عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 03-11-2025, 04:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,412
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها

حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 4/6


الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني



الفصل الخامس
عدالة الصحابة الكرام

الصحابة هم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم الذين رأوه، وجالسوه، ونقلوا علومه ومعارفه، ونصروه، ونصروا دينه، وثبتوا معه في المعامع، ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حفظوا شريعته، ونقلوها إلينا، وهم الواسطة فيما بيننا وبين الوحي الكريم، سواء القرآن العظيم، أو السنة النبوية، فالطعن فيهم طعن في الوحي الكريم، والتشكيك في عدالتهم تشكيك في الله ورسوله، وعدالتهم وتثبتهم وأمانتهم واجبة وجوب حفظ الوحي.

وقد عمل الطاعنون في السنة النبوية على توهين قدر الصحابة رضوان الله عليهم، سواء في التشكيك في مصداقيتهم، أو التقليل من عدالتهم، أو الدخول فيما شجر بينهم مما هو أمر طبيعي بين البشر، ومحاولة جعل ذلك مطية للطعن في مصداقيتهم، ورواياتهم، ومن ثمة الطعن في السنة النبوية الذي هو بريد مباشر للطعن في القرآن الكريم، ومن ثمة الدين الإسلامي ككل. ولا شك أن حفظ الدين من حفظ الصحابة، إذ لولا الواسطة لذهب الموسوط.

ثناء القرآن الكريم على الصحابة الكرام:
والقرآن الكريم أثنى عليهم في غيرما محل، وحكم بغفران ذنوب جميعهم، والرضا عنهم، وأنهم أنقى الناس قلوبا، وأصلحهم للصحبة، وأنهم من أهل الجنة؛

قال الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}. [الفتح: 18].

قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم، تزكية لا يخبر بها ولا يقدر عليها إلا الله. وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم، ومن هنا رضي عنهم، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام. فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام"(23).

وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ترااهم رُكعاً سُجدا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}. [الفتح: 29]

قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا الشام، يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظهما وأفضلها: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى هنا: {ذلك مثلهم في التوراة}. ثم قال: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه - أي فراخه – فآزره - أي: شده – فاستغلظ - أي: شب وطال - فاستوى على سوقه يعجب الزراع – أي: فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهو معهم كالشطء مع الزراع - ليغيظ بهم الكفار}"(24).

وقال ابن الجوزي: "وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور"(25).

وقال عز من قائل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}. [التوبة: 100].

والدلالة في هذه الآية ظاهرة؛ قال ابن تيمية: "فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان. ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان"(26). ومن اتباعهم بإحسان: الترضي عنهم والاستغفار لهم.
وقال عز من قائل: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتوا وكلا وعد الله الحسنى}. [الحديد: 11].

والحسنى: الجنة. كما قال مجاهد وقتادة. واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعاً من أهل الجنة لقوله عز وجل: {وكلا وعد الله الحسنى}(27).

وقال تعالى جده: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم}. [التوبة: 117].

وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة، إلا من عذر الله من النساء والعجزة. أما الثلاثة الذين خُلفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك.

وقال الله تعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ? أُولَ?ئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ? وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. [8-10].

قال القرطبي في تفسيرها إثرها: "هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب مَحَبَّة الصَّحَابَة؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ بَعْدهمْ حَظًّا فِي الْفَيء مَا أَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتهمْ وَمُوَالَاتهمْ وَالِاسْتِغْفَار لَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ سَبَّهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ اِعْتَقَدَ فِيهِ شَرًّا أنَّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي الْفَيء؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك وَغَيْره. قَالَ مَالِك: مَنْ كَانَ يُبْغِض أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، أَوْ كَانَ فِي قَلْبه عَلَيْهِمْ غِلّ؛ فَلَيْسَ لَهُ حَقّ فِي فَيء الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ}...الْآيَة".

ثناء السنة النبوية على الصحابة الكرام:

وكذا السنة النبوية أوصت بحقوقهم، ونهت عن الطعن فيهم:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه"(28).

