السكران
قوله: (وسكران) .
السكر تقدم معنا بيانه وبيان بعض مسائله في طلاق السكران، وبينّا كلام العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران.
وقد دلت نصوص الشريعة من حيث الأصل على أن السكران في حكم المجنون، وهذا له أدلة، لكن من حيث الأصل فالسكر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون السكر على وجه يعذر فيه الإنسان، كأن يشرب خمراً يظنه عصيراً، أو مثلاً دس له الخمر بشيء لا يعرفه، أو غلب على أمره وخدر، كما هو الحال الموجود الآن في المخدرات أعاذنا الله منها، ومثله المخدر في العمليات الجراحية إذا أعطي مادة التخدير، فإذا كان سكره على وجه يعذر به شرعاً فاختل عقله، وحصل عنده تغييب، فحلف ووقع منه إيلاء أو طلاق أو عتق، فهذا على وجه يعذر به شرعاً.
والإجماع منعقد على أنه لا يؤاخذ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقل الإجماع على أن من سكر وكان سكره على وجه يعذر به شرعاً، فإنه في هذه الحالة لو طلق لا ينجز طلاقه، ولو أعتق لا يعتق عليه عبده، ولو حصل منه إيلاء لا ينعقد إيلاؤه؛ لأن سكره على وجه يعذر به شرعاً.
القسم الثاني: أن يكون سكره على وجه لا يعذر به شرعاً؛ كمن شرب الخمر عامداً متعمداً، فقال أثناء سكره يخاطب زوجته: والله لا أجامعك خمسة أشهر، أو والله لا أجامعك هذا العام أو هذه السنة.
فقال بعض العلماء: السكران غير مكلف، فلا يؤاخذ بإيلائه، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال جمهور العلماء: ينعقد إيلاؤه.
والصحيح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ أن السكران لا يصح إيلاؤه؛ بدليل الأثر والنظر: أما دليل الأثر وهو كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] .
ووجه الدلالة: بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه كالمجنون لا يؤاخذ على قوله، فهذه الآية تدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، وأنه في الأصل غير مؤاخذ بقوله.
أما دليل السنة فما ثبت في الصحيح: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شرب الخمر حينما كانت مباحة في أول الإسلام، واعتدى على شارف لـ علي رضي الله عنه كان قد هيأه مهراً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى علي هذه المصيبة التي وقعت في مهره انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة، ولم يكن يعلم أن حمزة بحال السكر والشراب، فدخل على حمزة وعاتبه، فرفع حمزة رضي الله عنه وأرضاه رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أنتم إلا عبيد لآبائي.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال السكر، فرجع القهقرى ولم يؤاخذه.
فهذه الكلمة لو قالها أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفره بالإجماع، ومع ذلك لم يؤاخذ الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام حمزة حينما تكلم بها في حال السكر؛ فدل على أن السكران لا يؤاخذ على قوله.
وكذلك أيضاً دل دليل النظر على أن السكران لا يؤاخذ، فلا يصح إيلاء السكران كما لا يصح إيلاء المجنون بجامع كون كل منهما فاقد لإدراكه وعقله.
فكما أن المجنون بالإجماع لو قال لامرأته: والله لا أجامعك سنة، فإنه لا ينعقد إيلاؤه؛ لأنه مجنون، ولم يدرك ما يقول، فكذلك السكران لا ينعقد إيلاؤه، ونقول: لا يقع إيلاء السكران كما لا يقع إيلاء المجنون، بجامع كون كل واحد منهما فاقداً لشعوره وإدراكه وتمييزه.
وعلى كل حال: القول بعدم صحة إيلاء السكران هو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، فلا يصح الإيلاء من السكران كما لا يصح من المجنون.
قال: (ومريض مرجو برؤه) .
أي: ويصح الإيلاء من مريض يرجى برؤه، والمريض ينقسم إلى قسمين، وقد تقدم معنا هذا في أحكام تصرفات المريض مرض الموت.
وأصل المرض عند الأطباء -كما عرفه صاحب التذكرة وغيره-: أنه خروج البدن عن حد الاعتدال، فالبدن إذا اعتدلت فيه الأمزجة الأربعة المعروفة استقامت الصحة، وإذا اختل واحد منها فإنه يوصف البدن بكونه مريضاً وسقيماً، ومن هنا عُرف المرض بأنه: خروج البدن عن حال الاعتدال.
