أخلاق العمل في الإسلام (2)
من إتقان العمل: شعورُ العامل بالمسؤولية تجاه ما يُوكَل إليه من عمل، وحسن رعايته لعمله، وتطويره، والإسراع في إنجازه
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرَف الأنبياء والمرسَلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فالعمل في الإسلام مرتبطٌ بالأخلاق ارتباطًا وثيقًا؛ لأنَّ القِيَم والأخلاق الإسلاميَّة هي التي توجِّه العمل الوجهة الصحيحة، وعندما تأمَّلتُ في مجموعة المبادئ والقِيَم الخلقيَّة التي حثَّ الإسلام على تمثُّلها في أداء العمل وجدتُ أنَّه يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات، الأولى منها في طبيعة العمل، والثانية في العامل نفسه، والثالثة في رب العمل.
ولذا جعلتُ كلَّ مجموعةٍ منها في مبحثٍ مستقلٍّ، وذلك على النحو الآتي:
المبحث الثاني: الأخلاق في العامل نفسه:
لقد جاء الإسلام بكثيرٍ من القِيَم الخلقيَّة التي ينبغي على العامِل أنْ يلتَزِمها ويحرص عليها في أداء عمله، بغضِّ النظر عن نوع الوظيفة أو الحرفة أو المهنة التي يُزاوِلها، بحسبان هذه القِيَم صفات أخلاقيَّة ومبادئ إسلامية واجبة على كلِّ مسلم مهما كان موقعه من العمل الذي يُمارِسه، ولعلَّ من أبرز هذه القِيَم ما يأتي:
1- القوة:
«القوَّة» في اللغة العربية: نقيض الضعف، وتُستَخدَم تارةً بمعنى القدرة كما في قوله -تعالى-: {خذوا ما ْاتيناكم بقوة}(البقرة: 63)، وتارةً أخرى بمعنى التهيُّؤ الموجود في الشيء، نحو أنْ يُقال: النوى بالقوَّة نخلٌ؛ أي: متهيِّئٌ ومترشِّح أنْ يكون منه ذلك.
فينبغي أن يتَّصِف العامل بصفة القوَّة الحسيَّة والمعنويَّة؛ ليكون مُؤَهَّلاً للعمل الذي يقوم به، وذلك بأنْ يتَّخذ جميع الوسائل والأساليب المشروعة التي تجعَلُه قويًّا في بدنه وجاهزيته للعمل وقويًّا في جدِّه واجتهاده، وقويًّا في معلوماته ومهاراته وفي إدراكه لاحتِياجات العمل ومتطلباته الذي يَرغَب في القِيام به؛ ليُحَقِّق أقصى درجات الخدمة للمنتَفِعين من هذا العمل؛ ولذا جاء وصْف موسى - عليه الصلاة والسلام - على لسان ابنة الرجل الصالح شعيب بـ«القوي الأمين».
2- الأمانة:
وهي من أهمِّ الأخلاق التي يجب أنْ يتَّصِف بها العامل؛ لأنها من الدِّين، ولثقلها أبَت السماوات والأرض والجبال حَمْلَها، وحمَلَها الإنسان، كما قال - تعالى-: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا}(الأحزاب: 72)، ووَرَد في القرآن الكريم ما يؤكِّد أهميَّة هذا الخُلُق الكريم في العامل في أكثر من موضع، من ذلك على سبيل المثال قولُه - تعالى -: {قالت إحداهما يأبت استأجره إن خير من إستأجرت القوي الأمين }(القصص: 26)، وقوله - تعالى-: {يأيها الذين ْامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون }(الأنفال: 27)، وقوله - تعالى-: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }(النساء: 58).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم مُؤَكِّدًا على أهميَّة الأمانة: «لا إيمان لِمَن لا أمانة له»، ويقول كذلك: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتَمنَك، ولا تخن مَن خانَك».
وللأمانة معانٍ وصورٌ كثيرة، منها:
1- أنْ يحرص العامِل على وقت العمل، وأنْ يستثمره في سرعة إنجاز العمل الموكول إليه، وأداء واجبه كاملاً في عمله؛ مصنعًا كان أم مزرعة أم متجرًا أم مكتبًا أم غيره، وعدم إضاعة الوقت وتبديده في الانشِغال بأمورٍ لا علاقة لها بالعمل، سواء كان ذلك داخل مقرِّ العمل أم خارجه، ويقتضي ذلك منه أنْ يرعى حقوق الناس التي وُضِعت بين يديه؛ فليس أعظم خيانة من رجل تولَّى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعَهَا.
