدو والعشي مصادر جعلت أوقاتا.
وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: إنما هو مصدر، كما تقول: أتيته ظلاما; جعله ظرفا وهو مصدر. قال: ولو قلت: موعدك غدوة، أو موعدك ظلام، فرفعته، كما تقول: موعدك يوم الجمعة، لم يحسن، لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا ظرفا; قال: والظرف كله ليس بمتمكن; وقال نحويو الكوفة: لم يسمع في هذه الأوقات، وإن كانت مصادر، إلا التعريب: موعدك يوم موعدك صباح ورواح، كما قال جلّ ثناؤه: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) فرفع، وذكروا أنهم سمعوا: إنما الطيلسان شهران (1) قالوا: ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم: إنما سخاؤك أحيانا، وقالوا: إنما جاز ذلك لأنه بمعنى: إنما سخاؤك الحين بعد الحين، فلما كان تأويله الإضافة نصب.
وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والعراق سوى عاصم وأبي عمرو (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى: الأمر بإدخالهم النار. وإذا قُرئ ذلك كذلك، كان الآل نصبا بوقوع أدخلوا عليه، وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أُدْخِلُوا" بوصل الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ، وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على
(1) الطيلسان: شيء كان يضعه العلماء والكبراء حول أعناقهم وعلى أكتافهم اتقاء البرد. يريد أن مدة لبس الطيلسان شهران.
الساعة، ومن قرأ ذلك كذلك، كان الآل على قراءته نصبا بالنداء، لأن معنى الكلام على قراءته: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فمعنى الكلام إذن: ويوم تقوم الساعة يقال لآل فرعون: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب، فهذا على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع، ومعناه على القراءة الأخرى، ويوم تقوم الساعة يقول الله لملائكته (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) ، (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ) يقول: وإذ يتخاصمون في النار. وعنى بذلك: إذ يتخاصم الذين أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإنذارهم من مشركي قومه في النار، فيقول الضعفاء منهم وهم المتبعون على الشرك بالله (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) تقول لرؤسائهم الذين اتبعوهم على الضلالة: إنا كنا لكم في الدنيا تبعا على الكفر بالله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) اليوم (عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ) يعنون حظا فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع في محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم أتينا، لولا أنتم لكنا في الدنيا مؤمنين، فلم يصبنا اليوم هذا البلاء; والتبع يكون واحدا وجماعة في قول بعض نحويي البصرة، وفي قول بعض نحويي الكوفة جمع لا واحد له، لأنه كالمصدر. قال: وإن شئت كان واحده تابع، فيكون مثل خائل وخول، وغائب وغيب.
والصواب من القول في ذلك عندي أنه جمع واحده. تابع، وقد يجوز أن يكون واحدا فيكون جمعه أتباع. فأجابهم المتبوعون بما أخبر الله عنهم; قال الذين استكبروا، وهم الرؤساء المتبوعون على الضلالة في الدنيا: إنا أيها القوم وأنتم كلنا في هذه النار مخلدون، لا خلاص لنا منها (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) بفصل قضائه، فأسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فلا نحن مما نحن فيه من البلاء خارجون، ولا هم مما فيه من النعيم منتقلون، ورفع قوله (كُلّ) بقوله (فِيهَا) ولم ينصب على النعت.
وقد اختلف في جواز النصب في ذلك في الكلام. وكان بعض نحويي البصرة يقول: إذا لم يضف "كلّ" لم يجز الاتباع. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: ذلك جائز في الحذف وغير الحذف، لأن أسماءها إذا حُذفت اكتفي بها منها. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) }
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (50) }
يقول تعالى ذكره: وقال أهل جهنم لخزنتها وقوّامها، استغاثة بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء، ورجاء أن يجدوا من عندهم فرجا (ادْعُوا رَبَّكُمْ) لنا (يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا) واحدا، يعني قدر يوم واحد من أيام الدنيا (مِنَ الْعَذَابِ) الذي نحن فيه. وإنما قلنا: معنى ذلك: قدر يوم من أيام الدنيا، لأن الآخرة يوم لا ليل فيه، فيقال: خفف عنهم يوما واحدا.
وقوله: (قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يقول تعالى ذكره: قالت خزنة جهنم لهم: أو لم تك تأتيكم في الدنيا رسلكم بالبيّنات من الحجج
على توحيد الله، فتوحدوه وتؤمنوا به، وتتبرّءوا مما دونه من الآلهة؟ قالوا: بلى، قد أتتنا رسلنا بذلك.
وقوله: (قَالُوا فَادْعُوا) يقول جلّ ثناؤه: قالت الخزنة لهم: فادعوا إذن ربكم الذي أتتكم الرسل بالدعاء إلى الإيمان به.
وقوله: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) يقول: قد دعوا وما دعاؤهم إلا في ضلال، لأنه دعاء لا ينفعهم، ولا يستجاب لهم، بل يقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) }
يقول القائل: وما معنى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، ومثَّلوا به، كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما. ومنهم من همّ بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله، والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل: إن لقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وجهين كلاهما صحيح معناه. أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من المُلْك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإظهاره على من كذّبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم وعاداهم، كالذي فعل
تعالى ذكره بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكهم غرقا، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|