إذا ثبت هذا فالمرض إما أن يكون مرضاً يرجى برؤه؛ كالزكام والصداع، فهذا النوع من المرض لو حلف صاحبه أن لا يجامع زوجته سنة فإنه يصح إيلاؤه؛ لأن المرض يرجى برؤه.
أما إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه؛ كمرض الموت الذي لا يملك معه أن يتمكن من الوطء؛ لأن المرض يمنعه ويعيقه، فهذا لو حلف وقال: والله لا أجامعك سنة، فإنه أصلاً ليس بمجامع، ومن هنا قالوا: إنه لا إيلاء في حقه؛ لأن عنده عجزاً حسياً يمنعه من الجماع، فلا يعاقب، إنما يعاقب القادر، وهذا غير قادر، فإنه لو انحلت يمينه ليس بمجامع زوجته.
ومن هنا قالوا: إن السبب في الإيلاء أن الزوج يضر الزوجة ويمنعها عن حقها، فإذا كان الزوج لا يستطيع الجماع لمرض لا يرجى برؤه، فهذا لم يضر، وحينئذٍ لا يقع الإيلاء.
وقد نص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله.
الزوج إذا لم يدخل على الزوجة
قال: (وممن لم يدخل بها) .
أي: ويصح الإيلاء من الزوج إذا كان لم يدخل بامرأته فقال لها: والله لا أجامعك سنة، وهو لم يدخل بها، ففي هذه الحالة يقع الإيلاء ويصح، فلا يشترط فيه الدخول على الزوجة.
لكن لو كان بحال يمنعه فقد فصل فيه بعض العلماء، وأشار إلى هذه المسألة الإمام النووي رحمه الله، لكن من حيث الأصل أن من لم يدخل يصح الإيلاء منه.
الأسئلة
حكم الإيلاء إذا انتهى عند بداية حيض أو نفاس
السؤال لو انتهت الأربعة الأشهر عند بداية حيض أو نفاس، فما الحكم في ذلك؟
الجواب بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اختار طائفة من العلماء في هذه الحالة: أنه يؤخر إلى أن ينتهي الحيض وإلى أن ينتهي النفاس؛ لأن الإيلاء لا يقع، ثم يطالب بأحد أمرين: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
لأنهم يقولون: إذا دخل العذر فلا يقع الإيلاء، ولا يكون من حق الزوجة المطالبة حتى ينتهي العذر.
فلو آلى منها أكثر من أربعة أشهر، وقبل مدة الإيلاء التي هي الأربعة الأشهر أو عند انتهائها في اليوم الأخير جاءها حيض أو نفاس، فقالوا: ينتظر؛ لأن الزوج لا يستطيع أن يفيء، فلو قال له القاضي: يلزمك أن تفيء إلى زوجتك، فإنه لا يستطيع؛ لأن هناك مانعاً شرعياً يمنع من وطئها، فلا يوقفه القاضي إلا بعد انتهاء وزوال هذا المانع الشرعي.
هذا اختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله، كما أشار إليه الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله على الجميع.
والله تعالى أعلم.
حكم انصراف المأموم قبل الإمام
السؤال ما حكم انصراف المأموم قبل انصراف الإمام بعد السلام؟
الجواب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المأموم لا يقوم من مكانه إلا بعد أن ينفتل الإمام وينحرف، وهذا هو الأصل، وهو الذي كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عليه سنته.
ومن هنا منع العلماء رحمهم الله قيام المأموم مباشرة، والعلة في ذلك عند العلماء مختلفة: فمِن أهل العلم مَن قال: إن السبب في هذا: أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمكث وقتاً وهو مستقبل القبلة حتى ينصرف النساء، ثم بعد ذلك ينصرف بوجهه إلى أصحابه رضوان الله عليهم.
وهذا أمر محتمل؛ لكن التعليل به ضعيف، والسبب في هذا: أنه لم يقصر ذلك على الصلوات الليلية التي كان يشهدها النساء دون النهارية.
وأيضاً: لو كان الأمر كما ذكروا، ففي صلاة الفجر أيسر أن تقوم المرأة دون أن ترى؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات، ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمُرُطهن لا يعرفن من شدة الغلس) .
فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجل جليسه؛ لكن البعيد لا يعرفه.
وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم فعله حضراً وسفراً، فقد كان في بعض أسفاره وغزواته عليه الصلاة والسلام لا يكون معه النساء، ومع ذلك كان يمكث، ولم يحفظ عنه التفريق في الأحوال الخاصة.
