خروج المرأة المطلقة رجعياً من بيت الزوجية
السؤال بعض النساء عندما يطلقها زوجها طلقة واحدة فإنها لا تجلس في بيت زوجها، بل تذهب إلى بيت أهلها، فهل يصح هذا الفعل، وخاصة إذا قصدت الزوجة من خروجها أن يهدأ الزوج ويذهب غضبه؟
الجواب في الحقيقة ينبغي على العلماء وعلى طلاب العلم وعلى أئمة المساجد والخطباء أن ينبهوا الناس على هذه القضية، وأن يتواصى طلاب العلم بها، وهي قضية خروج المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوجية.
فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للزوج أن يطردها من بيتها، ولا يجوز لأبيها أو أخيها أن يأتي ويأخذها.
فلينبّه الناسُ على ذلك، فهذه مسئولية الخطباء، ويجب عليهم أن يبينوا للناس حكم الله في الطلاق، وأن يبينوا لهم السنة والبدعة، والأحكام المترتبة على هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان.
تفشى بين الناس كثيراً إلا من رحم الله؛ أن المرأة بمجرد ما يطلقها زوجها يأتي أبوها أو يأتي أخوها أو يأتي قريبها، فيأخذها، وقلّ أن تجد امرأة اعتدت عدة الطلاق الرجعي في بيت الزوجية، وهذا من المنكر العظيم؛ فإن الله يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فهذه المرأة المطلقة طلقة أولى أو طلقة ثانية بعد دخوله بها لا يحل خروجها من البيت، ولا يجوز للزوج أن يطردها إلا في أحوال مستثناة.
والأحوال المستثناة: هي أن يكون الزوج شريراً عظيم البلاء ويغلب على ظنها أنها لو جلست لحصل ما لا يحمد، ففي هذه الحالة من حقها أن تفر من ضرره، خاصة إذا كان عنده أمور خطيرة، أو رجل شديد العصبية، وأنه ربما أضر بها إضراراً عظيماً، وربما ضربها، وربما يتعدى بها إلى القتل أو الإضرار بها، فحينئذٍ يجوز للوالد إذا خاف من هذه الأضرار، ولأقرباء الزوجة إذا خافوا من هذه المفاسد؛ أن يخرجوا المرأة من بيت الزوجية.
أما إذا كانت الزوجة لا تخشى الضرر العظيم الفادح والغالب على الظن وقوعه؛ فإنه لا يجوز إخراجها، ويجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وأخوها ظالم وأبوها ظالم ووليها ظالم إن أخرجها، ومن أخرجها من بيت الزوجية فقد ظلم، وطيلة ما تعيش في بيت أخيها أو بيت أبيها أو بيت قريبها بعيدة عن بيت الزوجية؛ فإن هذه الأيام والليالي كلها إثم وحرج على من أعانها على هذا الخروج؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهذا تعاون على الإثم وعلى العدوان، وتضييع لحق الله العظيم.
لأن الله لما جعل المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية فذلك لحكم عظيمة؛ فإنها إذا بقيت في بيت الزوجية حنّ كل من الزوجين للآخر، ولذلك قلّ أن تسمع اليوم رجلاً راجع زوجته وصلحت الأمور، لأنها بمجرد خروجها من بيت الزوجية تذهب إلى أهلها، فتفسد على زوجها، حتى ولو عادت مرة ثانية وهي صالحة؛ فوالله لو بقيت في بيت الزوجية لكان أصلح لها وأفضل.
فهذه أمور عظيمة، ولذلك لا يصلح الأزواج إلا بتفاهم الزوجين مع بعضهم، ولا يضر الزوجين شيء مثل دخول الطرف الأجنبي، حتى ولو كان الطرف الأجنبي أباً لها أو أخاً أو قريباً، فإن المرأة إذا بقيت مع زوجها استطاع كل منها أن يعرف كيف يحل مشاكل الآخر.
