
28-07-2025, 11:00 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,880
الدولة :
|
|
رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي
الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 91 الى صـــ 100
(10)
وإن صب الدلو الثاني فيها كان عليهم أن ينزحوا منها تسعة عشر دلوا؛ لأن حالها كحال البئر الأولى وإن صبوا الدلو العاشر فيها كان عليهم أن ينزحوا منها عشر دلاء هكذا ذكر في نسخ أبي سليمان - رحمه الله - وفي نسخ أبي حفص - رحمه الله - قال أحد عشر دلوا وهو الصواب فإن حال البئر الثانية بعد ما صب الدلو العاشر فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها، وتأويل ما ذكر في نسخ أبي سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء سوى المصبوب فيها والمصبوب فيها واجب النزح بيقين وإن خرجت الفأرة فألقيت في البئر الثانية وصب فيها عشرون دلوا من البئر الأولى فعليهم إخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا لما بينا أن حال البئر الثانية كحال البئر الأولى، وقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا سوى المصبوب فيها وجعل المصبوب فيها كالفأرة في البئر الأولى والأصح هو الأول؛ لأنا نتيقن أنه ليس في هذه البئر إلا نجاسة فأرة ونجاسة الفأرة يطهرها نزح
عشرين دلوا.
قال (وإذا خرجت الفأرة وجاءوا بدلو عظيم يسع عشرين دلوا بدلوهم فاستقوا منها دلوا واحدا أجزأهم وقد طهرت البئر) لأن النجس ما جاوز الفأرة من الماء فلا فرق بين أن يؤخذ ذلك في دلو واحد أو في عشرين دلوا وكان الحسن بن زياد - رحمه الله تعالى - يقول لا يطهر بهذا النزح؛ لأن عند تكرار نزح الماء ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فيكون في حكم الجاري، وهذا لا يحصل بنزح دلو عظيم منها ونحن نقول لما قدر الشرع الدلاء بقدر خاص عرفنا أن المعتبر قدر المنزوح وأن معنى الجريان ساقط؛ لأن ذلك يحصل بدونه ويزداد بزيادته ولهذا قلنا لو نزحها عشرة أيام ونحوه يطهر لوجود القدر مع عدم الجريان ثم اللفظ المذكور في الكتاب يدل على أنه يعتبر في كل بئر دلو تلك البئر لقوله بدلوهم وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر دلو يسع فيه صاعا من الماء ليتمكن كل أحد من النزح به من رجل أو امرأة أو صبي.
قال (ولو توضأ رجل من هذه البئر بعد ما نحى الدلو الأخير عن رأسها جاز وضوءه) ؛ لأنا حكمنا بطهارة البئر فإن صب ذلك الدلو فيها لم يفسد وضوء الرجل؛ لأن تنجيس البئر حصل الآن وإن كان الدلو بعد في البئر لم يفصل عن وجه الماء لا يجوز لأحد أن يتوضأ بذلك الماء وإن فصل الدلو عن وجه الماء وهو معلق في هواء البئر فتوضأ رجل منها لم يجزه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وقال محمد - رحمه الله تعالى - أجزأه. وجه قوله أن الماء الطاهر تميز عن الماء النجس فكأنه نحي عن رأس البئر وكون الماء النجس معلقا في هواء البئر لا يكون أقوى من خمر أو بول في دلو معلق في هواء البئر فلا يحكم هناك بنجاسة البئر بهذا وإنما جعل التقاطر عفوا لأجل الضرورة كما بينا ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الماء النجس متصل بماء البئر حكما بدليل أن التقاطر فيه يجعل عفوا ولولا الاتصال حكما لما جعل التقاطر عفوا كما في البول والخمر فصار بقاء الاتصال حكما كبقائه حقيقة ولو كان باقيا حقيقة بأن لم يفصل عن وجه الماء فلا يحكم بطهارة البئر، وهذا لأن البئر موضع الماء فأعلاه كأسفله كالمسجد لما كان موضع الصلاة جعل كله كمكان واحد في حكم الاقتداء
قال (ولو غسل ثوب نجس في إجانة بماء نظيف ثم في أخرى ثم في أخرى فقد طهر الثوب) وهذا استحسان والقياس أن لا يطهر الثوب ولو غسل في عشر إجانات وبه قال بشر بن غياث. ووجهه أن الثوب النجس كلما حصل في الإجانة تنجس ذلك الماء فإنما غسل الثوب بعد ذلك في الماء النجس فلا يطهر
حتى يصب عليه الماء أو يغسل في الماء الجاري. وجه الاستحسان قوله - صلى الله عليه وسلم - «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله ثلاثا» فتبين بهذا الحديث أن الإناء النجس يطهر بالغسل من غير حاجة إلى تقوير أسفله ليجري الماء على النجاسة، والمعنى فيه أن الثياب النجسة يغسلها النساء والخدم عادة وقد يكون ثقيلا لا تقدر المرأة على حمله لتصب الماء عليه، والماء الجاري لا يوجد في كل مكان فلو لم يطهر بالغسل في الإجانات أدى إلى الحرج.