فمسألة (خوفَ أن تُرَى النساء) التعليلُ بها وارد؛ لكنها ليست بعلة قوية.
وهذا يدل على أن العلة الثانية وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مصلاه لخوف طريان السهو، ولذلك مكث عليه الصلاة والسلام تشجيعاً للأمة وتشجيعاً للأئمة أنه إذا انفتل الإمام من الصلاة ربما كان هناك نقص أو كانت هناك زيادة، فينبه قبل أن ينصرف من مكانه، احتياطاً لحق الله عز وجل في هذه العبادة.
وهذا أمر معهود، أن العبادات يصحبها شيء بعدها يستدرك به ما فات منها، ومن هنا فإن العلة بكونه يخْشى أن يطرأ شيء في الصلاة أو نقص سيكون في موضعه هو الأقوى.
ومن هنا يُشَدد في هذا الأمر، فلا يقم المأموم من مكانه ولا يتحول ولا ينصرف إلا بعد أن ينصرف الإمام بوجهه إلى المأمومين.
وأنبه على بعض طلاب العلم الذين يستعجلون في القيام بعد السلام مباشرة، ونحن لا ننكر القيام مباشرة إلى مجالس العلماء؛ بل نرى أن هذا شرف لطالب العلم؛ لكن بشرط أن لا يؤذي إخوانه المسلمين، ولو أن البعض ينكر؛ لكن لجهله، والسنة الصحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح أنه بعد سلامه قام مباشرة إلى غرفته وحجراته عليه الصلاة والسلام، وجاء بالتِبر لمصلحة شرعية.
ومن هنا قالوا: إذا كان هذا لدفع الضرر عن نفسه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (ما ظن محمدٍ أن لو لقي الله وهذا عنده) ، فكيف بمن يتحمل مصالح الأمة في طلب العلم؟! ثانياً: لو قال قائل: هناك بعد المغرب سنة راتبة، فنقول: قال بعض العلماء: يجوز تأخيرها إذا كان هناك حلقة علم أو محاضرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه جاءه وفد عبد قيس، فلم يصلِّ سنة الظهر إلا بعد العصر وقال (هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلت عنها آنفاً) .
قالوا: وهذا من أجل تعليم العلم؛ لأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ويوجه ويرشد.
فأنبه وأحذر من مسألة النقد؛ لأنه مما يؤلم ويؤسف له أن الناس في هذا الزمان عندهم جرأة على نقد الغير، وهذا أمر سببه قلة العلماء، وتساهل كثير من الناس في أمر اللسان، ولو كان طالب العلم عنده خطأ فينبغي أن لا تغتابه، فالبعض يتكلم على طلاب العلم، حتى إنه يبلغ الجرأة، حتى إن بعض العوام يقوم في المسجد ويتكلم عليهم قبل المحاضرة أو قبل الدرس ويسفههم.
وهذا لا شك أنه من جهله، وإلا فمن المفروض أن يسأل من يوثق بدينه وعلمه، حتى ولو أفتى عالم أن هذا منكر وأفتى غيره بأنه جائز، وعنده سنة صحيحة، فلا إنكار ما دام أن هناك مجالاً للسنة.
ووالله إننا لنبتهج ونُسر حينما نرى من يخاف الله ويتقيه ويسعى حثيثاً إلى مجالس العلماء، ويظهر من قوله وسمته ما يدل على تعظيم شعائر الله عز وجل، وكل إنسان عنده عقل وإدراك عندما يرى حرص طلاب العلم، أو يرى شباب الأمة يحرصون على مجالس العلماء ويزدحمون عليها، تدمع عينه من خشية الله، ويقول: الحمد لله الذي أبقى في هذه الأمة من يحرص على هذا الدين، فالحمد لله أنه لا يراهم على محرم أو على فجور، أو يتكالبون على دنيا.
وهذا شرف لطالب العلم، ولو وقف على رجليه ينتظر العلم والعلماء فإن هذا شرف والله، ولا ينقص من قدره ولا يحط من مكانته.
فعلى كل حال: على طالب العلم وعلى الناس أن ينتظروا حتى ينفتل الإمام، فإذا انفتل الإمام فلهم أن يقتربوا، ومن حضر محاضرة أو مجلس ذكر وأراد القرب من العالم، فلا شك أنه يقرب في الحلقة ولا يؤذي إخوانه، والله يعلم أنه ما دنا وأنصت إلا طلباً للعلم.