فهي إذا بقيت في بيت الزوجية أولاً: يستطيع الزوج أن يستخدم قوته في الصبر عنها حتى تتأدب إذا كانت هي التي أخطأت، فتراه يمر عليها، وتمر عليها الليلة تلو الليلة وهي في نفس البيت تعيش الذكريات القارسة المؤلمة، فتكتوي بنار الفرقة، والمرأة خلقها الله ضعيفة المشاعر، وجعل هذا الضعف كمالاً لها وجمالاً وجلالاً، وهذه المشاعر لا تكتوي بها عادة إلا إذا جلست قريباً من زوجها وهي تراه، لكن إذا ذهبت إلى بيت أبيها أو إلى بيت قريبها انشغلت مع بيت أبيها عن تحسس هذه الأحاسيس، ولذلك انظر حكمة الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ونسب البيوت إليهن، مع أنها بيوت الزوجية {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] .
كما أن الزوجة تفر من بيت الزوجية إذا خشي الضرر، كذلك من حق الزوج أن يطردها وأن يخرجها من بيت الزوجية إذا كانت قد ارتكبت فاحشة مبينة كالزنا والعياذ بالله، أو كانت سيئة عظيمة الضرر؛ بأن تكون شريرة تستفزه، أو ربما تؤذيه، خاصة إذا كانت مسترجلة! ففي هذه الحالة من حق الزوج أن يطردها ويخرجها من بيت الزوجية، ويقول لوليها في هذه الحالة: تعال وخذ وليتك؛ لأن هناك فاحشة، سواءً كانت فاحشة باللسان أو كانت فاحشة بالجوارح والأركان.
فإذا كانت ذات فحش وأذية وإضرار بالزوج أو بقرابته، بحيث إذا طلقها قامت تسب أمه أو تسب والده، فإذا بقيت في بيت الزوجية والرجل ساكن مع والديه، فتطيل لسانها على أبيه وأمه، فمن حقه أن يطردها من بيت الزوجية ولو كانت في عدتها؛ لأنها أتت بفاحشة مبينة، وآذت وأضرت، مثل أن تقول لأمه: قولي له يردني، وتؤذيها وتضرها، وتزعجها وتقلقها؛ لكن لو جاءت بالمعروف وبكت عند أمه، وقالت: يا أم فلان قولي لفلان يراجعني، إني مخطئة إني كذا، فهذا شيء طيب، لكنها تأتي وتسبها وتشتمها وتؤذيها وتضرها وتضيق عليها، أو تضيق على والده وعلى قرابته، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يطردها من بيت الزوجية، وليس لها حق في سكناها.
على كل حال: هذا الأمر ينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله، وأن نتبع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الحكم العظيمة أن الزوج يحنّ لزوجته إذا كانت في بيت الزوجية، والزوجة تحنّ إلى زوجها إذا كانت في بيت الزوجية، وتصلح الأمور وتهدأ، ولا شك أن الله حكيم عليم، ولذلك قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ونشهد لله أننا لا نعلم وأنه هو وحده سبحانه العليم الحكيم علام الغيوب، ونشهد أننا أجهل ما نكون إلا أن يعلمنا سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم! فلا شك أن لله الحكمة التامة البالغة في هذا الشرع الذي أوجب علينا في المطلقة طلاقاً رجعياً أن تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه.
فالواجب أن يؤمر الناس بهذا الأمر، وأن يبين لهم شرع الله، وأن يحثوا ويحضوا على ذلك.
والله تعالى أعلم.
عدم ثبوت الرجعة بلفظ (نكحتها)
السؤال هل تثبت الرجعة بلفظ: نكحتها، أثابكم الله؟
الجواب إذا قال: نكحتها، لم تثبت الرجعة؛ لأنه لا يدل على الرجعة لا صراحة ولا ضمناً، ومن هنا يفتقر هذا اللفظ إلى الدلالة، فلا تثبت الرجعة به في قول جمهور العلماء رحمهم الله.
والله تعالى أعلم.