ثم النجاسة على نوعين: مرئية وغير مرئية، ثم المرئية لا بد من إزالة العين بالغسل، وبقاء الأثر بعد زوال العين لا يضر هكذا «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دم الحيض حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه ولا يضرك بقاء الأثر» ولأن المرأة إذا خضبت يدها بالحناء النجس ثم غسلته تجوز صلاتها ولا يضرها بقاء أثر الحناء، وكان الفقيه أبو جعفر - رحمه الله تعالى - يقول بعد زوال عين النجاسة يغسل مرتين؛ لأنه التحق بنجاسة غير مرئية غسلت مرة فأما النجاسة التي هي غير مرئية فإنها تغسل ثلاثا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده» فلما أمر بالغسل ثلاثا في النجاسة الموهومة ففي النجاسة المحققة أولى وهذا مذهبنا وعلى قول الشافعي - رضي الله عنه - العبرة بغلبة الرأي فيما سوى ولوغ الكلب حتى إن غلب على ظنه أنه طهر بالمرة الواحدة يكفيه ذلك لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اغسليه فلا يشترط فيه العدد، ولكنا نقول غلبة الرأي في العام الغالب لا يحصل إلا بالغسل ثلاثا، وقد تختلف فيه قلوب الناس فأقمنا السبب الظاهر مقامه تيسيرا وهو الغسل ثلاثا. قال: وإن أصابت النجاسة عضوا من أعضائه فأبو يوسف - رحمه الله تعالى - أخذ فيه بالقياس فقال لا يطهر بالغسل في الإجانات؛ لأن صب الماء عليه ممكن من غير حرج ولأن استعمال الماء في العضو في تغير صفة الماء أقوى منه في الثوب فإن العضو الطاهر إذا غسل بالماء الطاهر صار مستعملا بخلاف الثوب الطاهر فلا يمكن قياس العضو على الثوب ومحمد - رحمه الله تعالى - سوى بين الثوب والعضو في أنه يطهر بالغسل في الإجانات وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: لأن الضرورة تحققت في بعض الأعضاء فإن من دمي أنفه أوفمه لا يمكنه صب الماء عليه حتى يشرب الماء النجس أو يعلو على دماغه وفيه حرج بين فأخذنا بالاستحسان في العضو كما أخذنا به في الثوب. ثم ماء الإجانات كلها نجس، ولأن النجاسة تحولت إلى الماء (فإن قيل) جزء من الماء
الثالث قد بقي في الثوب بعد العصر فكيف يحكم بطهارة الثوب (قلنا) ما لا يستطاع الامتناع عنه يكون عفوا مع أن الماء يتداخل في أجزاء الثوب فيخرج النجاسة ثم يخرج على أثرها بالعصر فما بقي من البلة بعد العصر لم تجاوزه النجاسة، ألا ترى أنه لو كان مكان النجاسة صبغ كالزعفران وغيره يتحول إلى الماء ولا يبقى شيء من ذلك اللون في الثوب ببقاء البلة فكذلك النجاسة.