قال ابن تيمية في "الصارم المسلول": "وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي ? سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك. فإن قيل: فلِمَ نَهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟، وقال: لو أن أحدكم انفق مثل اُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه؟".

"قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى. فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل. فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله. ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه، كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد"(29).

وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"(30).

وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: "فلا أدري؛ أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا"(31).

عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النجوم أمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون، وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون"(32).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم"(33). وفي رواية أخرى: "احفظوني في أصحابي"(34).

وعن واثلة يرفعه: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني"(35).

وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا، من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"(36).


تحذير سلف الأمة من الوقيعة في الصحابة الكرام:

ومازال سلف الأمة يحذرون من الوقيعة في الصحابة الكرام، حتى قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ?لإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَ?سْتَغْلَظَ فَ?سْتَوَى? عَلَى? سُوقِهِ يُعْجِبُ ?لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها"(37).

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم"(38).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ"(39).

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سبِّ الصحابة و تحريم التكفير و التفسيق لأحد منهم". ثم ذكر النقول عنهم من اثنتي عشر طريقًا(40).

وقد نقل القاضي عياض رحمه الله تعالى عن أيوب السختياني، أحد كبار التابعين من مشايخ الإمام مالك أنه قال: "و من انتقص أحدًا منهم – الصحابة – فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح وأخاف ألاَّ يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعًا، و يكون قلبه سليمًا". ثم نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "لم يومن بالرسول صلى الله عليه وسلم من لم يوقر أصحابه و لم يعز أوامره"(41).

ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر محاسن الصحابة وفضائلهم، وما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من المنقولات المتواترة عن أدلة العقل من أن الصحابة – رضي الله عنهم – أفضل الخلق بعد الأنبياء".

وقد جمع العلماء في فضائلهم كتبا كثيرة، من أوعبها: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مجلدين.

حرص الصحابة الكرام على المحافظة على السنة:

وقد عرف عن الصحابة – رضي الله عن جميعهم – شدة حرصهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجمعه، وروايته، والتثبت فيه، حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقبل رواية الحديث إلا بشاهد:

ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أبا موسى الأشعري سلم على عمر من وراء الباب ثلاثا، فلم يؤذن له، فرجع. فأرسل عمر في أثره، فقال: "لم رجعت؟". قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجَب؛ فليرجع". قال: "لتاتينّي على ذلك ببينة أو لأفعلن بك!". فجاءنا أبو موسى ممتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا: "ما شأنك؟". فأخبرنا وقال: "فهل سمع أحد منكم؟". فقلنا: "نعم؛ كلنا سمعه". فأرسلوا معه رجلا منهم فأخبره.

وتضافرت الآثار أن بعض الصحابة كان يسافر الشهر وربما أكثر لمعرفة حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ أخرج الحافظان أحمد في "المسند" والطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه، فابتعت بعيرا، فشددت عليه رحلي، ثم سرنا إليه شهرا حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري. فأتيته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم، لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس عراة غُرْلا بُهْما، قلنا: وما لهم؟، قال: ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولا أحدٌ من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا أحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غرلا بهما؟. قال: الحسنات بالحسنات والسيئات".

وأخرج البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال: "خرج أبو أيوب إلى عقبة بن علي رضي الله عنهما فسأله عن حديث سمعه منه غيره، فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه، وهو أمير مصر، فخرج إليه، فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟. قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن. فقال: نعم؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على كربته، ستره الله يوم القيامة. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة إلا بعريش مصر".

وسبق الحديث أن جمعا من الصحابة كانوا يدونون الأحاديث التي سمعوها، ويحفظونها في صندوق أو تابوت يرجعون إليها عند الحاجة، ومن هنا يُحل الإشكال الذي يضعه الكثير من المرجفين حول سعة حفظ الصحابة رضوان الله عليهم وكثرة حفظهم.