عدد الطلقات التي يملكها العبد
السؤال مر معنا أن العبد له رجعة واحدة، فما هو التفصيل في المسألة، أثابكم الله؟
الجواب تقدمت هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في: هل للعبد أن يطلق ثلاث تطليقات أو طلقتين؟ وهذا مما يسمى بتعارض العموم مع القياس، وهي مسألة أصولية تكلم عليها العلماء وأشرنا إليها.
العموم في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهذا عام شامل للحر والعبد.
وأما القياس: فإن الله عز وجل جعل الحد في الإماء والرقيق على النصف من حد الحر: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فجعل الحد على التشطير.
فجمهور العلماء رحمهم الله يرون القياس في هذا، وفيه أقضية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقوي هذا القياس على قول من يقول: إن قول الصاحب حجة، وهذا قول جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قيل: إنه لا مخالف في أن العبد يملك طلقتين ولا يملك ثلاثاً.
ومن تمسك بالقول بالثلاث فقوله له وجه، ومن تمسك باثنتين فقوله له وجه؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف، فالطلاق لا يشطر، فتمت له طلقتان؛ لأنه لا يصح أن يقال: له نصف الطلاق طلقة ونصف، ولا يصح أن يقال: له طلقة؛ لأن الطلقة ليست بنصف إنما هي ثلث، ولو قيل: طلقة ونصف، فالطلاق لا يتشطر بالإجماع من حيث الأصل العام، ولذلك لو قال لامرأته: طلقتك نصف طلقة، طلقتك ربع طلقة، أنت طالق ثمن طلقة؛ فإنها تطلق طلقة كاملة، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله وأئمة السلف والخلف رحمهم الله برحمته الواسعة.
والله تعالى أعلم.
حكم إخراج كفارة اليمين نقوداً
السؤال هل يجوز إخراج كفارة اليمين نقوداً أم لا؟
الجواب كفارة اليمين بيّنها الله تبارك وتعالى فهي تخييرية وترتيبية: تخييرية في عتق الرقبة، وإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فهو مخيّر بين هذه الثلاث، إن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم.
وترتيبية: أنه إذا لم يجد واحدة من هذه الثلاث ولم يستطع فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعات.
فهي تخييرية من وجه، ومرتبة من وجه، وليس فيها ذكر للنقود، ومن أخرج النقود في كفارة الأيمان فإنها لا تجزي؛ لأن الله أمر بالإطعام، والنقود غير الطعام، وقد كانت النقود موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فالكفارات التي سمى الله لا يجوز إخراج البدل عنها نقوداً في مذهب جمهور العلماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة النعمان عليه من الله تعالى شآبيب الرحمات والرضوان، حيث قال: إنه يجوز إخراج النقود عن الإطعام في مسائل الكفارة ككفارة اليمين، وكفارة الصيام ونحو ذلك، وهذا مرجوح؛ لأنه استدل رحمه الله بحديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصدقاً قال: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فانتقل إلى البدل، وهو الخميص والبيس وقال: (إنه أرفق) ؛ قال فهذا يدل على جواز إخراج البدل في الصدقات الواجبة.
وهذا ضعيف؛ لأن حديث معاذ في الحقيقة ليس في الصدقات وإنما هو في الجزية، والجزية يجوز فيها إخراج البدل، فيجوز أن نخرج في الفدية الثياب وكل شيء له قيمة، وأن يخرج عدلها من النقود، فينبغي إعمال النصوص، فنعمل بما ورد مسمى في الصدقات والكفارات، فنتقيد فيه بالواجب.
فلا يجوز إخراج صدقة الفطر في رمضان إلا طعاماً، ولو جاء شخص وقال: إن الطعام يضيّع أو يباع، نقول: على الله الأمر وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولنترك هذه الاجتهادات والآراء، ولنتمسك بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع احترام أهل العلم وتقديرهم وحفظ مكانتهم وجلالتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه.
وبالنسبة لقضية: لماذا لا تخرج النقود؟ أولاً: أن الأمر تعبدي.
ثانياً: أن النقود كانت موجودة والله لم يذكرها، ولو كانت جائزة لذكرها.