قال (جنب اغتسل في ثلاثة آبار وليس على بدنه نجاسة عينية فقد أفسد ماء الآبار ولا يجزئه غسله) في قول أبي يوسف وقال محمد - رحمه الله تعالى - يخرج من البئر الثالث طاهرا وهذا لأن الحدث الحكمي معتبر بالنجاسة العينية فالآبار كالإجانات، وعند أبي يوسف - رحمه الله - النجاسة لا تزول عن البدن بالغسل في الإجانات فكذلك الحدث قال: ولو كان يزول بالغسل في الآبار لكان يخرج الجنب من البئر الأولى طاهرا كما إذا صب الماء على بدنه مرة بعد مرة، وعند محمد - رحمه الله تعالى - النجاسة العينية عن البدن تزول بالغسل في الإجانات فكذلك الجنابة قال: ولما كان ثبوت هذا الحكم بالقياس على النجاسة شرطنا فيه عدد الثلاث كما يشترط في غسل النجاسة بخلاف صب الماء على رأسه.
قال (فأرة وقعت في بئر فماتت فيها ووقعت فأرة أخرى في بئر أخرى فماتت فاستقي من إحداهما عشرون دلوا وصب في الأخرى أجزأهم نزح عشرين دلوا من البئر الثانية) والأصل أن الشيء ينتظم ما هو مثله أو دونه لا ما هو فوقه فإذا كان ما في البئر الثانية مثل ما صب فيها انتظم أحدهما الآخر فتطهر بنزح عشرين دلوا من البئر الثانية ولأن هذا في معنى ما لو ماتت فأرتان في بئر، وحكم الفأرتين كحكم الفأرة الواحدة في أن البئر تطهر بنزح عشرين دلوا منها، وإن ماتت فأرة في بئر ثالثة فصب منها عشرون دلوا أيضا في هذه البئر فإنها تطهر بنزح أربعين دلوا؛ لأن المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها فتطهر بنزح القدر المصبوب فيها وذلك أربعون دلوا ولأن هذه بمنزلة ثلاث فأرات ماتت في بئر وثلاث فأرات في ظاهر الرواية كالدجاجة إلا في رواية عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - (قال) ما لم يكن خمس فأرات لا يكون بمنزلة الدجاجة، فإذا كان الثلاث كالدجاجة في ظاهر الرواية يطهرها نزح أربعين دلوا وإن صبوا من البئر الثالثة فيها دلوا أو دلوين فعليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا مع هذه الزيادة؛ لأن المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - في هذه الفصول كلها أن بعد نزح القدر المصبوب ينزح منها عشرون دلوا.
قال (وإن ماتت فأرة في جب فصب ماؤها في بئر فعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ينزح منها ما صب فيها وبعده عشرون دلوا وعند محمد - رحمه الله تعالى - ينظر إلى ماء الجب فإن كان عشرين دلوا أو أكثر ينزح ذلك القدر وإن كان دون عشرين دلوا ينزح منها عشرون دلوا؛ لأن الحاصل في البئر نجاسة الفأرة).
قال (وإن ماتت فأرة في سمن فإن كان جامدا يرمى بها وما حولها ويؤكل ما بقي وإن كان ذائبا لم يؤكل منه شيء) لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا ما بقي وإن كان ذائبا فأريقوه» ولأن في الجامد النجاسة إنما جاوزت موضعا واحدا فإذا قور ذلك كان الباقي طاهرا، وفي الذائب النجاسة جاوزت الكل فصار الكل نجسا. وحد الجمود والذوب إذا كان بحال لو قور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب، ثم الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث الاستصباح ودبغ الجلد به وكذلك يجوز بيعه مع بيان عيبه عندنا فإذا باعه ولم يبين عيبه فالمشتري بالخيار إذا علم به وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنه بصفة النجاسة صار كالخمر فإن عينه نجس فلا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجامد أمر بإلقاء ما حول الفأرة وفي الذائب أمر بإراقة الكل فدل أنه لا يجوز الانتفاع به وعلماؤنا احتجوا بحديث علي - رضي الله تعالى عنه - في النجاسة إذا وقعت في الدهن قال: يستصبح به ويدبغ به الجلود وفي حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فإن كان مائعا فانتفعوا به» ولأن نجاسته لا لعينه بل لمجاورة النجاسة إياه فكان بمنزلة الثوب النجس بخلاف الخمر فإن عينها نجس، وتأويل حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - أن مراده - صلى الله عليه وسلم - بيان حرمة الأكل فمعظم وجوه الانتفاع بالسمن هو الأكل وإذا دبغ به الجلد ثم غسل بالماء طهر به الجلد وما تشرب فيه عفو؛ لأن عين الدهن يزول بالغسل إنما بقي لينه وذلك غير معتبر.