قال بعض العلماء: أرجو لمن اقترب من مجالس العلماء ودنا منها الرحمة من الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم دنا وأنصت) وكل هذا من أجل خطبة الجمعة، وحتى المشي لأجل العلم ولأجل ثواب العلم عُد قربة عند الله عز وجل وثواباً ورفعة درجة، وموجباً لهذه المغفرات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يكره لبعض من يجلس بعيداً عن الحلقة ولو كان في المسجد، إلا إذا كان عنده عذر أو مرض أو نحوه، أما إذا لم يكن عنده عذر فإنه يدنو ويزاحم ويحرص، لكن لا يؤذي إخوانه المسلمين.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله عند بيانهم لآداب طلب العلم: فضل القرب من العلماء، وأن الله عز وجل وضع من البركة والخير والنفع للعالم القريب من علمائه ما لم يضع لمن هو أبعد، وهذا واضح جلي، ولذلك تجد الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم خيراً.
وقد أشار إلى هذا الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، وبيّن أن الصحابة فتح الله عليهم لأنهم تلقوا مباشرة، وأنهم كانوا يحضرون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم تفاوتوا في فضل الله عليهم بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن يقترب من مجالس العلماء يعلم الله أنه لا يريد دنيا، ولا يرجو تجارة ولا مالاً، وإنما يرجو رحمة ربه إذا أخلص لربه جل وعلا بخ بخ، هذه والله التجارة الرابحة {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] ، ونحمد الله عز وجل ونشكره أن وجد من شباب الأمة ومن طلاب العلم من يعظم شعائر الله، لكن ينبغي على كل طالب علم أن يحرص على أمرين هامين في هذه المسألة: أولهما: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وأن لا يقصد من قربه من العالم أن يعرف أو يشتهر، أو يكون له حظ أو حبوة عند العلماء، والله لا ينفعك أحد دون الله عز وجل، وحتى لو اقتربت من العالم وكنت كثوبه الذي على جسده قرباً ومواظبة، فلن يغني عنك من الله شيئاً، فكن عاقلاً وكن حكيماً، وابتغِ مرضاة الله عز وجل في كل ما تفعله وما تذره، فلا ينفعك إلا الله وحده لا شريك له، فعليك أن تخلص لله سبحانه وتعالى.
ثانياً: أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فإن الله لا يطاع لكي يعصى، ولربما جاء طالب العلم تغشاه السكينة والوقار وتأدب وجلس وأنصت، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة عن تخطي الرقاب؛ لأن فضائل الجمعة ما وضعت إلا من أجل الخطبة، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين اثنين، ونهى عن أن يتخطى الرقاب، وجعل الفضائل لمن احترز من هذه الأمور.
والنبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن هذا إنما قصد الأصل الشرعي، وهو أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فليس من المعقول أن يأتي طالب علم متأخراً ثم يزاحم إخوانه، وإذا كان هناك مجال فيحتسب الإخوان ويتراحمون ويتواصون، وكل من جاء من إخوانك متأخراً وعندك مجال فتخيل أنك في مكانه، ونفس الحجة التي تريد أن تقيمها عليه انظر إلى حجته عليك لو كنت مكانه.
فهذا يوسع الصدر، ويجعل الأمر على محبة وتواد وتواصل وتعاطف وتكاتف وتآلف، وتحمد الله عز وجل أن جعل لك أخاً في الإسلام يطلب العلم كما تطلبه، وكل من عظم شعائر الله عز وجل فإنه يُحب في الله ويوالي في الله، وهذا من دلائل كمال الإيمان، فإنك تجلس في مجلس العالم وتتمنى أن إخوانك كلهم على كف واحدة، وهذا لا أقوله مبالغة؛ لأن هذا شيء عايشته، فقد كنا في مجلس الوالد رحمة الله عليه، وكانت من أصعب الأيام عندنا أيام رمضان، فكان رحمه الله يلقي بعد صلاة العصر درساً، وبعد الفجر وبعد الظهر، وكان أصعب الدروس درس العصر، فلم يكن في المسجد النبوي مكيفات ولا مراوح، وكان يستمر الدرس إلى قرب المغرب.