ثالثاً: كأن هذا يستدرك على الله ويقول: النقود أفضل، سبحان الله! النقود أفضل الآن دون زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟!! بالعكس: النقود أفضل الآن وفي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكون الله لا ينبه عليها ولا يأمر بها مما لا يدع لعاقل أن يشك في أن الإطعام مقصود.
رابعاً: أن الله لما قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] فهذا الإطعام فيه حكمة عظيمة؛ لأن الطعام لا يأخذه إلا المستحق، ولكن النقود يأخذها المستحق وغير المستحق، ولذلك لو أخذت طعاماً في فدية أو كفارة فإنك تتعب حتى تجد المستحق الذي يأخذ منك، لكن النقود يأخذ منك الغني والفقير، ويأخذها كل شخص، ويدعي كل إنسان أنه مستحق لها، ففي هذا لا شك حكم عظيمة، ومن هنا لا بد من التقيد بالوارد.
والله تعالى أعلم.
جواز اعتبار الصغار والكبار من المساكين في الكفارة
السؤال هل يعتبر في عدد كفارة اليمين الصغار من المساكين؟ بمعنى: لو أن إنساناً أعطى كفارته لأسرة عددها أكثر من عشرة كباراً وصغاراً فهل يجزئ، أثابكم الله؟
الجواب نعم يجزيه إذا أعطاها للصغير والكبير، وبناءً على ذلك: لو كانت هناك أسرة تتكون من عشرة أنفس فيهم زوجان والبقية أطفال وأولاد، فإنها تجزيه عن كفارته، سواء أطعمهم أو كساهم للإطلاق في الآية.
والله تبارك وتعالى أعلم.
ضابط سفر القصر
السؤال متى يكون القصر في الصلاة الرباعية؟ هل هو بمجرد النية في السفر أم بالخروج من المدينة؟
الجواب نص الكتاب يدل على أن أحكام السفر لا تشرع ولا تكون إلا إذا تلبست بالسفر: أولاً: لدلالة لفظ السفر.
ثانياً: قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] والتعبير بـ (على سفر) يدل على أنه في حال السفر.
ثم قال تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] .
فإذاً: لا نستبيح ولا نستحل الرخص إلا إذا كنا على حالة سفر، فإذا كان الإنسان في بيته ونوى السفر فإنه لم يسافر حقيقة، والشريعة ترتب الأحكام على الباطن والظاهر، وترتبها على مجموع الأمرين، ففي السفر نشترط الأمرين: أن يكون حاله حال السفر، وهذا الظاهر.
وأن تكون عنده نية السفر.
ولذلك لو خرج من المدينة غير ناو للسفر فحاله حال المسافر؛ لأنه أسفر وخرج، ولكن يقصر؛ لأنه تحقق أحد الأمرين ولم يتحققا معاً، وكذلك النية، فمن وجدت فيه النية ولم يسافر لم نصحح له قصره.
فالذي عنده نية للسفر ولم يسافر جزماً فليس بمسافر، وإلا لصح أن يقال: إنني لو نويت الحج هذه السنة أستبيح القصر منذ أن أبقى ناوياً لهذه النية، ثم يرد السؤال: متى تتخيل هذه النية؟ فيدخل الإنسان في إشكال لا ينتهي.
هذه مذاهب شاذة وضعيفة، وإذا قلنا: مذاهب شاذة، فالتعبير بالشذوذ عند أئمة الفقه يدل على أنها لا يؤتى بها ولا يعمل، والله عز وجل قد نص على أن الرخص لا تستباح إلا على السفر، فإذا أراد أن يفطر وهو صائم فلا يفطر وهو في بيته، وإنما يفطر بعد أن يخرج.
وما ورد من أفعال الصحابة فقد أجيب عن ذلك من أن قوله: (من السنة) في حديث أنس وأبي بردة؛ أجيب عنه: أن الصحابي ربما فهم ما ليس بسنة سنة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله مع أنه يأخذ بظواهر النصوص قال: إنه ربما فهم الصحابي ما ليس بسنة سنة.