قال (وإن ماتت فأرة في جب فيه خل فأدخل رجل يده فيه ثم أدخلها قبل أن يغسلها في عشر خوابي خل أو ماء فقد أفسدهن كلهن) فإن كان في الخوابي ماء فهذا الجواب قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - فأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تخرج يده من الخابية الثالثة طاهرة بناء على غسل العضو المتنجس في الإجانات كما بينا إلا أن يكون مراده أدخلها في الخابية الأولى إلى الإبط حتى تتنجس
كلها ثم أدخلها في الخابية الثانية إلى الرسغ وكذلك في كل خابية زاد قليلا فحينئذ الكل نجس كما قالا، فإن كان في الخوابي خل فالجواب قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فأما عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - تخرج يده من الخابية الثالثة طاهرة وهو بناء على أن إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرة سوى الماء لا يجوز عند محمد وزفر رحمهما الله تعالى وكذا الشافعي - رحمه الله تعالى - الثوب والبدن فيه سواء، وعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يجوز في الثوب والبدن جميعا وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - وفي الرواية الأخرى فصل بين الثوب والبدن لا تزول النجاسة عنه إلا بالماء وفي الثوب تزول عنه بكل مائع طاهر ينعصر بالعصر فأما ما لا ينعصر كالدهن والسمن لا تجوز إزالة النجاسة به.
حجة محمد - رحمه الله تعالى - قوله تعالى {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48] فقد خص الماء بكونه مطهرا واعتبر إزالة النجاسة بإزالة الحدث؛ لأن كل واحد منهما طهارة وهي شرط الصلاة فإذا كان أحدهما لا يحصل إلا بالماء فكذلك الآخر ولا عبرة بزوال العين، فكما تزول بالأشياء الطاهرة تزول بالأشياء النجسة كبول ما يؤكل لحمه ولم يعتبر ذلك، فهذا مثله وحجة أبي حنيفة - رحمه الله - أن الثوب قبل إصابة النجاسة كان طاهرا وبعد الإصابة الواجب إزالة عين النجاسة حتى لو قطعه بالمقراض بقي الثوب طاهرا وإزالة العين كما تحصل بالماء تحصل بسائر المائعات وربما يكون تأثير الخل في قلع النجاسة أكثر من تأثير الماء فإذا زالت به عين النجاسة يبقى كما كان بخلاف ما لا ينعصر فإنه يتشرب في الثوب فتزداد به النجاسة ولا تزول. وفي بول ما يؤكل لحمه فقد قال بعض مشايخنا - رحمهم الله: إن النجاسة الأولى تزول به لكن تبقى نجاسة البول حتى يكون التقدير فيه بالكثير الفاحش والأصح أن التطهير بالنجس لا يكون لما بين الوصفين من التضاد فأما الطهارة عن الحدث فطهارة حكمية فيها معنى العبادة فلا تجوز إلا بما تعبدنا به وإنما تعبدنا بالماء؛ لأنه أهون موجود لا يلحق الناس حرج في إفساده بالاستعمال بخلاف سائر المائعات فإنها أموال يلحق الناس حرج في فسادها بالاستعمال. وأبو يوسف - رحمه الله - لهذا المعنى فرق بين النجاسة على البدن وعلى الثوب فقال: ما كان على البدن فهو نظير الحدث الحكمي؛ لأن في تطهير البدن معنى العبادة بخلاف ما لو كان على الثوب قال فإن صب خابية منها في بئر ماء فعليهم أن ينزحوا الأكثر من عشرين دلوا ومن مقدار الخابية؛ لأن الحاصل فيها نجاسة فأرة لا غير وقد مر.
