عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-08-2025, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة

الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة (الحلقة الثانية)


  • من الخطأ في الفتوى عدم مراعاة المفتي للواقع وعدم تقديره لمآلات الأمور وهذا من أهم الضوابط التي يجب أن يلتزمها من يتصدر للفتوى
  • أهل العلم يعدون التعجل في الفتوى نوعًا من التساهل الذي لا يجوز للمفتي أن يقع فيه ونوعا من الجهل وقلة النظر ورقة الدين
  • التعجل في الفتوى يؤدّي إلى عدم فهم المفتي للسؤال فهما كاملًا فإن أفتى على هذه الحال فقد أخطأ
  • من المعلوم أنه ليس كل ما يعلم يقال ولا كل ما يقال يقال لكل أحد ولا كل ما يقال لكل أحد يقال في كل وقت
  • كان من عادة أهل العلم التثبت والتحري فإن اشتبه عليهم لفظ وقفوا ولم يفتوا حتى يتثبتوا
ما زال حديثنا مستمرا عن الانحراف الكبير الذي وقع في باب الفتوى، وحدث بسببه فساد عريض في المجتمع المسلم؛ ولذلك جاء هذا المقال للتنبيه على بعض المزالق والأخطاء في باب الفتيا التي عمت بها البلوى، وانتشرت بين الناس، وذكرنا في الحلقة الماضية تعريف الإفتاء، وكيف كان السلف يتورعون عن الفتوى، ثم تحدثنا عن الأمور التي يقع فيها الخطأ في باب الفتوى وذكرنا منها: الإفتاء بغير علم، والجواب عن كل ما يُسأل عنه، واليوم نستكمل ذكر هذه الأخطاء.
(3) التعجّل في الفتيا
ومن أصول الخطأ في الفتيا التسرع والتعجل فيها، وهو تسرع المفتي في تبيين الحكم الشرعي للسائل، تسرعًا بقصد أو دون قصد؛ يؤدي إلى مخالفة حكم الشارع في المسألة، وهذه المسالة من أخطر المزالق والأخطاء التي تقع في فتوى العالم، بل كان السلف يعدونها نوعًا من الجهل والحماقة، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخَرْقِ. قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: التَّأَنِّي مِن اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ. وكان أهل العلم يعدون التعجل في الفتوى نوعًا من التساهل الذي لا يجوز للمفتي أن يقع فيه، ويعدون هذا من الجهل وقلة النظر ورقة الدين، قال ابن الصلاح: «لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتي، وذلك قد يكون: أنه يسرع في الفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، ولأن يبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيَضل ويُضل».
منهج الفتوى
ولذا كانوا يضعون منهجًا لمن تُعرض عليه الفتوى، إذا اتبعه المفتي وعمل به قلما يقع في الخطأ، وإن أخطأ بعد الدقة وتحري النظر والتريث وعدم التعجل فهو معذور مأجور بإذن الله -تعالى-، قال البغدادي: «فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَتَأَمَّلَ رُقْعَةَ الِاسْتِفْتَاءَ تَأَمُّلًا شَافِيًا، وَيَقْرَأ مَا فِيهَا كُلَّهُ كَلِمَةً بَعْدَ كَلِمَةٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِهِ، وَتَكُون عِنَايَتُهُ بِاسْتِقْصَاءِ آخِرِ الْكَلَامِ أَتَمَّ مِنْهَا فِي أَوَّلِهِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ يَكُونُ بَيَانُهُ عِنْدَ آخِرِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يَتَقَيَّدُ جَمِيعُ السُّؤَالِ، وَيَتَرَتَّبُ كُلُّ الِاسْتِفْتَاءِ بِكَلِمَةٍ فِي آخِرِ الرُّقْعَةِ. فَإِذَا قَرَأَ الْمُفْتِي رُقْعَةَ الِاسْتِفْتَاءِ فَمَرَّ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّقْطِ وَالشَّكْلِ، نَقَّطَهُ وَشَكَّلَهُ، مَصْلَحَةً لِنَفْسِهِ، وَنِيَابَةً عَمَّنْ يُفْتِي بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَى لَحْنًا فَاحِشًا، أَوْ خَطَأً يُحِيلُ الْمَعْنَى، غَيْرَ ذَلِكَ وَأَصْلَحَهُ»، وَقَالَ عبدالرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى مَالِكٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَمَكَثَ أَيَّامًا مَا يُجِيبُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عبداللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَأَطْرَقَ طَوِيلًا وَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، يَا هَذَا، إنِّي أَتَكَلَّمُ فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ، وَلَسْت أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِهِ.