ولذلك نبقى على نص القرآن الواضح الدلالة، وهو أنه لا يجوز لك أن تقصر الصلاة، ولا يجوز لك أن تفطر في سفرك إلا إذا كنت على سفر.
وبناءً على ذلك: إذا خرجت من آخر عمران المدينة فلك أن تستحل رخص السفر، فيجوز لك الفطر، ويجوز لك قصر الصلاة، فلو أذن المؤذن وأنت في طرقات المدينة ولم تخرج من آخر عمرانها فلست على سفر، ولم تضرب في الأرض بعد، فلم يتحقق الشرط الذي ذكره الله عز وجل، ولا يجوز لك القصر في هذه الحالة، وتجب عليك الصلاة رباعية فتصلي الظهر أربعاً، فلو أذن عليك الظهر وأنت قد حزمت أمتعتك وخرجت من بيتك ومشيت، ولكن بقي عمران المدينة لم تخرج منه بعد، فإنك تصلي أربعاً في الظهر والعصر والعشاء.
لكن لو أنك وضعت متاعك وركبت سيارتك وخرجت من آخر المدينة وبمجرد خروجك ولو بدقيقة واحدة أذن الظهر، فلك أن تصلي الظهر ركعتين، ويجوز لك أن تؤخرها إلى وقت العصر، أما لو أذن عليك قبل خروجك فيجب عليك أن تصليها في وقتها، ولا يجوز أن تؤخرها وتقول: أنوي جمعها؛ لأن الحضرية لا تجمع مع السفرية على الأصل الذي بيناه في مسائل الجمع بين الصلاتين للسفر.
والله تعالى أعلم.
حكم طواف الوداع للمعتمر والحاج
السؤال من أقام بمكة بعد حجه ثم اعتمر، فهل يطوف الوداع لحجه أم لعمرته، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن طواف الوداع يشرع في الحج، وليس بمشروع في العمرة ولا بواجب، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة؛ والسبب في ذلك: أنهم كانوا إذا طاف طوافوا الإفاضة في الحج مكثوا أيام التشريق بمنى، ثم يسافرون إلى ديارهم من منى، فصار هذا جفاءً للبيت، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) فهذا يدل على أن طواف الوداع شرع من أجل الحاج، وأما المعتمر فأصح أقوال العلماء: أنه لا يجب عليه طواف الوداع.
والذين قالوا بوجوب طواف الوداع على المعتمر قالوه بالقياس، قالوا: إن العمرة كالحج، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به مقام التروكات وليس في مقام الأفعال؛ لأن أصل الحديث حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنه في قصة الرجل المعتمر من الجعرانة: (أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة عليها طيب، قال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر صلوات الله وسلامه عليه، فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) والسياق سباق محكم، فلا يؤتى ويقتطع في الحديث.
فإن قال قائل: العبرة بعموم اللفظ، قلنا: (اصنع بعمرتك ما أنت صانع في حجك) لو أخذت به على عمومه للزم الوقوف بعرفة على المعتمر، ولزمه أن يبيت في مزدلفة، وأن يرمي الجمار؛ لأنه قال: (اصنع) أي: افعل.
فإذا كنت تقول: إنه لا يجب عليه الوقوف بعرفة، ولا يجب عليه المبيت بمزدلفة ولا بمنى، ولا الرمي، فقل: ولا يجب عليه طواف الوداع؛ لأنه واجب من واجبات الحج، فإذا سقط هذا الواجب سقطت تلك الواجبات، وإذا سقطت تلك الواجبات سقط هذا الواجب.
أما أن نقول: هذا الواجب يلزم، وهذا الواجب لا يلزم، فهذا تفريق بدون دليل فلا يصح.
وعلى كل حال: مما يدل على ضعف القول بوجوب طواف الوداع على المعتمر؛ أنه لما قالوا بوجوبه تعارضت أقوالهم: فقال بعضهم: إذا جلس المعتمر وصلى فرضاً واحداً ثم سافر فعليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إذا صلى ثلاثة فروض.
وقال بعضهم: خمسة فروض.
وقال بعضهم: إذا مكث يوماً.
وقال بعضهم: إذا بات بمكة.
وهذا التعارض والتناقض في الأقوال يدل على أنه ليس هناك أصل، ويدل على ضعف الأصل؛ لأنه لو كان المعتمر عليه طواف وداع لبينت الشريعة ونصت النصوص متى يجب على المعتمر أن يطوف طواف الوداع ومتى يسقط عنه، فإذا ثبت أن المعتمر لا وداع عليه زال هذا الإشكال.
فإذاً: إذا خرج الحاج للعمرة وجاء بالعمرة فإنه متى ما أراد السفر فإنه طاف طواف الوداع.
ومن أهل العلم من قال: إذا اعتمر الحاج ونوى في عمرته أن يفارق بعد عمرته البيت دخل طواف الوداع تحت طواف العمرة، وأجزأه طواف العمرة عن طواف الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) والسعي بعد الطواف لا يقطع الطواف، ومن هنا قالوا: لو أن معتمراً جاء مباشرة وطاف وسعى ثم صدر، فلا وداع عليه.
فالسعي لا يقطع وداع البيت، وعلى هذا فإنه إذا صدر بعد عمرته مباشرة سقط عنه طواف الوداع، وأما إذا بقي بعد عمرته فإنه يجب عليه أن يطوف طواف الوداع عند خروجه، على الأصل الذي دل عليه حديث الصحيح: (أمر الناس أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت طوافاً) .
والله تعالى أعلم.
تعارض طاعة الوالدين مع حب الصدقة والإنفاق
السؤال أحب أن أتصدق من مالي كثيراً، ولكن والدي وإخوتي يطلبون مني أن أتاجر بأموالي مما يقلل من نصيبي في الصدقة، فأيهما أفضل؟
الجواب دين ودنيا، دنيا وآخرة، أيها أفضل؟ لا شك أنك إذا قصدت من إمساك المال بر الوالد والسمع والطاعة للوالد، ونويت أنه لو لم يأمرك الوالد لتصدقت فإن الله يأجرك بثلاثة أجور: الأجر الأول: أجر البر، وهو أعظم عند الله من الصدقة التي تفعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن: أحب الأعمال إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) والوالد إذا أمر بأمر لا يتهم فيه بمعصية وجبت طاعته، وهو قد أمرك؛ لأنه قد يشفق عليك في مصلحة لولدك أو لك، أو يراك تحمل نفسك ما لا تطيق، فحينئذٍ تكون هذه توسعة من الله ساقها لك، وأرجو من الله أن يأجرك بحسن نيتك.
ثانياً: يأجرك الله عز جل على الصدقة بنيتك؛ لأنه لو لم ينهك والدك لتصدقت.
وثالثاً: أن هذا الأمر الذي وقع من منع والدك لك يحدث عندك نوعاً من الضيق؛ لأن الكريم يتألم إذا امتنع عن الصدقة، الكريم الذي قذف الله في قلبه الرحمة حتى ولو كان يبر والديه تجده يتألم، والله يعطيك أجر الألم، هذا أمر ثالث.
فمن نعم الله عز وجل على من أعطاه الله الكرم وأرسل يده بالإحسان، أنه لا يرجع في عطية، وأكره ما عنده أن يرد في عطيته، أو يمنع من الإحسان إلى الناس.
ومن القصص العجيبة عن الملك عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، وكان من أكرم الناس، وحدث ذات يوم أنه أعطى عطية وروجع فيها، وكانت عطية كبيرة جداً، وربما أجحفت ببعض المصالح، لكنه روجع فيها رحمه الله، فيحدث بعض الثقات الذين عايشوا هذه القضية أنه بعد أن روجع فيها ورأى المصلحة أن يرجع لم ينم ليلته تلك إلى الفجر، وهو يقول: عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! فلما طلع الفجر دعا المسئول وهو ابن سليمان رحمه الله، وقال له: الذي أمرت به من العطية ينفذ، وعندها جاءه النوم رحمه الله.