قال (ولا بأس بلبس ثياب أهل الذمة والصلاة فيها ما لم يعلم أن فيها قذرا) لأن الأصل في الثوب الطهارة وخبث الكافر في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه فثوبه كثوب المسلم وعامة من ينسج الثياب في ديارنا المجوس ولم ينقل عن أحد التحرز عن لبسها، وكفى بالإجماع حجة، إلا الإزار والسراويل فإنه يكره الصلاة فيهما قبل الغسل وإن صلى جاز، أما الجواز فلأنه على يقين من الطهارة وفي شك من النجاسة وأما الكراهة فلأنه يلي موضع الحدث وهم لا يحسنون الاستنجاء ويعرقون فيهما لا محالة، والظاهر أن إزارهم لا ينفك عن نجاسة فتكره الصلاة فيه وهو نظير كراهة سؤر الدجاجة المخلاة، وقد روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الشرب في أواني المجوس فقال إن لم تجدوا منها بدا فاغسلوها ثم اشربوا فيها» وإنما أمر به؛ لأن ذبائحهم كالميتة وأوانيهم قلما تخلو عن دسومة فيها قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى وكذلك الجواب في ثياب بعض الفسقة من المسلمين فإن الظاهر أنهم لا يتوقون إصابة الخمر لثيابهم في حالة الشرب. وقالوا في الديباج الذي ينسجه أهل فارس لا تجوز الصلاة فيه؛ لأنهم يستعملون فيه عند النسج البول ويزعمون أنه يزيد في بريقه ثم لا يغسلونه؛ لأن ذلك يفسده فإن صح هذا لا يشكل أنه لا تجوز الصلاة فيه والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب المسح على الخفين]
(اعلم) أن المسح على الخفين جائز بالسنة فقد اشتهر فيه الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا. من ذلك حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله تعالى عنه - قال «توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وكنت أصب الماء عليه وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت نسيت غسل القدمين فقال لا بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي». ومن ذلك حديث «جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله تعالى عنه - قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على خفيه فقيل له أكان ذلك بعد نزول المائدة فقال وهل أسلمت إلا بعد نزول المائدة» وقال إبراهيم: - رحمه الله تعالى - وكان يعجبهم حديث جرير - رضي الله عنه - لأنه أسلم بعد نزول المائدة وإنما قال: هذا لما روي عن ابن عباس.
- رضي الله تعالى عنهما - قال: سلوا هؤلاء الذين يروون المسح هل مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول المائدة والله ما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول المائدة ولأن أمسح على ظهر عنز في الفلاة أحب إلي من أن أمسح على الخفين وقد صح رجوعه عنه على ما قال عطاء بن أبي رباح - رضي الله تعالى عنه - لم يمت ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - حتى اتبع أصحابه في المسح على الخفين. والذي روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - لأن تقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح على الخفين فقد صح رجوعها عنه على ما روى «شريح بن هانئ قال سألت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن المسح على الخفين فقالت لا أدري سلوا عليا - رضي الله تعالى عنه - فإنه كان أكثر سفرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألنا عليا - رضي الله تعالى عنه - فقال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين». وفي رواية سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها فبلغ ذلك عائشة - رضي الله تعالى عنها - فقالت هو أعلم».
ولكثرة الأخبار فيه قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى: ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار. وقال أبو يوسف - رحمه الله: خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته وقال الكرخي - رحمه الله تعالى: أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين؛ لأن الآثار التي وردت فيه في حيز التواتر. وهو مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة وفي حق المسافر بثلاثة أيام ولياليها لحديث علي - رضي الله تعالى عنه - وحديث خزيمة بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» وعن «ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال خرجت إلى العراق فرأيت سعدا يمسح على الخفين فقلت ما