2- أنْ يجتنب في أداء عمله الغشَّ بكافَّة أشكاله وصُوَرِه، فهو محرَّم شرعًا؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن غشَّنا فليس مِنَّا».
3- ألاَّ يستغلَّ موقعه في العمل لجرِّ منفعة شخصيَّة له ولقرابته وصداقته، أو للاستِيلاء على المال العام بطرائق ملتويَة، أو لصرف العهدات الماليَّة ونحوها في غير ما خُصِّصت له، أو للتكسُّب المادي غير المشروع؛ كتلقِّي الهدايا والرَّشاوَى مقابل خدمات وتسهيلات للمُهدين أو الراشين.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن استعمَلناه على عملٍ فرزقناه رزقًا، فما أُخِذَ بعد ذلك فهو غلولٌ»، وفي روايةٍ أخرى: «مَن استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا فما فوقَه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة».
ويقول - عزَّ وجلَّ - عن هذا الغلول: { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }(آل عمران: 161).
4- المحافظة على أدوات العمل وأجهزته ومعدَّاته ووسائله، وعدم استِخدامها أو تسخيرها لقضاء مصالح شخصيَّة ومنافع ذاتيَّة، للعامل أو لمعارفه وأصدقائه ومَن له مصلحة معهم؛ ذلك أنَّ هذه الأدوات والأجهزة والمعدَّات أمانة عند العامل أيًّا كان عمله، وسيُحاسَب يوم القيامة إنْ فرَّط في المحافظة عليها، وقد تقدَّم معنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته».
5- المحافظة على أسرار العمل وكتمانها، فذلك من الأخلاق الحميدة التي حَثَّ عليها الإسلام، وجعَل لها ثوابًا جزيلاً وفضلاً عظيمًا عند الله وفي حياة الناس.
وهذا الخُلُق الكريم من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لصلاح الأحوال وتحقيق الطموحات، يقول الماوردي: «اعلم أنَّ كتمان الأسرار من أقوى أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح».
3- إتقان العمل:
من القِيَم الخلقيَّة المهمَّة في مجال العمل والإنتاج إحسانُ العمل وإتقانُه؛ ذلك أنَّ الإسلام يَحُضُّ على إتقان العمل وزِيادة الإنتاج، ويعدُّ ذلك أمانة ومسؤوليَّة، فليس المطلوب في الإسلام مجرَّد القيام بالعمل، بل لا بُدَّ من الإحسان والإجادة فيه وأدائه بمهارة وإحكام؛ فذلك مدعاة لنَيْل محبَّة الله ومرضاته - سبحانه - يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عملاً أنْ يُتقِنه»، ويقول أيضًا مُرَغِّبًا في هذا الخُلُق الفاضل وحاثًّا عليه: «إنَّ الله كتَب الإحسان على كلِّ شيءٍ؛ فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتلَة، وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرتَه وليُرِح ذبيحته».
ومن إتقان العمل: شعورُ العامل بالمسؤولية تجاه ما يُوكَل إليه من عمل، وحسن رعايته لعمله، وتطويره، والإسراع في إنجازه، وبذْل الوسع والطاقة في اجتِناب الوقوع في الأخطاء في أداء العمل وإنتاجه، وألاَّ يفرِّق بين عمله في قطاع حكومي أو مؤسَّسة خاصَّة وعمله لخاصَّة نفسه، فهو مُطالَب بإتقان العمل وإجادته وإحسانه سواء كان له أو لغيره.
وممَّا يُعِين على إتقان العمل:
أ- أنْ يختار العمل الذي يُناسِبه ويستطيع أداءَه بكفاءة ومقدرة، فمن غير المناسب أنْ يختار عملاً لم يُؤَهَّل له ولا يستطيع أداءَه.
ب- أنْ يعرف العامل متطلَّبات العمل ومستلزماته؛ كي يَتمَكَّن من الوَفاء بها على الوجْه الأمثل.
إنَّ إتقان العمل وأداءَه بصدقٍ وإخلاص إنما يَزِيد من الإنتاج وينمي الاقتصاد، وهذا يَعُود بالنَّفع والفائدة على العامل نفسه، وعلى ربِّ العمل، وعلى المجتمع كذلك.