فكنا نجلس وسط الزحام، والرائحة التي تخرج من الأفواه بسبب الصوم، والعرق الذين يكون من الناس، وتزاحم طلاب العلم على ذلك، وقد مرت على بعض طلاب العلم حالات يجلس فيها فيجلس على يمينه رجل وعلى يساره رجل، ويزحم حتى يكاد يرى الموت، وكانت له ثلاثة دروس رحمه الله بعد العصر: درس في صحيح مسلم، ثم في الترغيب والترهيب، ثم في السيرة، وكان يجلس أكثر من ساعة ونصف إلى ساعتين في أيام الصيف؛ لأنه لا يترك الدرس إلا قبل الإفطار بنصف ساعة رحمه الله.
فالمقصود: أنه والله كانت تمر أشياء لا تزيدنا إلا محبة لإخواننا، فإذا شعرنا بحاجة المسلمين إلى هذا العلم وحاجة الناس إلى الدعوة، فإن هذا يعيننا على كثير من الصبر.
وأحب أن أنبه على مسألة أخيرة وهي: مسألة حجز الأماكن: فإني أناشد كل مسلم بالله عز وجل أن لا يحجز المكان إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي مبكراً ويجلس في مكان ولا يقوم منه إلا ل
حكم فرقعة الأصابع في المسجد وتشبيكها بعد الفرض
السؤال ما حكم الفرقعة بالأصابع في المسجد؟ وما حكم تشبيك الأصابع بعد الانتهاء من صلاة الفرض؟
الجواب بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن فرقعة الأصابع لم يثبت دليل على تحريمها والمنع منها، ولذلك فإن فتوى البعض بأنها حرام أمر محل نظر؛ لأن تحريم الأشياء يحتاج إلى نص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والناس يختلفون، وقد يعتاد البعض فرقعة أصابعه دون شعور، وليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريمها، وما يُحكى عن قوم لوط أنهم كانوا يفعلون هذا، فهذه أمور تحتاج إلى توثيق، وتحتاج إلى ثبوت النص بتحريمها وإنكارها وعدم جوازها.
لكن بعض العلماء عد ذلك من خوارم المروءة، ولكن ليس على كل حال يعتبر من خوارم المروءة، فقد يكون الشخص اعتاد ذلك، أو يفعله لا شعورياً بسبب الإلف، فهذا أمر موسع فيه، أما إذا كان على سبيل التكسر والتخنث فهذا أمر معروف حكمه، حتى إن لباس الثوب لو كان على صفة فيها تكسر، أو المشية لو كانت على صفة فيها تكسر، فهي محرمة لعارض لا لأصل.
ففرقعة الأصابع شدد فيها بعض العلماء وعدها من خوارم المروءة، لكن الحكم بالتحريم يحتاج إلى نص؛ لأن خوارم المروءة ليست بمحرمة؛ لأنها في أشياء مباحة، قال الناظم: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فهو مباح في الأصل؛ كالأكل أمام الناس، والأكل في الأسواق، والضحك بصوت عال في مجامع الناس، وفي أمكان لا يصلح فيها الضحك ونحو ذلك من الأمور التي تدل على نقصان عقل صاحبها، فهذه من خوارم المروءة؛ لأن المروءة هي الكمال.
والأصل في الدليل الشرعي في ضابط خوارم المروءة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فإذا فعل الإنسان هذه الأمور أمام من ينبغي الحياء منه؛ كالعالم والوالد والشيخ أو الكبير أو الذي له مكانة، فمثل هذه الأمور تخرم المروءة، ولكنها لا تقتضي الحكم بالحرمة.
وأما تشبيك الأصابع فله حالتان: الحالة الأولى: تشبيك الأصابع قبل الصلاة، فهذا منهي عنه شرعاً، فمن خرج من بيته فلا يجوز له أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الرجل إذا خرج من بيته فهو في صلاة فلا يشبكن بين أصابعه؛ لأن التشبيك شعار اليهود في عباداتهم.
ومن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض الناس مما يسبق الصلاة: أنهم وهم جالسون بعد أداء السنن أو أداء تحية المسجد تجد الشخص يشبك أصابعه بعضها ببعض، مع أنه قبل الصلاة ممنوع منه، وينصح الناس وينبهون على ذلك.
الحالة الثانية: بعد الصلاة؛ وفيها أحاديث صحيحة منها حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -شك من الراوي- فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع كالغضبان وشبك بين أصابعه) ؛ فهذا يدل على أن تشبيك الأصابع بعد الصلاة لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين الأصابع ظاناً أن الصلاة قد انتهت.