هذا فقال إذا رجعت إلى أبيك فسله فسألت أبي فقال عمك أفقه منك رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين وسمعته يقول المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ولأن المسح رخصة لدفع المشقة وذلك مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة؛ لأنه يلبس خفيه حين يصبح ويخرج فيشق عليه النزع قبل أن يعود إلى بيته ليلا، والمسافر يلحقه الحرج بالنزع في كل مرحلة فقدر في حقه بثلاثة أيام ولياليها أدنى مدة السفر إذ لا نهاية لأكثره. وكان الحسن البصري - رضي الله تعالى عنه - يقول المسح مؤبد للمسافر لحديث «عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخفين يوما؟ فقال: نعم. فقلت: يومين؟ فقال: نعم حتى انتهيت إلى سبعة
أيام فقال: إذا كنت في سفر فامسح ما بدا لك» وتأويله أن مراده - صلى الله عليه وسلم - بيان أن المسح مؤبد غير منسوخ وأن ينزع في هذه المدة والأخبار المشهورة لا تترك بهذا الشاذ وكان مالك - رحمه الله تعالى - يقول: لا يمسح المقيم أصلا ويمسح المسافر ما بدا له لحديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله تعالى عنه - قال: وفدت على عمر - رضي الله تعالى عنه - من الشام فقال: متى عهدك بالخف؟ فقلت منذ أسبوع. قال: أصبت. وتأويله أن المراد بيان أول اللبس وخروجه مسافرا لا أنه لم ينزع بين ذلك. ثم ابتداء المدة من وقت الحدث؛ لأن سبب وجوب الطهارة الحدث واستتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم فما هو موجب لبس الخف إنما يظهر عند الحدث فلهذا كان ابتداء المدة منه، ولأنه لا يمكن ابتداء المدة من وقت اللبس فإنه لو لم يحدث بعد اللبس حتى يمر عليه يوم وليلة لا يجب عليه نزع الخف بالاتفاق ولا يمكن اعتباره من وقت المسح؛ لأنه لو أحدث ولم يمسح ولم يصل أياما لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك فكان العدل في الاعتبار من وقت الحدث.
قال (وإنما يجوز المسح من كل حدث موجب للوضوء دون الاغتسال) لحديث «صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم» ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن ومع الخف لا يتأتى ذلك والرجل معتبرة بالرأس فمتى كان الفرض في الرأس المسح كان في الرجل في حق لابس الخف كذلك وفي الجنابة الفرض في الرأس الغسل فكذلك في الرجل عليه نزع الخف وغسل القدمين.
قال (وإنما يجوز المسح إذا لبس الخف على طهارة كاملة) لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين مسح على خفيه إني أدخلتهما وهما طاهرتان» ولأن موجب لبس الخف المنع من سراية الحدث إلى القدمين لا تحويل حكم الحدث من الرجل إلى الخف وإنما يتحقق هذا إذا كان اللبس على طهارة.
قال (فإن غسل رجليه أولا ولبس خفيه ثم أحدث قبل إكمال الطهارة لم يجز له أن يمسح عليهما) ؛ لأن أول الحدث بعد اللبس ما طرأ على طهارة كاملة فهو وما لبس قبل غسل الرجل سواء، وإن أكمل وضوءه قبل الحدث جاز له أن يمسح عندنا ولم يجز عند الشافعي - رحمه الله تعالى - بناء على أن الترتيب في الوضوء ليس بركن عندنا فأول الحدث بعد لبس الخف طرأ على طهارة كاملة
قال (ولو توضأ وغسل إحدى رجليه ولبس الخف ثم غسل الرجل الأخرى ولبس الخف ثم أحدث جاز
له عندنا أن يمسح) وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - إن لم ينزع الخف الأول فلا يجوز له أن يمسح وإن نزعه ثم لبسه جاز له المسح؛ لأن الشرط أن يكون لبسه بعد إكمال الطهارة وهذا اشتغال بما لا يفيد ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه فيه غسل وهو ليس من الحكمة فلا يجوز له اشتراطه.
قال (ومسح الخف مرة واحدة) وقال عطاء - رضي الله تعالى عنه - ثلاثا كالغسل.
(ولنا) حديث «المغيرة بن شعبة - رضي الله تعالى عنهما - قال كأني أنظر إلى أثر المسح على ظهر خف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطوطا بالأصابع» وإنما لم تبق الخطوط إذا لم يمسحه إلا مرة واحدة ولأن في كثرة إصابة البلة إفساد الخف وفيه حرج فيكتفى فيه بالمرة الواحدة، ويبدأ من قبل الأصابع حتى ينتهي إلى أسفل الساق اعتبارا بالغسل فالبداءة فيه من الأصابع؛ لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية.
قال (وإن مسح خفيه بإصبع أو إصبعين لم يجزه حتى يمسح بثلاثة أصابع) وعلى قول زفر - رضي الله تعالى عنه - يجزئه والكلام فيه مثل الكلام في المسح بالرأس وقد مر.