فالكريم لا يرجع في عطيته، ولا يرضى لنفسه البخل، ولو منع من عطيته فإنه يتألم، حتى إن بعضهم يمرض ولا يطيب له العيش ولا تهنأ له النفس.
يقال عن بعض الكرماء العرب وكرماء السلف رحمهم الله القدماء: إنه كان إذا سافر ومعه خدمه وحشمه لا يمكن أن يأكل لوحده، وكان يضع طعامه على الطريق ويقول: التمسوا لي الضيف.
فلا يرتاح الكريم إلا بالإعطاء.
فيأجرك الله الأجر الثالث بما ذكرناه، وهو كونك تتألم أنك لم تعط الناس، وهذا هو شأن من حبب الله إليه الآخرة.
أخي في الله! بر والدك، وتاجر إذا كانت تجارة مباحة، وانو في قرارة قلبك محبتك لربك وحبك للإحسان لإخوانك المسلمين، وانو في قرارة قلبك أنك تستعين بهذه التجارة لجمع مال لصدقة أعظم، فإن الله عز وجل يبلغك بحسن النية.
ولا شك أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وينبغي على كل من يريد أن يكون التزامه صادقاً وطاعته صادقة لله عز وجل أن تكون بينه وبين الله صدقات خفيات يجبر بها قلوب المؤمنين والمؤمنات، ومن كانت له صدقة بينه وبين الله كانت بينه وبين الله وسيلة نافعة شافعة في الدنيا والآخرة، فكم من كربات فرجت بفضل الله ثم بفضل الصدقة، وإن المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته يوم لا ظل إلا ظله جل جلاله، وإن العبد يكف عن وجهه النار بفضل الله ثم بالصدقة.
لو لم يكن في الصدقة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى، قالوا: إن الإنسان ربما كان من أعصى الناس لله عز وجل، وربما ينزل الله به بلاءً فيتصدق فيذهب عنه غضب الله، ولربما غفر الله ذنبه بتلك الصدقة، لكن يستدل على ذلك بالتوفيق في الصدقة، ومن أعظم البشائر لولي الله المؤمن بالدرجات العلى في الصدقات: أولاً: أنه إذا جاءه المال، ومكنه الله منه، نظر إلى أن هذا المال لا يغني عنه من الله شيئاً، وأنه لا قيمة لهذا المال إلا إذا اشترى به رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده، حتى إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تكون صائمة فيأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه ثلاثين ألفاً فتتصدق بها، حتى إنها لا تبقي شيئاً تفطر به في ذلك اليوم، وكانت كأبيها والشيء من معدنه لا يستغرب: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية أبوها الذي أنفق ماله كله لله جل وعلا ورسوله، وأنزل الله من فوق سبع سماوات تزكيته أنه مجنب من النار مبرؤ منها: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18] وأعطى ماله لله، حتى إنه لما هاجر أخذ ماله معه نصرة للإسلام ونصرة لله ولدينه عز وجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجعت أهلك بنفسك، ثم فجعتهم بمالك، ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم حب الله ورسوله) رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه.
بخٍ بخٍ! هذا والله العيش! الصدقة ما سميت صدقة إلا لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه لا يتصدق بهذه الدنيا لوجه الله ويشتري بها رحمة الله عز وجل إلا من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه؛ لأن المال يأسر صاحبه، والمال له سلطان على القلوب، به سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وقطعت الأرحام، والله يقول: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال فتنة، ومع هذا يأتي الإنسان يريد أن يتصدق فتأتيه النفس الأمارة بالسوء وتقول له: تضيع مستقبلك ومستقبل أولادك وأهلك وذريتك! وكذا وكذا، فيعده الشطيان الفقر، وتأتيه رحمة الله جل وعلا، فيثبت الله عز وجل قلبه فيقول: لا، إن خزائن الله لا تنفذ (ويد الله ملأى سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة) إني أعامل الله الذي لا غنى إلا به سبحانه وتعالى، فيخرج هذا المال ولو كان من أعز أمواله صدقة، وهو موقن أن الله سيخلف عليه، وأنه هو الرابح وليس بخاسر.
