حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 6-6
الإسلامية الدكتور حمزة الكتاني
الفصل الثامن.
لا إسلام من غير السنة النبوية
حيث تقرر ثبوت السنة النبوية، عقلا، وشرعا، وواقعًا، وأنها جزء من الوحي، فليُعلم أن موضوع السنة النبوية هو:
- تأييد حكم قرآني.
- أو تبيين مجمل في القرآن.
- أو توضيح مشكل.
- أو تقييد مطلق.
- أو تخصيص عام.
- أو نسخ حكم.
- أو إضافة حكم لم يكن واردا.
فهو صلى الله عليه وسلم مبين عن الله تعالى، ومشرع بإذن الله تعالى، وقد قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}. [النور/ 63]. والفتنة: الشرك، كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنهما، وتقتضي جميع ما يشتق عن معنى الفتنة.
فالكتاب مجْمَل، والسنة مفصلة له، وهي واردة في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام، إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه، أو موانعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، فبيانها للصلوات على اختلاف مواقيتها، وركوعها وسجودها، وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها، ونصب الأموال المزكاة، وبيان أحكام الصوم مما لا نص عليه في القرآن، وكذلك أحكام الحج والذبائح، والأنكحة وما يتعلق بها، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، والأحكام السلطانية، والعلاقات الخارجية والداخلية للدولة الإسلامية، وغير ذلك مما وقع مجملا في القرآن الكريم، وهو الذي يظهر دخوله تحت قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم}. [النحل/ 44](54).
ولذلك روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل منكر للسنة: "إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة؟..ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا؟، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك"(55).
وقيل لمطرف بن عبد الله الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن". فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا"(56).
ومن هنا قال الإمام الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". قال الحافظ ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه"(57).
فتبين أن إقصاء السنة إقصاء للقرآن في معناه أولا، وإقصاء لجل الشريعة التي أنيط بالحديث تبيينها وتوضيحها وتشريعها، فلا إسلام بلا سنة، وشريعة بلا نعهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنه لا توحيد بغير: محمد رسول الله.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه: حدث يوما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: "في كتاب الله ما يخالف هذا". قال: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله؟. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك!"(58).
ولذلك قال سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: "إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشُبه القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"(59).
الخاتمة
في أهمية السنة النبوية في التشريع الإسلامي:
مما مضى؛ تبرز أهمية السنة في التشريع الإسلامي، فأهميتها من أهمية صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث الإيمان به ملازم للإيمان بالله تعالى، فهي من حيث كونها هي لا تقل قيمة عن كتاب الله تعالى، والإيمان بها من جنس الإيمان بالله تعالى.
ومن حيث مرتبتُها من الصحة، ونسبتها لمن صدرت عن شفتيه الشريفتين؛ فهي في المرتبة الثانية بعد كتاب الله تعالى، إذ القرآن الكريم إنما يشترط في جميع ألفاظه التواتر، بخلاف السنة النبوية المطهرة.
ومع ذلك فالجمهور على أن القرآن ينسخ بالسنة، بمعنى تخصص أحكامه أو ترفع، كما أن الإجماع على أن أمر السنة إلزامي واجب الاتباع، والعقائد المضمنة إياها ملزمة، وإن تواترت كفر من لم يعتقدها.
كما أن السنة النبوية المطهرة، خصصت بعض أحكام القرآن، وفصلت في البعض الآخر، وقيدت المطلق، وذكرت أحكاما استقلالا عن الكتاب الكريم لم تذكر صراحة فيه، بل جل الشريعة الإسلامية وما يتفرع عنها من أحكام وأخلاق وتوجيهات، وتشريعات وتقنينات إنما مأخوذة من السنة النبوية المطهرة.
قال الدكتور عجاج الخطيب: "قد جاءت السنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم، تفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، فكانت في الواقع تطبيقا عمليا لما جاء به القرآن العظيم، تطبيقا يتخذ مظاهر مختلفة؛ فحينا يكون عملا صادرا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينا يكون قولا يقوله في مناسبة، وحينا ثالثا يكون تصرفا أو قولا من أصحابه صلى الله عليه وسلم، فيرى العمل أو يسمع القول ثم يقر هذا وذاك، فلا يعترض عليه ولا ينكره، بل يسكت عنه أو يستحسنه فيكون هذا منه تقريرا"(60).
ولذلك قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل/ 44]، وقال جل أمره: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}. [الشورى/ 52، 53]. وقال سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. [آل عمران/ 31]، وقال تقدست أسماؤه: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}. [النساء/ 59]. وقال عز مجده: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65]. وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]...إلى آخر الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
وفي الحديث الشريف: ما رواه أبو داود في سننه عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قال: "ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".
وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعا: "قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها، لا يرجع بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ...". الحديث.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما: كتاب الله وسنتي، فلن يتفرقا حتى يردا علي الحوض".
ولذلك فإن إنكار السنة إنما هو إنكار لجل الدين الإسلامي، فعلاوة على أنه إنكار غير مبني على أسس علمية، ولا قواعد يقينية، بل جله توهم ورمي بالظن، علاوة على ذلك هو تبرؤ من الدين، وكفر بقواعده اليقينية وأسسه ومبانيه.
فالسنة النبوية واجبة عقلا بثبوت الرسالة النبوية، وواجبة شرعا بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وثابتة نقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم بتدوينها منذ حياته عليه السلام، وتتابع تمحيصها جيلا وراء جيل إلى أن وصلتنا غضة طرية، لا تشوبها شائبة، ولا يعتورها إغفال.
وشبهة عدم تدوين السنة في الصدر الأول؛ مردودة بإثبات ذلك، وتواتر الأخبار وتعاضدها على تدوين النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، وتدوين الصحابة بعده، وتدوين التابعين وتابع التابعين. فكل ما يبنى على ذلك من دخول الإسرائيليات وغيرها في السنة مردود.
وشبهة الطعن في الصحابة الكرام، إما بحجة إكثار بعضهم للرواية، أو تداخل بعضهم الآخر في السياسة وصراعاتها، وما يتفرع عن ذلك، مردودة بعدم انفرادهم فيما رووه، فلم يغربوا أولا، ولم يتفردوا ثانيا، ولم يحدثوا بما فيه نصرة لمذاهبهم وإن كان لا شيء في ذلك إن ثبتت روايته عن غيرهم.
وشبهة تأثر الرواية بالدخلاء في الدين، والجهلاء، والعجم، وتراكم ذلك جيلا وراء جيل، مردودة بذكر تلك المنظومة الكبرى من العلوم العظيمة التي سنتها الأمة حماية للحديث متنا وسندا، منبعا ووضعا، بحيث بقيت مثالا لأرقى وسائل التوثيق العلمي في العصر الحديث.
فلم يبق أمام العالم المنصف إلا التسليم بصحة السنة النبوية، وحتمية ثبوتها، وضمان استمرارها إذ هي وحي يوحى، رزقنا الله تعالى التسليم لنبيه، وحسن الاتباع ودوامه، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي العربي الهادي المهدي وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه الفقير إلى الله الغني
محمد حمزة بن محمد علي
ابن محمد المنتصر بالله الكتاني الحسني
الرباط: 13 محرم الحرام 1429
الموافق: 13 سبتمبر عام 2008
الحلقة السابقة هنا
-انتهى-