عدم تصور المفتي للسؤال
والتعجل في الفتوى يؤدّي إلى عدم تصور المفتي للسؤال تصورًا كاملًا؛ فإن أفتى على هذه الحال فقد وقع في الحرام إجماعًا، قال البهوتي: «وَيَحْرُمُ عَلَى مُفْتٍ إطْلَاقُ الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إجْمَاعًا، فَمَنْ سُئِلَ: أَيُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ أَوْ نَحْوُهُ بِرَمَضَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ؟ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: الْفَجْرُ الْأَوَّلُ أَوْ الْفَجْرُ الثَّانِي؟ وَمِثْلُهُ مَا امْتُحِنَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ فِيمَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ وَجَحَدَهُ هَلْ لَهُ أُجْرَةٌ إنْ عَادَ وَسَلَّمَهُ لِرَبِّهِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ قَصَّرَهُ قَبْلَ جُحُودِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ جُحُودِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَصَرَهُ لِنَفْسِهِ»، وهذا الإجماع الذي نقله البهوتي دل عليه الحديث الصحيح، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبَتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ».
التثبت والتحري
ولذا كان من عادة أهل العلم التثبت والتحري، فإن اشتبه عليه لفظ وقف، ولم يفتِ حتى يتثبت، ومما يروى في ذلك ما رواه الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطُ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ أَبِي مُجَالِدٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِرُقْعَةٍ فِيهَا مَسْأَلَةٌ، فَقَالَ لِي: اقْرَأْ عَلَيَّ يَا أَبَا الْحُسَيْنِ. قَالَ: فَأَخَذْتُ الرُّقْعَةَ فَإِذَا فِيهَا: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ تَمَّ وَقْفُ عَبْدَانِ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، مَا حَالُ وَقْفِ عَبْدَانِ؟ فَقَالَتْ لَهُ: لَسْتُ أَعْرِفُ وَقْفَ عَبْدَانِ. فَقَالَ لِي: أَعِدِ الْقِرَاءَةَ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كَمَا قَرَأْتُ أَوَّلًا. فَقَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، تَمَّ وَقْفُ عَبْدَانِ هَذَا أَوْ لَمْ يَتِمَّ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، مَا أَعْرِفُ وَقْفَ عَبْدَانِ. وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمُ: انْظُرُوا فِي رُقْعَةِ الْمَرْأَةِ، فَنَظَرُوا فَكُلٌّ قَالَ كَمَا قُلْتُ، ثُمَّ انْتَبَهَ لِمَا فِي الرُّقْعَةِ بَعْضُهُمْ فَإِذَا فِيهَا: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ تَمَّ وَقْفٌ عِنْدَ (إِنْ). فانظر -رحمك الله- كيف أنه راجع المرأة مرات عديدة، وعرض الرقعة على الحضور، حتى تثبت من السؤال، قارن ذلك بما نراه اليوم في الفضائيات من الجرأة على الفتوى، والتسرع في الإجابة، وأحيانًا لا يسمع المفتي السؤال كاملًا، فيفتي بالظن والتخمين والاحتمالات، فيتسبب ذلك في أخطاء عظيمة لا تحمد عواقبها، ولا سيما أنه قد يجيب عن السؤال بحسب فهمه هو، ويكون المستفتي قاصدًا أمرًا آخر، وسواء كان الخطأ من المستفتي في عدم إيضاحه للسؤال، أو من المستفتى في عدم الاستيضاح والتعجل في الإجابة، فإن هذا قطعًا سيؤدي إلى مفاسد عظيمة، قال ابن حمدان: «يحرم التساهل فِي الْفَتْوَى، واستفتاء من عرف بذلك، إِمَّا لتسارعه قبل تَمام النّظر والفكر، أَو لظَنّه أَن الْإِسْرَاع براعة وَتَركه عجز وَنقص، فَإِن سبقت مَعْرفَته لما سُئِلَ عَنهُ قبل السُّؤَال فَأجَاب سَرِيعا جَازَ».
مظاهر التعجل في الفتوى
ومن مظاهر التعجل في الفتوى في حياة المسلمين المعاصرة: ما نراه في الفضائيات من تعجُّل بعضهم في الإجابة عن الأسئلة دون أن يستمع السؤال كاملًا من السائل، وهناك من الأسئلة ما يحتاج إلى تحقيق مناطاتها أولًا، ومن أمثلة ذلك: تعجُّل بعض المفتين في الإفتاء في مسائل التعامل مع البنوك الربوية، والتعجل في الإفتاء في قضايا الطلاق والزواج، ولا سيما أن المفتي قد لا يسمع من صاحب السؤال نفسه، بل أحيانًا على لسان غيره، فأحيانا تسأل الزوجة عن مسألة في الطلاق على لسان زوجها، فيتسرع المفتي ويفتيها دون أن يعلم حقيقة اللفظ وملابسات الواقعة. وأحيانًا نجد من يفتي في بعض قضايا المعاملات وقد لا يستمع للسؤال كاملًا، أو يكون في غير تخصصه، فيحلّ الحرام أو يحرم الحلال من حيث لا يدري، وأحيانا يكون السؤال غير واضح وينقطع الاتصال، ورغم ذلك يجيب المفتي بالظن والتخرص.
