حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 2/6
الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني
الفصل الأول: تعريف كلمتي الشهادة وتلازمهما
كلمتا الشهادة هما: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لا إله: نفي لوجود أي إله، فلا النافية، تعني: عدم الوجود الحسي والمعنوي، الحسي كالأصنام، والأنواء، والعباد، والطواغيت، والحكام، وعلماء السوء، وأولياء الباطل.
ومعنوي؛ كالقوانين الوضعية، والعادات والطقوس، وما هو في حكم ذلك.
والإله؛ هو كل ما عبد، وقصد بصرف العبادة والنية في الأفعال والأقوال، ولوحظ في الباطن، واعتُصم بحبله تمسكا ومنافحة.
إلا؛ أداة استثناء، فبعد النفي المطلق، ومحو الاعتقاد والجنان من كل راسب إله صنعه الهوى، وتنقيته من كل وجود للسوى، دخلت أداة الاستثناء، وهو استثناء مفرغ، مفيد لتحقيق ما بعد الاستثناء، والاقتصار عليه حسا ومعنى.
الله؛ رب العزة والجلال، فهو – سبحانه – الإله الواحد، الموصوف بجميع صفات الاستبداد والكمال، الأحد الذي لا شريك له، المستقل بصفات الألوهية، الفاعل في الوجود وحده. والأهل لأن تُفْرَد له العبودية، فهو الرب تعالى الذي نصرف إليه نياتنا، ونلتجيء في دعواتنا، ونلاحظ أوامره ونواهيه، وأحكامه في سائر تحركاتنا وسكناتنا.
محمد؛ النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ابن عبد الله بن عبد المطلب، الرجل العربي الهاشمي القرشي، الذي جاء بالوحي والقرآن، والمعجزة المثبتة للرسالة التي لا يساويها ولا يعادلها ولا يدانيها برهان.
رسول الله: مبعوث من الله تعالى بالرسالة، وهي: القرآن والشريعة، وفي الحديث: "إني أوتيت القرآن وأوتيت مثله معه"، فهو موصوف بكل ما يتصف به الرسول الأمين من الصفات؛ وهي: الصدق والأمانة، والعدالة، والعصمة، وسلامة الحواس. فهو الواسطة بين الله تعالى: معرفته، شريعته، إلينا، ولولاه لما عرفنا الحق تعالى، ولما عرفنا شريعته ولا دينه.
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه أنه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم}. [التوبة/ 34]، قال: "فقلت: إنا لسنا نعبدهم"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟". فقلت: "بلى". قال: "فتلك عبادتهم!".
فلا إله إلا الله؛ قصرٌ للعبودية وجميع متعلقاتها على الله تعالى، باعتقاد أنه النافع الضار، القابض الباسط...إلخ أسمائه الحسنى، بيده الأمر وهو على كل شيء قدير، ليس ذلك لغيره في الوجود، فيصرف إليه تعالى نيته، ويقصر عليه توكله وعمله، ولا يرى غيره أهلا لشيء من ذلك.
وأعلى من ذلك: أن يرى الوجود كله إنما هو منفعل بأمر الحق تعالى، وتجل لقدرته وصفاته ومشيئته، وجودا وتصرفا، فيكون له من كل متحرك في الوجود أو ساكن دليل على الحق تعالى يشاهد فيه صفة من صفاته، ونعتا من نعوته، وحكمة من حكم الحق تعالى. فيخاطبه ويعامله وينفعل له بمقدار ما شاهد فيه من عظمة الحق جل جلاله، فيخاطبه الحق تعالى، ويفهم منه خطابه. وهو المسمى عند الخاصة بوحدة الشهود، ووحدة الوجود.
ومقتضى "محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ أن يكون اعتقاده في الحق تعالى طبق ما علمناه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فلا يسبقه عقله على الآثار، ولا فهمه على السنن، ويلتزم في كل أمر إلهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، في القول والصفة والعمل، إذ كل بدعة إنما هي شرود عن هديه الكريم، وكل شرود إنما هو شرود عن الحق تعالى في الحقيقة.
لا إيمان بالله تعالى من دون الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وواسطة الرسالة إلينا، كما أسلفنا ذكره، والمترجم عن الحق جل ذكره أوامره، وسائر دينه؛ صار لا إيمان بالله تعالى إلا بالإيمان بنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو صورة الأوامر الإلهية إلينا، ولا نتوصل إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى معرفة أحكامه إلا من طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فالإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم واسطة الإيمان بالله تعالى، وعدم الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم، تكذيب لما جاء به، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء إلا بأمر الله تعالى ونواهيه، فاقتضى ذلك الكفر بأوامر الله تعالى ونواهيه، ومعرفته التي عرّفنا بها، فاقتضى الكفر بالله عز وجل.
فلا إله إلا الله، نعرف مقتضاها عقلا، ولكن لا نعرف ماهيتها ومبتناها، إلا بواسطة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما لفظتان متداخلتان، متشابكتان، لا انفصام بينهما، ولا يتصور أصلا ذلك.
قال الشيخ أبو الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني - قدس سره - في رسالته في وجوب اقتران لفظي التوحيد: "إن هاتين الكُليمتين الشريفتين متقاربتان كما قال اليوسي، لا تقوم إحداهما بدون الأخرى، شرعا وعقلا".
"أما شرعا؛ فلأن الإيمان لا يقبل من أحد اليوم إلا بمجموعهما، ألا ترى أن من لم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر؟، وإن وحد الله أو لم يوحد فهو كافر، وإن آمن بالرسل؟. ولأجل هذا التقارن يكتفى بالأول كثيرا، نحو: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة".
"وأما عقلا؛ فلأن الأولى مادة للثانية، والثانية مظهرة للأولى، وبيان ذلك: أن الألوهية منها نشأت الرسولية وظهرت، فكانت الأولى مقتضية للثانية باقتضاء السبب للمسبب، والثانية مقتضية للأولى على العكس...إلخ". فانظره(12).
كما أن "لا إله إلا الله" لا مدلول لها ولا معنى إلا بكون نبي يعرفنا بالله تعالى، وبصفات الاستبداد له سبحانه، معرفة لا تدركها العقول، ولا تستوعبها الحواس..فهب أن ثمة إلها، ولا إله إلا هو؛ فكيف نتعرف إليه ويتعرف إلينا إلا بوجود الوساطة التي هي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وخاتمتهم هو "محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
معرفة الله تعالى من دون طريق النبي صلى الله عليه وسلم معرفة باطلة:
ومن هنا؛ فإن أي معرفة للحق تعالى ولصفاته ولهديه خارج طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله تعتبر معرفة باطلة، أو في حكم الباطل، لأنها جاءت من غير الطريق الذي أراد الله تعالى أن تأتي، فلو توافقت مع الهدي النبوي في بعض؛ فلا تعدو أن تكون من باب الصدفة، ولا أجر ولا ثواب ولا توفيق بها، ولا وجود أصلا في ميزان التدين، لأنها لم تخالطها نية الاتباع والتسليم. {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65].
وكذلك؛ فإن كون الحق تعالى لا إله إلا هو يقتضي معرفة هذا الإله المفرد، والحق تعالى لا يتعرف للخلق إلا بالوسائط، إذ لا مجانسة بينه تعالى وبيننا، وإلا فلا مقتضى للألوهية، إذ صفة الحق تعالى أنه: {ليس كمثله شيء وهو السميع العليم}. [الشورى/ 11]، فاقتضى أنه لا يتعرف لخلقه إلا بذلك، وما كانت الواسطة إلا بالأنبياء والرسل الذين خاتمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فلا معنى لقول: لا إله إلا الله، إلا بقولنا: محمد رسول الله. وقولنا: محمد رسول الله، يقتضي أنه: لا إله إلا الله كما أسلفنا.
الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم شرط للدخول في الإسلام:
قال تعالى: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخره إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراه والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}. [الأعراف/ 156- 158].
بل خصصت آية سورة "محمد" اسم نبينا الجليل تصريحا لا تلويحا في قوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}. [محمد/ 1-3]. فجعل الحق تعالى من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم كافرا صادا عن سبيل الله، وأنه اتبع الباطل. فكانت الحكمة من تخصيص اسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية - كما في أربعة مواضع من القرآن، خلافا لما عود الله تعالى عليه نبيه من خطابه بالرسول والنبي تعظيما له وتشريفا - التخصيص بسيدنا محمد بن عبد الله النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وعلى آله لمن قد يتبادر لذهنه أن غيره من الرسل يشمله في المعنى(13).
وهذا خلافا لما يزعمه بعض جهلة العلمانيين المعاصرين من أن الحق تعالى أورد في القرآن الكريم موسى وعيسى عليهما السلام أكثر من "محمد" صلى الله عليه وسلم، مستدلين بذلك على عدم التفريق بين اليهود والنصارى والمسلمين، غافلين أن القرآن كله خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأريخ لسيرته، وتبيين لشريعته، وثناء عليه، وتصبير له، وتحفيز له، وحض على اتباعه والاقتداء به e. وقد استدل العلماء بقوله تعالى في معرض ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}. [الأنعام/ 90]، بأنه صلى الله عليه وسلم حاز جميع فضائلهم وجمعها، فصار له من الفضل ما تفرق فيهم منة من الحق تعالى(14).
الفصل الثاني: الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بالسنة
فلما تقرر كلمتا التوحيد، وارتباطهما ببعض، وعدم الإيمان ما لم يكن بالنبي الواسطة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ اقتضى ذلك تعريف الإيمان بهذا النبي ما هو؟.
فالإيمان بالشيء هو: الاعتقاد بصحته وأصوبيته، وهو يقتضي التصديق، والتصديق يقتضي المصدق به، وحيث إن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاب في هذه الأزمان بموته صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا مقتضاه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أثره المستمر إلينا.
ولا شك أن أثره المستمر إلينا صلى الله عليه وآله وسلم، هو خصوصياته المشيرة إليه، وأبرزها كلامه وهديه، إذ كلامه وهديه هما الذان ينقلان لنا نبوته ورسالته، ولولا كلامه المفصل لهديه وشريعته، وبشائره ودلائله، وما يصل إلينا من أخباره؛ لما اعتبر له وجود، إذ لن يزيد أن يكون وجودا توهميا.
ولذلك فإن قولنا: "محمد رسول الله" يقتضي إيماننا بكل ما صحت نسبته إليه من قول وصفة وعمل، ويقتضي وجوب أن يصلنا عنه صحيحُ خبَر يكون كافيا للقيام بنبوته، وعدم إيماننا بذلك يقتضي – بالضرورة – عدم إيماننا برسالته وبهديه صلى الله عليه وسلم.
فالرسول بمعنى: الهادي والدليل؛ إنما هو تصرفات هذا النبي الكريم وتوجيهاته، وليست إلا السنة المطهرة، فالتصديق بها واعتقاد استمرارها وصحتها تصديق بالنبوة والرسالة، وعدم ذلك كفر بالنبوة والرسالة.
ومن هنا يظهر ضلال الشرذمة المعاصرة من العلمانيين وأشباههم الذين يدعون الإيمان بالقرآن الكريم والاكتفاء به عن السنة النبوية الطاهرة البلجاء، يقولون – وقد زعموا – ما في القرآن أخذنا به، وما في السنة لا نؤمن به لدخول الحق والباطل فيه؛ فقولهم يضاهئ قول الذين كفروا في عدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطعن في شريعته وهديه. فهم حيث شككوا في السنة النبوية؛ إنما شككوا في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وأنكروا رسالته وبعثته لزوما، وفي ذلك ما فيه من عدم الإيمان بالله تعالى ودين الإسلام.
اعتقاد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم مناف للإيمان به:
وقريب منهم الطائفة الحديثة ممن يزعمون أن للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله تصرفات وأحكاما هو فيها مشرع عن ربه تعالى، وأخرى إنما هو فيها بشر من الأبشار لسنا ملزمين باتباعه فيها، ولا هو معصوم فيها. وهذا مبطل – بالضرورة – لكثير من السنة النبوية، وفاتح الباب على مصراعيه للطعن فيها وردها بالصدر، بل أعظم بلاء وإفكا أن يؤمن المرء بصحة نسبة الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم ثم يخطيء نبيه فيه. وهو نهاية ما يكون في المقت عياذا بالله تعالى.
غافلين عما ورد في القرآن الكريم من الآيات الصريحة المقتضية أنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله لا يتصرف إلا بوحي وهدى، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]، وقال جل جلاله: {إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 4]. فمثلهم مثل من قال فيهم تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}. [النور/ 49، 50](15).
إذ لا مبرر لوجود النبوة إلا وجود مقتضاها؛ وهو: كلام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وهديه، ولا طريقة لفهم القرآن الكريم – كلام الحق تعالى وعلامة التوحيد – إلا بتفهيم من أرسله الحق تعالى لتوضيحه وتبيينه، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. [النحل/ 44]، وليس إلا كلام النبوة الطاهر.
وقد أشارت الآيات القرآنية المتكاثرة، والأحاديث المتواترة، والدليل النقلي والعقلي بما لا شك فيه – كما يأتي لاحقا بإذنه تعالى – إلى حفظ السنة النبوية الطاهرة كما حفظ الله تعالى القرآن، وأنها قسم من الوحي لا قيام للدين إلا بحفظه.
-يتبع-
الحلقة الأولى هنا
-----------------------------------------------------------------------------------
(12) انظر "وجوب اقتران ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الله تعالى، وكلام في وجوب الأدب". تأليف الإمام أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني. ضمن "النفائس الكتانية" من رسائل الإمام محمد بن عبد الكبير الكتاني في الآداب والسلوك، الرسالة 6، ص178. بتحقيقنا.
(13) وبقية الآيات: قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}. [آل عمران/ 144]، ومن حكم إظهار الاسم الشريف هنا: حتى لا يتوهم متوهم عدم موته، أو أنه رفع وسيأتي آخر الزمان، وقد ظهر مصداق ذلك يوم موته واستهالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك وقوله: "من قال إن محمدا قد مات فسأضرب عنقه...". الأثر، فاستدل عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية، فلم يجد جوابا وعاد إلى رشده. ولو جاء اللفظ بغير الاسم الصريح للنبي صلى الله عليه وسلم لاحتمل وجها آخر في محل لا يقبل التأويل.
وثانيها: آية: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. [الأحزاب/ 40]، فالمقصود هنا أن محمد بن عبد الله، النبي المعروف صلى الله عليه وسلم لم يكن له ابن ذكر من صلبه يأتي بعده ويخلفه، كما أنه رسول ونبي خاتم لا يأتي بعده نبي، فأحرى رسول، وهو النبي الذي نزل عليه كتاب وشريعة أمر بتبليغهما. فسد ذكر الاسم الشريف هنا أي تأويل أو إشراك محتمل إذا ذكر لفظ آخر.
وثالثها: الآية المذكورة أعلاه. ورابعها: قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...} الآية [الفتح/ 29]، ففيها تصريح ظاهر بفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفهم والثناء عليهم خاصة دون أصحاب الرسل الأخر عليهم السلام، وتأهيلهم لحمل الشريعة الخالدة والكتاب المحفوظ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. كما يلاحظ أن جميع تلك الآيات اقترنت بعظيم التفضيل والتبجيل للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وبقرن اسمه بالرسالة تصريحا، وفي الثالثة تفسيرا مضعّفا: "نزِّل". وأنها كلها جاءت لتشريع أمر ما متعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وله مساس بالاعتقاد، فاقتضت التصريح بالاسم دون التلويح.
(14) هذا الاستدلال من فوائد شيخنا العلامة العارف بالله سيدي عبد الحميد بن عمر زويتن الفاسي، حسبما شافهني به حفظه الله تعالى..
(15) انظر: "دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين" لشيخنا العلامة أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله ص103 فله كلام نفيس في الموضوع.