قال (والخرق اليسير في الخف لا يمنع من المسح عليه وفي القياس يمنع) وهو قول الشافعي - رحمه الله تعالى -؛ لأن القدر الذي بدا من الرجل وجب غسله اعتبارا للبعض بالكل وإذا وجب الغسل في البعض وجب في الكل؛ لأنه لا يتجزأ ووجه الاستحسان أن الخف قلما يخلو عن قليل خرق فإنه وإن كان جديدا فآثار الزرور والأشافي خرق فيه ولهذا يدخله التراب فجعلنا القليل عفوا لهذا فأما إذا كان الخرق كبيرا لا يجوز المسح عليه وقال سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - إذا كان بحيث يمكن المشي فيه سفرا يجوز المسح عليه؛ لأن الأصل في هذه الرخصة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وعامتهم كانوا محتاجين لا يجدون إلا الخلق من الخفاف وقد جوز لهم المسح، ولكنا نقول الخرق اليسير إنما جعل عفوا للضرورة ولا ضرورة في الكثير فيبقى على أصل القياس. والفرق بين القليل والكثير ثلاث أصابع فإن كان يبدو منه ثلاث أصابع لم يجز له أن يمسح عليه؛ لأن الأكثر معتبر بالكمال وفي رواية الزيادات عن محمد - رحمه الله تعالى - ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل؛ لأن الممسوح عليه الرجل وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال ثلاث أصابع من أصابع اليد؛ لأن الممسوح به اليد وسواء كان الخرق في ظاهر الخف أو باطنه أو من ناحية العقب ولكن هذا إذا كان يبدو منه مقدار ثلاث أصابع، فإن كان صلبا لا يبدو منه شيء يجوز المسح عليه وإن كان يبدو في حالة المشي دون حال وضع القدم
على الأرض لم يجزه المسح؛ لأن الخف يلبس للمشي. واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما إذا كان يبدو ثلاثة أصابع من الأنامل والأصح أنه لا يجوز المسح عليه وتجمع الخروق في خف واحد ولا تجمع في خفين؛ لأن أحد الخفين منفصل عن الآخر.
قال (وإن مسح باطن الخف دون ظاهره لم يجزه) فإن موضع المسح ظهر القدم لما روينا من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله تعالى عنه - وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - المسح على ظاهر الخف فرض، وعلى باطنه سنة، فالأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف ويده اليسرى على باطنه فيمسح بهما على كل رجل وعندنا المسح على ظاهر الخف فقط لحديث «علي - رضي الله تعالى عنه - قال لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى من ظاهره ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه دون باطنهما» ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصيب يده ذلك اللوث وفيه بعض الحرج والمسح مشروع لدفع الحرج.
[المسح على العمامة والقلنسوة]
قال (ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة) ومن العلماء من جوزه لحديث «بلال - رضي الله تعالى عنه - قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على عمامته» وجاء في الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فأمرهم بأن يمسحوا على المشاوذ والتساخين» فالمشاوذ العمائم والتساخين الخفاف.
(ولنا) حديث «جابر قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسر العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته» وكأن بلالا - رضي الله عنه - كان بعيدا منه فظن أنه مسح على العمامة حين لم يضعها عن رأسه وتأويل الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص به تلك السرية لعذرهم فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يخص بعض أصحابه بأشياء كما خص عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - بلبس الحرير وخزيمة - رضي الله تعالى عنه - بشهادته وحده. ثم المسح إنما يكون بدلا عن الغسل لا عن المسح، والرأس ممسوح، فكيف يكون المسح على العمامة بدلا عنه بخلاف الرجل ولأنه لا يلحقه كثير حرج في إدخال اليد تحت العمامة والمسح على الرأس.
قال (وكذلك المرأة لا تمسح على خمارها) لحديث «عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنها أدخلت يدها تحت الخمار ومسحت برأسها وقالت بهذا أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فإن مسحت على خمارها فنفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع أجزأها حتى قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى إذا كان الخمار جديدا يجوز، وإن لم يكن جديدا لا يجوز؛ لأن ثقوب الجديد لم تنسد بالاستعمال فتنفذ البلة منها إلى الرأس.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|