4- الإفتاء دون مراعاة الواقع ومآلات الأمور
ومن أصول الخطأ في باب الفتيا عدم مراعاة المفتي للواقع، وعدم تقديره لمآلات الأمور، وهذا من أهم ضوابط الفتوى التي يجب أن يلتزمها من يتصدر ليفتي الناس، ولا سيما في حياتنا المعاصرة، فلا يكفي المفتي مجرد معرفة حكم الله في المسألة، ولا أقوال أهل العلم فيها، بل لا بد من النظر في الواقع، وفي مآلات الأمور، ومن أخل بجانب فقه الواقع فقد أضاع للناس حقوقهم، ونسب هذا إلى شريعة الله التي تأبى كل هذا، وعلى هذا فالواجب على المفتي التعرف على عادات الناس واصطلاحاتهم الخاصة ومقاصدهم وأعرافهم في أماكن عملهم ومصانعهم وشركاتهم؛ حتى تكون فتواه مبنية على فهم سليم».. قال ابن عابدين: «إن جمود المفتي والقاضي على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقرائن الواضحة والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة، وظلم خلق كثيرين».
معرفة عادات الناس وأعرافهم
وقال ابن القيم مبينًا ضرورة معرفة المفتي بعادات الناس وأعرافهم: «لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَيْمَانِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ بِمَا اعْتَادَهُ هُوَ مِنْ فَهْمِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ عُرْفَ أَهْلِهَا وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا، فَيَحْمِلَهَا عَلَى مَا اعْتَادُوهُ وَعَرَفُوهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِحَقَائِقِهَا الْأَصْلِيَّةِ، فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ضَلَّ وَأَضَلَّ؛ فَلَفْظُ الدِّينَارِ عِنْدَ طَائِفَةٍ اسْمٌ لِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ اسْمٌ لِاثْنَيْ عَشْرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ عِنْدَ غَالِبِ الْبِلَادِ الْيَوْمَ اسْمٌ لِلْمَغْشُوشِ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ».
أمر معروف عند السلف
ومراعاة حال السائل وتقدير مآلات الأمور أمر معروف عند سلف هذه الأمة، بل جاءت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك ما رواه عبداللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَ شَابٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: «لَا»، فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَالَ: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ»، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لحال الناس، فقد قبل من هذا ما رده على هذا، وأجاز لهذا ما لم يجزه لهذا، وهذا من سماحة الإسلام، والفقه في الدعوة إلى الله -تعالى-، ومراعاة مآلات الأمور. وهذا فعل ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا، فعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا تَوْبَةٌ؟ قَالَ: لَا إِلَّا النَّارُ، فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: مَا هَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا! كُنْتَ تُفْتِينَا أَنَّ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا تَوْبَة مَقْبُولَة، فَمَا بَالُ الْيَوْمِ؟ قَالَ: إِنِّي أَحْسِبُهُ رَجُلٌ مُغْضَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، قَالَ: فَبَعَثُوا فِي أَثَرِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر على من نهى التتار عن شرب الخمر مراعاة للحال واعتبارًا للمآل، فلقد قال ابن القيم: «وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ- يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، فَدَعْهُمْ».
ليس كل ما يعلم يقال
ومن المعلوم أنه ليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال يقال لكل أحد، ولا كل ما يقال لكل أحد يقال في كل وقت، ولقد بوب البخاري على ذلك فقال: (باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا)، وروى عن عَلِيّ - رضي الله عنه - أنه قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!»، قال ابن حجر: «وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة»، وعن عبداللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً». وفي واقعنا المعاصر كم سببت فتاوى لم يراعِ أصحابها واقع الحال واعتبار المآل من فتن في المجتمع وتضييق على الدعوة! ترتب عليها اتهام الدعاة بالتشدد تارة، والتساهل تارة، وبالجهل تارةً أخرى؛ لأن أصحابها لم يراعوا واقع الحال ولا فقه المآل، فأضروا بأنفسهم ودعوتهم من حيث ظنوا أنهم يريدون نصرة الإسلام، وهذا في عالم الفتاوى ولا سيما على شاشات الفضائيات أكثر من أن يحصر، والمقصود أن الفتوى قد تكون بنيت على دليل شرعي صحيح؛ لكن صاحبها لم يراع حال السائل وواقع الناس، وهذا يدفع الناس إما إلى العمل بها تبعا لقول المفتي فتقع المفاسد التي تصل إلى إراقة الدماء والقتل والحبس، وإما إلى ترك كلام المفتي بالكلية مع سبه وتجهيله والطعن في دينه وعلمه ودعوته.
التعجل في الفتوى
عد ابن القيم التعجل في الفتوى نوعا من الطيش الذي ينبغي أن يتنزه عنه العالم فقال -رحمه الله-: «فَلَيْسَ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُ إلَى الْحِلْمِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ فَإِنَّهَا كِسْوَةُ عِلْمِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِذَا فَقَدَهَا كَانَ عِلْمُهُ كَالْبَدَنِ الْعَارِي مِنْ اللِّبَاسِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا قُرِنَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ عِلْمٍ إلَى حِلْمٍ. فَالْحِلْمُ زِينَةُ الْعِلْمِ وَبَهَاؤُهُ وَجَمَالُهُ، وَضِدُّ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ وَالْحِدَةِ وَالتَّسَرُّعِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ».


اعداد: د. حماد عبدالجليل البريدي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.33 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.33%)]