وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»[4].
قوله: ﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [البقرة: 161، 162].
قوله: ﴿ أُولَئِكَ ﴾: الإشارة للذين كفروا بعد إيمانهم، وشهادتهم أن الرسول حق، ومجيء البينات إليهم، وأشار إليهم بإشارة البعيد ﴿ أُولَئِكَ﴾ تحقيرًا لهم.
﴿ جَزَاؤُهُمْ﴾: مبتدأ ثانٍ، وهو وما بعده خبر للمبتدأ الأول ﴿ أُولَئِكَ ﴾ أو بدل من ﴿ أُولَئِكَ ﴾.
﴿ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ ﴾ أي: أن الله تعالى يلعنهم؛ لاستحقاقهم للعنته عز وجل، واللعنة من الله: طرده وإبعاده لهم عن رحمته وعن جنته، وإدخالهم في عذابه وناره، ومقته لهم.
﴿ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾ أي: وعليهم لعنة الملائكة.
﴿ وَالنَّاسِ ﴾ أي: وعليهم لعنة الناس، ﴿ أَجْمَعِينَ ﴾: توكيد، أي: عليهم لعنة الملائكة أجمعين، ولعنة الناس أجمعين، مؤمنهم وكافرهم.
واللعنة من الملائكة ومن الناس: هي الدعاء بالطرد، والإبعاد عن رحمة الله وجنته، ومقتهم وبغضهم لهم.
قوله تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾.
قوله: ﴿ خَالِدِينَ ﴾: حال.
﴿ فِيهَا ﴾ أي: في اللعنة، أي: ماكثين في هذه اللعنة مكثًا أبدًا، تلاحقهم وتستمر معهم؛ لأن عذاب الكفار أبدي سرمدي؛ كما قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [المائدة: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167].
﴿ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾؛ كقوله في سورة النحل: ﴿ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [النحل: 85].
وجملة: ﴿ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ﴾ في محل نصب على الحال، و﴿ الْعَذَابُ ﴾: العقوبة، أي: لا يخفف عنهم العذاب بأن يهوِّن عليهم من شدته، أو بأن يقطع عنهم يومًا أو فترة، كما قال أهل النار لخزنتها: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 49]، وكما قال تعالى: ﴿ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [الزخرف: 75]؛ أي: لا ينقطع عنهم فترة، ﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ أي: يائسون من الخروج منه أو انقطاعه.
﴿ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾: معطوفة على جملة الحال قبلها، أي: ولاهم يمهلون ويؤخَّر عنهم العذاب، بل يُبادرون بالعذاب.
فيبادرون بالعذاب في الحياة الدنيا قبل الموت بالقتل على أيدي المؤمنين، والسبي، والاضطراب النفسي، والقلق، والشقاء الدنيوي، والمصائب التي سببها الكفر والبعد عن الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].
ويُبادرون بالعذاب عند الموت؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الأنفال: 50].
ويُبادرون بالعذاب في البرزخ بعد الموت؛ كما قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].
ويُبادرون بالعذاب بعد البعث يوم القيامة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: 70، 71].
قوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
بعد ما ذكر عز وجل في الآيات السابقة استبعاد أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم، وشهادتهم أن الرسول حقٌّ، ومجيء البينات إليهم، وتوعدهم باللعنة والخلود فيها وفي العذاب، لم يؤيسهم، بل فتح لهم باب التوبة، فقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، وهذا من لطفه ورأفته وواسع رحمته.
قوله: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء هنا متصل، المستثنى: ﴿ الَّذِينَ تَابُوا ﴾، والمستثنى منه قوله تعالى: ﴿ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [آل عمران: 86].
ومعنى ﴿ تَابُوا﴾ أي: رجعوا إلى الله، وأنابوا إليه، فرجعوا من الكفر إلى الإيمان، وتابوا مما حصل منهم من الكفر بعد الإيمان، فأقلعوا عن الردة بالرجوع إلى الإسلام، وندموا على ذلك، وعزموا على عدم العودة إليه، وكان ذلك في وقت قبول التوبة قبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها.
﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾: الإشارة إلى ما سبق من كفرهم بعد إيمانهم، وأشار إليه بإشارة البعيد تحقيرًا له.
﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ أي: وأصلحوا حالهم وأعمالهم، وما حصل منهم من فساد وإفساد.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ أي: فإن الله يتوب عليهم ويغفر لهم ويرحمهم؛ لأنه غفور رحيم؛ أي: ذو مغفرة واسعة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وذو رحمة واسعة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 147].
والمغفرة ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن العقوبة.
والرحمة قسمان: رحمة ذاتية، ورحمة فعلية يوصلها عز وجل من شاء من خلقه، رحمة عامة، وخاصة، وباجتماع المغفرة والرحمة زوال المرهوب وحصول المطلوب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾.
ذكر عز وجل في الآيات السابقة استبعاد أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهودهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق وجاءهم البينات، واستثنى من ذلك من تابوا وأصلحوا، ثم يبيِّن في هذه الآية أن التوبة لا تقبل ممن كفروا بعد إيمانهم، واستمروا على الكفر وازدادوا منه لشدة ضلالهم وبعدهم عن الهدى.
قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ أي: ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا وعرفوا الحق من أهل الكتاب وغيرهم.
﴿ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ﴾ أي: أوغلوا في الكفر وانحدَروا في دركاته، واستمروا عليه فازداد كفرهم كيفيةً ونوعيةً وكميةً.
﴿ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ﴾ أي: عند حضور الموت، بحضور علاماته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل التوبة العبد ما لم يُغرغر»[5].
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]، والإشارة «أولئك» لمن كفروا وبعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا.
وأكد ضلالهم بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم»، أي: الذين بلغوا غاية الضلال؛ لأنهم تركوا الحق بعد معرفته، وأشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم.
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قومًا أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾[6].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾.
ذكر الله - عز وجل - في الآية السابقة عدم قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، أي عند حضور الموت، ثم أتبع ذلك بذكر عدم قبول الفداء منهم بعد الموت.
قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾، جملة ﴿ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾: حال، أي: وماتوا حال كونهم كفارًا، أي: وماتوا على الكفر وعلى غير الإيمان.
﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا ﴾: الجملة في محل رفع خبر «إنَّ»، أي: فلن يقبل منه لوكان أنفق ملء الأرض ذهبًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].
قال ابن كثير[7]: «أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدًا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبًا فيما يره قربة، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن جُدْعان، وكان يقري الضيف، ويفك العاني، ويطعم الطعام-: هل ينفعه ذلك؟ فقال: «لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»[8].
﴿ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾: معطوف على ما قبله فدلَّ على أنه غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، أي: لو أنفق هذا المبلغ في الدنيا لم يُقبل منه، ولو افتدى به يوم القيامة من العذاب لم يُقبل منه، ولم ينقذه من عذاب الله عز وجل.
ويُحتمل كون الجملة حالية، أي: فلن يُقبل منه ولو في حال الافتداء به.
والمعنى: ولو جعل هذا المال فدية له من عذاب الله لم يقبل منه.
و«الفدية»: مال أو عرض يدفع مقابل الخلاص؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 36].
وعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟»، قال: «فيقول: نعم»، قال: «فيقول: قد أردت منك أهونَ من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تُشرِك»[9].
﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: والإشارة للذين كفروا وماتوا وهم كفار، وفي الإشارة بإشارة البعيد تحقير لهم، و«العذاب»: العقوبة.
﴿ أَلِيمٌ ﴾: على وزن «فعيل» بمعنى: «مفعل»؛ أي: مؤلم موجِع حسيًّا للأبدان ومعنويًّا للقلوب.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: نافية، و«من»: زائدة إعرابًا، مؤكدة لاستغراق النفي من حيث المعنى، و«ناصرين» جمع (ناصر) وهو الذي يدفع ويمنع الضر عن غيره.
والمعنى: وما لهم من أيِّ ناصر ينصرهم، فيدفع عنهم عذاب الله ويمنعه قبل وقوعه، أو يرفعه بعد وقوعه.
قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
بيَّن عز وجل في الآية السابقة أن مَن مات على الكفر، فلن يقبل منه ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به، ثم بيَّن في هذه الآية ما ينال به البر وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله مما يحبون.
قوله: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ ﴾ «لن»: حرف نفي ونصب للفعل المضارع، وتنقله من الحال إلى الاستقبال، والمعنى: لن تدركوا البر وتحصلوا عليه، وتكونوا أبرارًا.
و«البر»: كلمة جامعة لكل خصال الخير الظاهرة والباطنة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]، وقال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].
وقال صلى الله عليه وسلم: «البر حُسن الخُلق»[10]، «البرُّ ما سكنت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب»[11].
وهو ضد الإثم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، «والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب».
﴿ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾: «حتى» للغاية، أي: إلى غاية أن تنفقوا مما تحبون، وفي هذا دلالة على تعدد خصال البر وأنه درجات، من أعلاها الإنفاق ابتغاءَ مرضاة الله تعالى مما يحبون.
و«من» في قوله: ﴿ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾: تبعيضية، و«ما» موصولة، أي: بعض الذي تحبون من المال، كما قال تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]؛ أي: حتى تنفقوا بعض المال الذي تحبونه، ومن أحبه إليكم وأفضله عندكم؛ لما في ذلك من كرم النفس والبعد عن البخل والشح، ومن إيثار محبة الله تعالى ومرضاته على محبة المال والنفس.
وقيل: إن «من» لبيان الجنس.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله - عز وجل - أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»[12].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبَست أصلها وتصدَّقت بها»[13]، وفي رواية قال: «فاحبس أصلها وسبل الثمرة»[14].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، يتأوَّل قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾[15].
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾: الواو: عاطفة، و«ما»: اسم شرط، و﴿ تُنْفِقُوا﴾: فعل الشرط، و﴿ من ﴾: بيانية مبينة للعموم في «ما»، ﴿ شيءٍ ﴾: نكرة في سياق الشرط وتفيد العموم أيضًا؛ أي: وما تنفقوا من شيء، أيِّ شيء كان، قليلًا كان أو كثيرًا، مما تحبون أو مما لا تحبون، طيبًا أو غير طيب.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾: جواب الشرط، والفاء: رابطة في جواب الشرط، أي: فإن الله ذو علم تام به سيُحصيه لكم، ويحاسبكم ويُجازيكم عليه بالخلف العاجل في الدنيا والنعيم الآجل في الآخرة، ولن يضيع عنده؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
والحصر في تقديم المتعلق «به» لتأكيد علمه - عز وجل - بكل ما ينفقون.
[1] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه النسائي في تحريم الدم- توبة المرتد (4068)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 557، 558) ، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 700)، وابن حبان (4477)، والحاكم (2/ 142، 4/ 366)، وقال: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».
[3] أخرجه البخاري في الإيمان ( 16)، ومسلم في «الإيمان» (43)، والنسائي في «الإيمان وشرائعه» (4987)، والترمذي في الإيمان (2624)، وابن ماجه في الفتن (4033)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في الدعوات ( 3517)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (280)، من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[5] أخرجه الترمذي في الدعوات (3537)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: «حديث حسن غريب».
[6] أخرجه البزار فيما ذكر ابن كثير في تفسيره (2/ 95) وقال ابن كثير: «هكذا رواه وإسناده جيد».
[7] «تفسيره» (2/ 95).
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (214)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[9] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3334)، ومسلم في صفة القيامة (2805)، وأحمد (3/ 208).
[10] أخرجه مسلم في البر والصلة والأدب (3553)، والترمذي في الزهد (2389)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (4/ 194)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في الزكاة (1461)، ومسلم في الزكاة - فضل الصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (998)، وأحمد (3/ 141).
[13] أخرجه البخاري في الشروط (2737)، ومسلم في الوصية (1633)، وأبو داود في الوصايا (2878)، والترمذي في الأحكام (1375)، وابن ماجه في الأحكام (2396).
[14] أخرجها النسائي في الأحباس (3604)، وابن ماجه في الأحكام (2397).
[15] أخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/ 295) أن ابن عمر أعتق جارية له يقال لها رميثة، وقال: «إني سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإني والله إن كنت لأحبك في الدنيا، اذهبي فأنت حرة لوجه الله عز وجل.