شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الثَّامِنُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِحَشْرِ النَّاسِ بَعْدَمَا يُبْعَثُوْنَ مِنْ قُبُوْرِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ
- المؤذنون والمُلبّون يخرجون يوم القيامة من قبورهم فيؤذن المؤذن ويلبي الملبي وأول من يكتسي من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ثم محمد صلى الله عليهما ثم النبيون والرسل صلوات الله عليهم
- وصفَ الله تعالى يوم القيامة بأنه يوم عظيم ويوم مشهود لأن الخلائق كلها تشهد هذا اليوم
- من فوائد الإيمان بالحشر بعد البعث أن المؤمن لا يتجرأ على عصيان الله تبارك وتعالى
- عند طلوع الشمس من مغربها لا ينفع نفسًا إيمانها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس وتفتر كل قوة من قوى البدن
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن الشعبة الثامنة من شعب الإيمان وهي الْإِيْمَانُ بِحَشْرِ النَّاسِ بَعْدَمَا يُبْعَثُوْنَ مِنْ قُبُوْرِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ، لِقَوْلِهِ -تعالى-: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين)، وَلِحَدِيْثِ عبداللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ: «يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِيْنَ: حَتَّى يَغِيْبُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»، وذكرنا كلام الحليمي على مسائل عدة فيها واليوم نستكمل الحديث عن تلك المسائل. باب طلوع الشمس من مغربها
يقول القرطبي في باب طلوع الشمس من مغربها، وإغلاق باب التوبة: (روى مسلم) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض». وقال: «وإنما لا ينفع نفسًا إيمانها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال؛ لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت». علامات الساعة الكبرى والصغرى
وأورد الحليمي شرحًا وافيًا لعلامات الساعة الكبرى والصغرى، ونذكرها اختصارًا؛ حيث قال: أما انتهاء الحياة الأولى، فإن له مقدمات تسمى أشراط الساعة، وهي أعلامها: منها خروج الدجال، ونزول عيسى -صلوات الله عليه- وقتله الدجال، ومنها خروج يأجوج ومأجوج، ومنها خروج دابة الأرض، ومنها طلوع الشمس من مغربها، فهذه هي الآيات العظام. وأما ما تقدم هذه، من قبض العلم، وغلبة الجهل، واستعلاء أهله، وتتبع الحُكْم، وظهور المعازف، واستفاضة شرب الخمور، واكتفاء النساء بالنساء، والرجال بالرجال، وإطالة البنيان، وزخرفة المساجد، وإمارة الصبيان، ولعن آخر الأمة أولها، وكثرة الهرج، فإنها أسباب حادثة، ورواية للأخبار المنكِرة بها بعدما صار الخبر عيانًا، إلا أنها في الجملة إعلام للساعة. أول الآيات الخسوفات
ورجَّح القرطبي أن أول الآيات الخسوفات، فإذا نزل عيسى -عليه السلام-، وقتل الدجال، خرج حاجا إلى مكة، فإذا قضى حجه انصرف إلى زيارة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا وصل إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل الله عند ذلك ريحًا عنبرية؛ فتقبض روح عيسى -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين، فيموت عيسى -عليه السلام- ويدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في روضته، ثم تبقى الناس حيارى سكارى، فيرجع أكثر أهل الإسلام إلى الكفر والضلالة، ويستولي أهل الكفر على من بقي من أهل الإسلام، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها، وعند ذلك يرفع القرآن من صدور الناس ومن المصاحف، ثم تأتي الحبشة إلى بيت الله فينقضونه حجرًا حجرًا، ويرمون بالحجارة في البحر ثم تخرج حينئذ دابة الأرض تكلمهم، ثم يأتي دخان يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويُضَيِّق أنفاسهم». النفخ في الصور
يقول الحليمي: «وإذا انقضت الأشراط، وجاء الوقت الذي يريد الله -تعالى- إماتة الأحياء من سكان السماوات والبحار والأرضين، أمر إسرافيل -وهو أحد حملة العرش وصاحب اللوح المحفوظ- ينفخ في الصور، يروى أن -رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كيف أنعم؟ أو قال كيف أضحك؟، وصاحب القرن قد التقمه، وحَنَى ظهره ينتظر متى يؤمر ينفخ، فإذا نُفِخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله». وقد سَمَّى الله -تعالى- الصور باسمين: أحدهما الصور، والآخر الناقور، وذلك قوله -تعالى-: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (المدثر)، وقول المفسرين: إنه الصور، والظاهر أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفخات جميعًا؛ فإن الإصعاق يخالف صيحة الإحياء. فإذا مات الأحياء كلهم تُركوا أربعين سنة، ثم نفخ في الصور نفخة الإحياء، واتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين، وقال العلماء: هي أربعون سنة، وذلك -والله أعلم- بعد أن يجمع الله -تعالى- ما تَفَرَّقَ من أجساد الناس من بطون السباع، وحيوانات الماء، وبطن الأرض، وما أصابت النيران منها بالحرق، والمياه، وما أبْلَتْه الشمس، وذرته الرياح، فإذا جمعها وأكمل كل بدن منها ولم يبق إلا الأرواح، جمع الأرواح في الصور، وأمر إسرافيل -صلوات الله عليه- بنفخة من نفث الصور، فأرجع كل روح إلى جسده بإذن الله -تعالى-. فإذا أكمل الله -تعالى جَدُّه- للأجساد على ما هو أعلم به من صفة إكمالها، إلا أنها بعد تراب، ففيه بعض الأخبار: أن الله -تعالى- يمطر عليهم من تحت العرش فتنموا به أجسادهم، وإذا أحيا الله -تبارك وتعالى- الناس كلهم، قاموا بمجلس ينظرون ما يُراد بهم، لقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر: 68). وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ، رَاغِبِينَ، رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتُهُمْ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا»، فيحتمل أن يكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر الناس على ثلاث طرائق»، إشارة إلى: الأبرار، والمخلصين، والكفار. 