وقد بلغ من حرص الصحابة وتثبتهم في الرواية ما تواترت به الأخبار وتضافرت، من محاسبة بعضهم بعضا، وواعتضاد بعضهم ببعض، وخوفهم من أن تزيد الرواية كلمة أو معنى لم يفه به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أوضح من حديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". الذي رواه من الصحابة أزيد من مائة حسبما في مقدمة "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" لجد جدنا شيخ الإسلام محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى.


لا يكاد ينفرد صحابي ممن نوزعوا بحديث:

بل لا يكاد واحد من الصحابة يروي حديثا إلا وقد شورك في لفظه أو معناه، ومن هنا يُرد على الطاعنين في مرويات حافظ الصحابة أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وغيرهم ممن ثبتت له الصحبة، فلم يكادوا يروون حديثا إلا وقد شاركهم فيه غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.

قال شقيقنا وشيخنا العلامة الحسن بن علي الكتاني - فك الله أسره - في ديباجة كتابه "الرد على الطاعن في أبي هريرة": "و ليعلم القراء الكرام أن الكلام عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما هو خداع السـذَّج من النَّـاس، إذ إنه ما من حديث رواه رضي الله عنه إلاَّ و قد شاركه فيه جماعة آخرون من الصحابة، و لا يكاد ينفرد إلاَّ بأشياء معدودة هي نقطة في بحر ما روي، و قد بين ذلك العلامة الشيخ عبد المنعم صالح العزى في كتابه الفريد: "أقباس من مناقب أبي هريرة" بما لا مزيد عليه".

قلت: وقد حصر بعضهم تلك الروايات في الكتب التسعة إلى ثمانية أحاديث فقط، وهي:

1- "بينما رجل راكب بقرة"...إلى آخر الحديث، سنن الترمذي، المناقب حديث رقم 3610.
2- قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يومئذ تحّدث أخبارها"، سنن الترمذي صفة القيامة حديث رقم 2353.
3- "أتدرون من المفلس". صحيح مسلم، البر والصلة، حديث رقم 4678.
4- "أول من يُدعى يوم القيامة..". مسند أحمد، باقي مسند المكثرين حديث رقم 8558.
5- "أظلكم شهركم...". مسند أحمد، باقي مسند المكثرين حديث رقم 10365.
6- "أعذر الله إلى امرئ..". صحيح البخاري، الرقاق، حديث رقم 5940.
7- " أقرب ما يكون العبد..". صحيح مسلم، الصلاة، حديث رقم 744.
8- " بينا أيوب يغتسل..". صحيح البخاري، الغسل، حديث رقم 270.

قلت: ولا شك أن المتتبع لو بحث عن تلك الروايات، فسيجد لها متابعا أو أكثر من الصحابة رضوان الله عليهم.

أما مروان بن الحكم؛ فقد قال عم والدنا الإمام محمد الناصر الكتاني: "لا تبلغ الأحاديث المروية عنه عشرة أحاديث، رواها غيره من الثقات"(42).

أما مرويات معاوية بن أبي سفيان؛ فهي في الكتب الستة بضع وثلاثون حديثا في الأحكام، جميعها مما لا شذوذ فيه، وجلها شاركه فيها غيره من الصحابة. ولم يورد معاوية شيئا قط في ذم علي – رضي الله عنه – ولا في استحلال حربه، ولا في فضائل عثمان، ولا في ذم القائمين عليه، ولم ينفرد برواية ما يخالف الإسلام أو يهدم القواعد، بل هي موافقة لمذهب الشيعة والفقهاء، وليس فيها ما لم يذهب إليه جماهير العلماء، إلا قتل شارب الخمر في المرة الرابعة(43). حسبما للإمامين ابن الوزير اليماني، ومحمد الناصر الكتاني.

وأما حديث المغيرة بن شعبة؛ فله مما يتعلق بالحرام والحلال أربعة وعشرون حديثا أو أقل، اتفق البخاري ومسلم على تسعة منها، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بحديثين، والثلاثة البواقي لم تصح، وما صح عنه شاركه غيره من الصحابة في جميعه(44).

