مكارم الأخلاق (14) الامتنان
- هو الاعتراف الصادق بالجميل، يبدأ بالقلب ويمر على اللسان، ويترجم بالأفعال، خلق رفيع ينبغي أن يتحلى به المؤمن على الدوام، فيكون ممتنا لله -عز وجل- أولا، ولرسول الله -[- ثانيا، ولكل من له يد عليه، من والدين، وزوج وأخ وقريب أو بعيد، نقيضه النكران، وهو أقبح ما يمكن للعبد أن يتخلق به تجاه من أحسن إليه! وهو خلق اللئام كما قال المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
- أظن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في النساء يمثل هذا الخلق.
- أي حديث تعني؟ - حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُريتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال -[-: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان! لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط!» (متفق عليه).
- أحسنت، نعم خير مثال لجحود خير الآخر.
علّق صاحبي مبتسما: - أراك، أعجبك هذا الحديث! - بل كل أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجبني، وكلها حق نؤمن به.
كنت وصاحبي، في طريقنا لزيارة أحد المسؤولين نشكره على مدرسة إسلامية في تنزانيا.
- كما إن الإمتنان مطلوب؛ فالمنّة مذمومة؛ فلا ينبغي لأحد أن يمنّ على أحد إذا عمل له المعروف، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264).
استدركت على صاحبي - والآيتان قبلها تكملان المعنى. - {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة).
- نعم الشاهد أن العبد ينبغي أن يعترف بإحسان من أحسن إليه ويقر بهذا في قلبه، ويشكره بلسانه، ويكافئه بعمله، كما في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه؛ فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» (صحيح أبي داود)، وأقله أن يقول له: «جزاك الله خيرا» بصدق، كما في الحديث عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صُنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء» (السلسلة الصحيحة).
وهذا الشكر للناس، إنما هو جزء من شكر الله -عز وجل-، وهدي في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن مكارم الأخلاق، كما في حديث أبي سعيد الخدري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» في رواية أخرى: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (صحيح أبي داود).
- نعم، وشكر الناس والاعتراف لهم بإحسانهم يورث المحبة والرضا عند الناس، ونكران الجميل يورث القطيعة والكُره بين الناس ولا ينكر المعروف إلا لئيم مكابر، فاقد لمكارم الأخلاق، التي أمرنا بها.
وصلنا إلى مكتب صاحبنا الذي نريد، لم تدم زيارتنا له أكثر من عشر دقائق، بكل ما فيها من ضيافة وترحيب، أبدى تقديره لزيارتنا وترحيبه بأي مساعدة أخرى يستطيع أن يقوم بها.
- إن شعور الامتنان يملأ القلب راحة وطمأنينة، ورضا وقناعة، ابتداء من شعور الامتنان لله -عز وجل- بما تفضل به علينا من نعم لا نحصيها، ينبغي أن يذكر أحدنا نفسه كل يوم بنعم الله عليه، يستيقظ بهذا الشعور، ويأوي إلى فراشة بهذا الشعور، ويعيش يومه كله ممتنا لله -عز وجل- على نعمه، ويشعر بالامتنان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كان سببا للهداية إلى الحق، والنجاة من النار، والفوز بالجنة، ولا تزال سنته سببا للثبات على الحق، ويوم القيامة، تتم النعمة بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الشعور بالامتنان للوالدين، وشكرهما مقرون بشكر الله.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14)، وللزوجة أولى الناس بشعور الامتنان هو زوجها، فتحذر أن تكون ممن يكفرن العشير.
- وماذا عن قول الله -تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران:164)؟ وَجْهُ مَنِّهِ -تعالى- بالرسول ظاهر؛ لأنه داع إلى ما ينجيهم من المخاوف، وهاد إلى ما هو محبوهم، ووجه الامتنان بكون الرسول من أنفسهم عُلِمَ مما مر آنفا من سهولة فهم نبوته وأخذ شريعته وجميع أحواله؛ فالامتنان هنا بشيئين: أصل الرسالة والمجانسة، بل فيه إشارة إلى أعظمية المجانسة في المنّة؛ لما ذكر من أن المقصود بالإفادة في الكلام المقيد هو باعتبار قيده {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} ليهديهم إلى صراط سوي {ويزكيهم} يطهرهم من نجس الكفر ودنس المعصية، ووسخ الخبائث، وفحش الطباع، وسوء الاعتقاد.
ولابن القيم كلام رصين في (الفوائد)؛ إذ يقول: «النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظَرَة يرجوها، ونعمة هو فيها ولا يشعر بها».
وتمام النعمة الأولى يكون بالشكر عليها، أما الثانية فيكون بالدعاء والاجتهاد بالطاعة، في حين أن الثالثة هي خلاصة الامتنان، وثمرة باطنة بين العبد وربه.
حين تستشعر الامتنان فإن أداءك للفرائض لا يعكس امتثالا للشريعة فحسب، بل يصبح سعيا نحو المزيد من القرب، وتغذية الروح بما ترمي إليه الجوارح من معاني المحبة والتذلل والخضوع، وحين يغمرك الامتنان يتملك نفسك توق شديد للتضحية بكل شيء في سبيل مرضاته -تعالى-، ولا يكون حالك في الدنيا إلا كحال الراكب استظل بظلّها ثم ارتحل! وأكد الله -سبحانه- في سورة الرحمن بالآية المباركة: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، قاعدة عامة في الامتنان، لا جزاء للإحسان إلا بالإحسان.
اعداد: د. أمير الحداد