ولذلك لما جاء عام الرمادة واشتد الأمر على المسلمين في المدينة جاءت عير لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فخرج التجار يتلقونه، فقالوا: يا عثمان! بعنا التجارة، نربحك الدرهم بالدرهمين؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: أربعاً خمساً قال: أعطيت أكثر، قالوا: من ذا الذي أعطاك وما بالمدينة تاجر سوانا؟ قال: إن الله أعطاني بالدرهم عشرة، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها صدقة على فقراء المسلمين! هذا هو الإيمان والثقة الصادقة بالله جل وعلا، أن تكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك، وإن العبد تأتيه زينة الدنيا وزهرتها حتى إذا أراد الله أن يسعده في هذه الدنيا جعل أول ما يفكر فيه أن يقدمه لآخرته.
عمر رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين لما جاءته أرض بخيبر ما دنا منها ولا أجرى ماءً ولا نهراً ولا غرس شجراً، ولكن بمجرد ما فاز بالأرض وأصبحت في ملكيته انطلق إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لكي يشتري الآخرة، فكانت الدنيا تحت أقدامهم، وكانت الآخرة ملء قلوبهم، فجاء وقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أنفس مالي، ما أصبت مالاً أحب إليّ من هذا المال، فماذا تأمرني فيها؟) وقد كانوا يحكمونه في أموالهم وأنفسهم رضوان الله عليهم.
فما أخذها مع أنه لو أخذها فهي حلال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت تصدقت بها وحبّست أصلها وتصدقت بثمرتها) الحديث، فتصدق بها رضي الله عنه وأوقفها على فقراء المسلمين وضعفتهم.
فأول دلائل التوفيق للصدقة الصالحة قوة اليقين بالله عز وجل.
ثانياً: أن يخرج بهذه الصدقة وأحب ما يكون إليه ألا يعلم به أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله لا يعرفهم الفقير الذي يعطونه، فيأتي الرجل منهم متنكراً في ظلام الليل وسواده البهيم.
وكان علي زين العابدين رحمه الله برحمته الواسعة يحمل على ظهره الصدقات إلى بيوت الأرامل والأيتام، فكان إذا جنّ عليه الليل حمل على ظهره الطعام، وهو إمام من أئمة المسلمين، وديوان من دواوين العلم والعمل، فكان ينطلق إلى بيوت الضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل وهم في جوف الليل، فيقرع عليهم أبوابهم، ثم يعطيهم هذا الطعام، ثم لم يعلم أحد أنه زين العابدين الطيب بن الطيب رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة وأباه وجده، وهذه سلالة طيبة من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الطيبون الطاهرون.
فما علم أنه زين العابدين إلا لما توفي، ففقد ستون بيتاً من ضعفاء المسلمين ذلك الرجل الذي يطرق عليهم في جوف الليل أبوابهم، وكان رضي الله عنه يحمل الطعام على ظهره وعنده من العبيد والخدم ما لا يحصى، ولو شاء أن يأمرهم لحملوا، ولما أرادوا أن يغسلوه كشفوا عن ظهره فوجدوه متأثراً من الأكياس التي كان يحملها رحمه الله برحمته الواسعة.
فالذي يشتري رحمة الله عز وجل هو الرابح، الصدقة هي الربح والتجارة مع الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] من هو السعيد الموفق الذي يضع في دواوين الآخرة صدقاته صادقات من قلبه المؤمن الموقن بربه جل وعلا؟! وأعظم ما تكون الصدقة أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى، أتخاف أن تأتيك هموم المستقبل؟ لا تبالغ، الإسلام وسط، لكن في بعض الأحيان يبالغ الإنسان في تقدير الأمور، حتى إنه يحجم عن الصدقات، فإذا كان الإنسان صحيحاً شحيحاً يخاف الفقر ويأمل الغنى، وتزينت له الدنيا بزينتها، ثم جاءه نداء الله جل وعلا، وتذكر ما عند الله فرفض الدنيا ووضعها تحت قدميه؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ووالله ثم والله