سماع الصيحة وهم أموات
يقول الحليمي: «إن سأل سائل عن قول الله -تعالى-: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق: 42)، فقال: إنما تكون الصيحة للخروج وهم أموات، فكيف يسمعونها؟ قيل: إن نفخة الإحياء تميد وتطول، فكانت أوائلها للإحياء، وما بعدها للإزعاج من القبور، فما كان للإحياء فإنهم لا يسمعونه، وما كان للإزعاج فهم يسمعونه، ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة كما ذكرت، والناس يحسبون منها أولًا فأول، وكلما حيي واحد سمع ما يحيى به لمن بعده إلى أن يتكامل إحياء الجميع والله أعلم». أول من يُكسى يوم القيامة
يقول الحليمي: روى عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر قال: إن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، فيؤذن المؤذن، ويلبي الملبي، وأول من يكتسي من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ثم محمد صلى الله عليهما، ثم النبيون والرسل -صلوات الله عليهم-، ثم يكسى المؤذنون، وتتلقاهم الملائكة على نجائب من ياقوت أحمر، أزمتها من زبرجد أخضر رجالها من اللهب، ويشيعهم من قبورهم تسعون ألف ملك إلى المحشر، وفي رواية أخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم تحشرون حفاة عراة غُرلًا، فأول من يكسى إبراهيم، ثم أوتى بحلة لا يقوم بها البشر». تبدل الأرض يوم القيامة
يقول الحليمي: «إنها تُبدَّل، بمعنى أن أعراضها وصفاتها تُغَير، فإنها ذات جبال وتلال، وروابي وأكام، وأودية ووهاد، وغدران وأشجار وبنيان، فتُزَال هذه كلها، ويُسَوَّى بعضها ببعض، ثم تُمَدُّ مَدَّ الأديم، فتزيد بذلك سعتها فتتمكن الخلائق -من الأولين والآخرين- من الوقوف عليها، وعلى هذا معنى قوله ﻷ: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (الانشقاق)، قال ابن كثير: «{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أي: بُسطت وفرشت وَوُسِّعَت، و{ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي: ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت منهم». البحار يوم القيامة
يقول الحليمي: «ووصف الله -تعالى- هذا اليوم بأن البحار تُسجَّر وتُفجَّر منه، فقال في سورة: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} (الانفطار: 3)، فقيل: إن معنى سجرت وفجرت واحد.» انشقاق السماء
وقد وصف الله -تعالى- هذا اليوم بأن السماء تنشق منه، وتُكَوَّر الشمس فقال -سبحانه-: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا} (الفرقان:25)، يقول السعدي: «يخبر -تعالى- عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشدة والكروب، ومزعجات القلوب، فقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه، ينزل من فوق السماوات، فتنفطر له السماوات وتَشقَّق، وتنزل ملائكة كل سماء، فيقفون صفًا صفًا، إما صفًا واحدًا محيطًا بالخلائق، وإما كل سماء يكونون صفًا، ثم السماء التي تليها صفًا وهكذا»، وقيل إن السماء إنما تنشق لما يخلص إليها من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه، وبرزت النيران، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن، وتنشق لما يريده الله -تعالى- من نقص هذا العلم ورفعه. طي السماوات
يقول الحليمي: وقد أخبر الله -تعالى- أن السماوات يوم القيامة مطويات بيمينه: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67)، وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} (الأنبياء: 104). طول يوم القيامة
قال الحليمي: ووردت الأخبار بأن الناس يطول عليهم القيام في ذلك اليوم، فإنه يوم القيامة وقد وصفه الله -تعالى- بذلك، فقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 6)، فإذا ضجروا وجهدوا، سألوا أباهم آدم -صلوات الله عليه- أن يشفع إلى الله -جل ثناؤه- فيقضي فيهم قضاءه، فيحيلهم على نوح، ونوح يدلهم على إبراهيم، وإبراهيم يدلهم على موسى، وموسى -عليه السلام- يدلهم على عيسى، وعيسى -عليه السلام- يحيلهم على محمد -صلى الله عليهم وسلم- أجمعين؛ فيسجد نبينا المصطفى تحت العرش، ويحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ولا يزال ساجدًا إلى أن يقال له: ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع، فيسأل الله -تعالى- أن يحاسب عباده، ويقضي فيهم قضاءه، فيأمر الله -جل ثناؤه- عند ذلك أن يحضر النبيون، وكُتَّاب الأعمال، وهم الكرام الكاتبون والمعنيون بالشهداء، في قوله -تعالى-: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} (الزمر: 69) فحوسب الناس.
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران