خواطر الكلمة الطيبة .. انتفاع العلماء وطلبة العلم بعضهم من بعض
كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على الانتفاع من بعضهم، ولا سيما العلماء؛ فالعالم مهما بلغ علمه يبقى محتاجًا إلى غيره، ولا يصل أحد إلى مرحلة يستغني فيها عن الآخرين، وقد ضرب لنا التاريخ نماذج عطرة من ذلك، ومن أبرزها ما روي عن الإمام سفيان الثوري -رحمه الله-؛ فقد أخذ سفيان العلم عن عاصم في بداية طلبه، ثم صار لاحقًا محدثًا بارزًا له مجلسه وتلاميذه، ودخل عليه عاصم يومًا وهو يُحدّث الناس، فقال له: «يا سفيان، أتيناك صغيرًا فعلّمناك، وجئناك كبيرًا لتعلّمنا، فأنا في علم القراءات فارس الميدان، وأنت في علم الحديث كذلك، فلا يعيبني أن آخذ العلم عنك.»
هذا الموقف يجسد تواضع العلماء، فالاستزادة من العلم تورث التواضع لا الكِبر، وهكذا كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلما جاءه جبريل بالوحي ازداد تواضعًا ولينًا وقربًا من الناس؛ ولهذا نقول: من تعلّم ثم رأى نفسه فوق الآخرين ولم يثمر علمه تواضعًا، فليعلم أنه لم يذق طعم العلم الحقيقي. أثر السند المبارك
ومما يرويه سفيان الثوري عن الإمام جعفر الصادق -رحمه الله- أن جعفر اشتهر بالصدق لكونه لم يُعرف عنه كذب، صغيرًا كان أو كبيرًا، وقد جمع الله له هذه الخصلة الكريمة من سلالة مباركة تمتد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجده علي وجدته فاطمة -رضي الله عنهما-، ثم الحسن والحسين-رضي الله عنهما-، حتى وصل إلى والده محمد بن علي بن الحسين. وقد عُرف عن علماء السلف دقة العبارة واختصار المعاني، حتى إن من يطالع المتون القديمة يلحظ فيها روح النبوة وجوامع الكلم؛ وهذا من بركة اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم، وانتقلت هذه الخصيصة إلى أصحابه والتابعين، ولا يزال أثرها ظاهرًا في كلام العلماء الكبار مثل الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، والألباني -رحمهم الله-؛ حيث نجد كلمات قليلة مشبعة بالخير. وصايا إيمانية من كلام جعفر الصادق
من الأقوال النفيسة التي نقلها سفيان الثوري عن جعفر الصادق قوله: «إذا أتاك ما تحب فأكثر من الحمد لله». وليس المقصود بالشيء المحبوب المال وحده؛ فالدنيا متنوعة في مشتهياتها، فمن الناس من يطلب المال، وآخر يطلب المزارع أو الماشية، وكلٌّ له رغبة، ومع ذلك تبقى أعظم النعم هي نعمة الدين، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «الحمد لله إذ لم تكن في ديني»؛ فالمؤمن يستقبل الخير بالحمد، ويستقبل المكاره بلا حول ولا قوة إلا بالله، وهذان جناحا المؤمن: الحمد عند السرّاء، والصبر عند الضرّاء، وقد لخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قوله: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير...». الاستغفار مفتاح الرزق
وكان جعفر الصادق يقول أيضًا: «إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار.» وقد جسد بعض الناس هذا المعنى، فذكر أحدهم أنه حُرم الذرية وطرق أبواب الأطباء بلا جدوى، ثم سمع خطيبًا يذكّر بقوله -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (نوح)؛ فعاد إلى زوجته وبشّرها بالفرج، وجعلا الاستغفار ديدنهما، فما مضى شهر حتى حملت زوجته ثم رُزقا المولود الأول، وتتابعت الذرية بعد ذلك، حتى وُهبوا سبعة أبناء؛ ببركة الاستغفار، وهكذا ختم سفيان الثوري روايته بقوله: «فنفعني الله بها»، ونحن نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والتواضع للحق.
اعداد: د. خالد سلطان السلطان