4- الإخلاص:
من لَوازِم الأمانة الإخلاص في العمل وعدم التهاوُن به؛ لأنَّه لا يمكن القِيام بالعمل على أكمل وجهٍ وأحسنه إلاَّ إذا تحقَّق فيه الإخلاص من العامل نفسه؛ فالإخلاص هو الباعث الذي يحفِّز العامل على إتقان العمل، ويدفعه إلى إجادَتِه، ويُعِينه على تحمُّل المتاعب فيه، وبذْل كثيرٍ من الجهد في إنجازه، وتوافر هذا الخلق الكريم في العامل من العوامل الرئيسة التي تَحُول دون وقوع الخلل والانحِراف عن الطريق الصحيح في أداء العمل، فهو بمثابة صمام الأمان ضدَّ الفساد بكلِّ أنواعه.
5- الالتزام بأنظمة العمل:
ومن الأخلاق الإسلاميَّة الفاضلة التي يجب على العامل الحرصُ عليها والتحلِّي بها الالتزامُ بأنظمة العمل ولوائحه وقوانينه المحدَّدة، فذلك مقوم من مقومات العمل، وعاملٌ رئيسٌ من عوامل النجاح فيه؛ ولذا كلَّما تَمَّ الالتِزام بهذه الأنظمة والقوانين انعَكَس أثرُ ذلك على الإنتاج في العمل وزيادته واستمراريَّته لصالح الفرد والجماعة.
ويدخُل ضمن الالتِزام بأنظِمة العمل أمورٌ كثيرة، منها:
أ- الالتِزام بأَوقات العمل والمحافظة عليها، فذلك من أهمِّ واجبات العمل التي تنصُّ عليها الأنظِمة والقوانين.
ب- طاعة المسؤولين، فطاعة العامل التامَّة لرئيسِه المباشِر في أيِّ مجالٍ من مجالات العمل فيما يخدم العمل ويطوِّره ويَزِيد الإنتاج ويحسنه خلقٌ كريم ينبغي التحلِّي به.
ج- التعاون في الأداء، فالتعاون بين عموم المسلمين على البر والتقوى خلقٌ رفيع دعا إليه الإسلام ورَغَّب فيه؛ حيث يقول -عزَّ وجلَّ-: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }المائدة: 2)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
6- الالتزام بأداء الواجبات الشرعية:
ومن الأخلاق الفاضلة والصِّفات الحميدة في العامل التزامُه بأداء الواجبات الشرعيَّة، وقيامُه بالعبادات المفروضة التي أوجب الله على عباده المؤمنين القيامَ بها، وعلى رأسها أداءُ الصلوات المفروضة جماعةً، وصيام شهر رمضان؛ ويقول - تعالى -: {قل لعبادي الذين ْامنوا يقيموا الصلاة }(إبراهيم: 31)، ويقول أيضًا: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ}(الحج: 78)، ويقول كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 183).
ويستلزم أداء هذه الواجبات الشرعيَّة اجتِناب جميع المحرَّمات والمعاصي المُوجِبة لغضب الله - سبحانه - وسخطه وعقابه.
7- حسن التعامُل مع المراجعين:
ينبغي على العامل أن يُحسِن التعامُل مع المُراجِعين له لإنجاز معاملاتهم التي بين يديه، وذلك باتِّباع ما يأتي:
أ- احترامهم واللُّطف معهم والرِّفق بهم.
ب- البَشاشَة وطَلاقة الوجه عند لِقائِهم وطيب الكلام معهم.
ج- الإحسان إليهم، وذلك بتقديم المشورة والنُّصح لهم في كلِّ أمرٍ يَخُصُّ مُعامَلاتهم، واختِيار أفضل الخِيارات المُتاحَة لهم، وسرعة إنجاز أمورهم ومعاملاتهم، والمبادرة إلى تقديم كلِّ خدمة مُمكِنة لهم؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرَبِ يوم القيامة».
د- احتِمال الأذى، والعفو والصَّفح عمَّن أخطأ منهم، فالعامل يمرُّ عليه - غالبًا - فئاتٌ شتَّى من المراجعين، منهم المتعلِّم والجاهل، ومنهم الكبير الناضج والصغير الطائش، ومنهم الكريم واللئيم، فعليه أنْ يُوَطِّن نفسه على احتِمال الأذى منهم في أدائه عملَه، والحلم عليهم، والعفو والصَّفح عمَّن قد يصدر منه شيءٌ من الطيش والسَّفَه أو السلوك الخطأ؛ وذلك امتثالاً لأمر الله - عزَّ وجلَّ - بهذا، واحتِسابًا للأجر العظيم عنده - سبحانه - يوم القيامة، وللحديث بقية إن شاء الله.
اعداد: الدكتور: مفرح بن سليمان القوسي