ومن هنا قالوا: لا بأس به، ومما يدل على أن التشبيك في غير الموضع المنهي عنه جائز: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه، كما في الحديث الصحيح لما قال: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد وشبك بين أصابعه عليه الصلاة والسلام) .
فهذا يدل على أنه لا بأس في الأصل، لكن في العبادات وأثناء الصلاة، أو في انتظار الصلاة، أو في الطريق إلى الصلاة، هذا ممنوع منه ومحظور.
والله تعالى أعلم.
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال اعتنى بعض الناس في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما الحكم في ذلك؟
الجواب لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية المولد، بل هذه أمور أحدثت، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا فعلها أهل القرون المفضلة، وقد مرت أربعمائة سنة ما فعل أحد منهم المولد، وهذا أمر لا نقوله نحن، فمن أراد أن يبحث ويطلع فله ذلك.
فإن قال قائل: إنه عبادة، فنقول: إن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، وهذا رسول الأمة عليه الصلاة والسلام تمر عليه أيام مولده في سنواته كلها، فما عظم ليلة منها يوماً من الأيام، ولا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عظم ليلة واحدة، فإما أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن نعتقد أننا خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نستدرك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله.
وإذا كان الاحتفال قربة وطاعة فلماذا لم يفعله عليه الصلاة والسلام؟ ومن فعله فاسألوه؛ لأنه لا نستطيع أن نفتي الناس أن يفعلوا أشياء ثم نقف بين يدي الله نسأل عنها.
نحن نقول: إنه غير مشروع؛ لأننا لم نجد في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في هدي السلف الصالح شيئاً من هذا، فإذا لم نجد شيئاً من هذا فإننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الأمر بدعة وحدث أُحدث في دين الله عز وجل.
والعجب أنك تجد البعض يحافظ على ليلة المولد ويحافظ على حضورها وخشوعها ربما أكثر من خشوعه في صلاته وعبادته! وربما يعتقد في فضائل هذه الليالي ما لا يفعله في العشر الأواخر من رمضان، وربما يُنفق الرجل على إطعام الطعام وعلى الذبائح وغيرها، مع أنه لو جاءه رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسغبة -كما ذكر بعض المشايخ رحمة الله عليهم- يعرض عليه أنه محتاج لما أقرضه.
فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، نحن لا نحتكم للدين بالعواطف، ولا نحدث بآرائنا ولا بأهوائنا، ولكن دين وشرع {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ، فنحن مأمورون باتباع ومأمورون باقتداء، وهذا شيء تعبدي لا يجوز أن يزيد فيه الإنسان ولا أن ينقص.
والنبي صلى الله عليه وسلم نحبه محبة ترضي ربنا، ونحبه محبة تدعونا إلى متابعته وتجريد هذه المتابعة، فنؤثره عليه الصلاة والسلام على أنفسنا وأهلينا، وعلى أهوائنا وآرائنا.
فانظر رحمك الله إلى كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فما وجدت فيهما فالتزمه، وما خالفهما فاتركه، ولو جرى عليه أهواء الناس، ولو جرت عليه عادة الناس، والذي ندين الله عز وجل به أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا الشيء.
وعلى هذا: فإنه لا يشرع فعله، ولا يجوز للمسلم أن يحدث في دين الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم -أي: الزموا- بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) ، ولذلك قال قبلها: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، فأمرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الاختلاف أن يرجعوا إلى سنته صلى الله عليه وسلم، فالواجب الاحتكام إلى هذه السنة وإلى هديه عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام يوم الإثنين وقال: (ذاك يوم ولدت فيه وأحب أن أصومه) ، فمن أراد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه أن جعله تابعاً لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فليشكرها بما ورد، وليتبع ولا يبتدع، فيصوم يوم الإثنين.
لكن هل كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول؟ لم يخص الرسول اثنيناً معيناً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له؛ لأنه قد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم فعل المولد؛ لأنه صام يوم الإثنين، فنقول: لا، النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ما خص اثنيناً معيناً، فهذا أصل عندنا ودليل على عدم جواز تخصيص ليلة مولده عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام بين طريق الشكر، فقطع الطريق على من يقول: نحن نفعل المولد شكراً لله عز وجل على النعمة؛ لأنك أمام أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وشكر ربه على أتم الوجوه وأكملها وهو يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم) ، وإما -وحاشاه- أن يكون دون ذلك وجئنا نكمله، فهو عليه الصلاة والسلام صام الإثنين، وصيام الإثنين دل على أن الشكر لهذه النعمة يكون بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، فتصوم هذا اليوم، لكن لا تخصه بيوم معين من الآن.