أما عمرو بن العاص؛ فله في الأحكام عشرة أحاديث، كلها متابع عليها من غيره من الصحابة ولها شواهد(45).

وقد استعرض تلك الروايات وناقشها: الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في موسوعته: "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" (2/ 113-129)، والإمام الشريف محمد الناصر لدين الله الكتاني في كتابه: "قيد الأوابد في مختلف العلوم والفوائد" (ص275- 289)، بما يرجع إليهما.

فتبين مما سطرناه أعلاه بطلان الطاعن في السنة بطعنه في الصحابة رضوان الله عليهم، وادعائه أن ما قدره الله من الفتن في زمنهم كان سببا لدخول الوضع في الحديث، وذلك بأمور:

- تزكية الله تعالى لجميعهم في القرآن الكريم.
- تزكية السنة النبوية لهم.
- تزكية سلف الأمة من عدولها الذين بني عليهم الإسلام.
- ما تواتر من شدة تثبتهم في الحديث وابتغائهم فيه العدالة والضبط والصحة.
- ضبطهم وتدوينهم السنة في حياتهم.
- ندرة انفراد أحدهم برواية الحديث، وأن من استلذ المخالفون الطعن فيهم لدخولهم في السياسة، أو لإكثارهم، إنما شوركوا فيما رووه من غيرهم، فحيث بطل التفرد بطلت الدعوى...والله الموفق.
الحلقة الثالثة هنا
-يتبع-

-------------------------------------------------------------------
(23) "الصواعق المحرقة" ص 316.
(24) "الاستيعاب" لابن عبد البر 1/6 ط. دار الكتاب العربي بحاشية الإصابة، عن ابن القاسم. وتفسير ابن كثير: 4/204 ط. دار المعرفة - بيروت.
(25) "زاد المسير" 4/204.
(26) "الصارم المسلول" 572.
(27) "الفصل" 4/148، 149.
(28) رواه البخاري (رقم 3673)، ومسلم (2541).
(29) "الصارم المسلول" ص576.
(30) "صحيح البخاري - فتح الباري" حديث 3983. و"صحيح مسلم" حديث 2494 - عبد الباقي.
(31) "صحيح البخاري" حديث 3650. وصحيح مسلم حديث 2535. وهذا سياق البخاري مختصرا.
(32) "صحيح مسلم" حديث 2531. والأمنة هي: الأمان.
(33) رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بسند صحيح. انظر "مشكاة المصابيح" 3/1695. ومسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر1/112.
(34) رواه ابن ماجه 2/64. وأحمد 1/81. والحاكم 1/114. وقال: "صحيح" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: "إسناد رجاله ثقات" - زوائد ابن ماجه 3/53 وانظر بقية كلامه.
(35) رواه ابن أبي شيبة 12/178، وابن أبي عاصم 2/630. في "السنة"، ورواه الطبراني في "الكبير" 22/85. وعنه أبو النعيم في "معرفة الصحابة" 1/133، وقد حسنه الحافظ في "الفتح" 7/5، وقال الهيثمي في "الجمع" 10/20: "رواه الطبراني من طرق رجال أحدها رجال الصحيح".
(36) رواه الإمام أحمد في "المسند (4/ 87)، والترمذي في سننه (رقم 3862)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (رقم4)، وابن حبان في صحيحه (رقم 7256).
(37) "مروج الذهب ومعادن الجوهر" (3/75) للمسعودي.
(38) "حلية الأولياء" (1/305-306).
(39) "حلية الأولياء" (1/305-306).
(40) "إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي". ( ص.51).
(41) "الشفا في حقوق المصطفى". (2/ 39)، وكلام أيوب رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" ( 189) واللآلكائي (2333) بأتم من هذا.
(42) "قيد الأوابد في مختلف العلوم والفوائد" تأليف محمد الناصر الكتاني، تصحيح: الدكتور أسامة محمد الناصر الكتاني. طبعة دار الكتب العلمية.
(43) "قيد الأوابد" ص277.
(44) "قيد الأوابد" ص281.
(45) "قيد الأوابد" ص283.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]