ولماذا لا نخصه؟ لأنه ليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الأضحى وعيد الفطر، ولو أن الأمة جعل لها يوم مخصص ليوم نبيها لضلت؛ ولذلك أغلق هذا الباب، وجُعل يوم الإثنين من سائر أيام السنة، ونحن نحمد الله عز وجل ونشكره أن شرفنا وكرمنا، فليست هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام، ومن أزكى وأعظم ما يكون أن يختار الله لك أشرف الرسالات وأفضل الرسالات وأفضل الأنبياء، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلالك.
فهذه النعمة لا يستطيع الإنسان أن يقدرها حق قدرها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
ومما زادني شرفاً وتيهاً كدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلوات الله وسلامه عليه، والله إننا نحبه محبة تجري في دمائنا وعروقنا، ولا نعتقد أن هذا ينقص من مكانته أبداً؛ بل ينبغي علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا سبيل للجنة إلا بمحبته ومتابعته عليه الصلاة والسلام أبداً؛ لأن الله أحبه، وهذا الفضل الذي خصه الله عز وجل به.
ووالله لو أن الإنسان رزق من العلم والبصيرة ما يتأمل فيه آيات الكتاب في إجلال الله لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وحبه له وإكرامه له عليه الصلاة والسلام، لوجد شيئاً يكاد يصل به إلى درجة عظيمة من المحبة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم تكفينا عن كثير من الأشياء والمحدثات.
فتأمل كتاب الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك) ، أي مقام وصل إليه أحد مثل هذا المقام الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؟ ثم مع هذا كله إذا عاتبه سبحانه يعاتبه ويجعل العفو قبل المعاتبة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] ، فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] قبل أن يقول له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] إكراماً لنبيه، وإشعاراً لنا بأن نقدره ونوقره عليه الصلاة والسلام ونملأ قلوبنا بحبه وإكرامه.
ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يبيّن هذا الفضل الذي خصه به ربه ويقول: (أنا رحمةٌ مُهداة) ، فيا له من مقام! ويا لها من منزلة! نحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتقد بأن عندنا بينات من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعرفنا بقدره، وتعرفنا بحقه ومنزلته، فإن الله لم يخاطبه باسمه المجرد: يا محمد! بل قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] .
وعندما يعاتبه -كما ذكرنا- يقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] حتى إنك عندما تقرأ الآية لا تدري من الذي عبس، فلم يقل له: عبست؛ بل قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4] ، ثم تأتي آيات القرآن كلها تشريفاً لهذا النبي في دلالاتها وسياقاتها تدل على مقامه وعلو شأنه عليه الصلاة والسلام.
فكل مؤمن يعتقد هذا اعتقاداً جازماً، ولا يظن أحد أن من يقول بأن المولد بدعة أن معناه: أنه انتقص مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أو مس حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه يكره النبي صلى الله عليه وسلم لا.
فإن هذا هو الغلو.
ومن محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أننا نريد أن نتبع وأن نسير على نهج علمنا العلم الجازم أنه لا يرضى عليه الصلاة والسلام ولا يرضى ربه الذي أرسله إلا بهذه المثابة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ، وأدب الله نبيه على الاتباع فقال له: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] ، فلا زيادة ولا نقص، فلا يجوز للمسلم أن يزيد، ولا يجوز له أن ينقص، ولا يجوز له أن يبدل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا محبته، وأن يحشرنا في زمرته.
وأوصي طلاب العلم -إذا نبهوا الناس- بأمر مهم جداً وهو: أننا ننصح الناس بالتي هي أحسن، ولا ننفر، فينبغي أن نبين الحق وأن نبين السنة والبدعة، ولكن ينبغي أن لا يغلو الإنسان في نصح الغير وتوجيههم؛ لأنك إذا كنت صاحب سنة فينبغي أن يظهر حبك للسنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أساليبك وطريقة توجيهك وإرشادك، فكم من أناس رأيناهم وهم يتمسكون بأمور يظنون أنها سنة، والله يعلم من قرارة قلوبهم أنهم يريدون الخير، فلما نصحناهم ووجهناهم عدلوا عن ذلك.