شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. الحَادِي عَشَر مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ: الْإِيْمَانُ بِوُجُوْبِ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ -عز وجل-
- من رحمة الله تعالى بنا أن أَطْلَع رسوله محمدًا على شيء من الغيب كالجنة والنار ثم أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - بما رأى وذلك من أجل الاستعداد وأخذ الزاد والحذر من أسباب الهلاك
- الخوف يستلزم الإيمان بلقاء الله عزوجل وأن يتجنب الإنسان محارم الله ويقوم بما أوجبه الله عليه خوفًا من عقاب الله تعالى
- من رحمة الله تعالى أن أخفى علينا كثيرًا من علوم الغيب التي لو اطلعنا عليها لفسدت معايشنا واختلف حالنا
- اتقاء النار قد يكون بالعمل القليل مع الإخلاص والخوف اللذين إذا اقترنا بالعمل اليسير فإنهما ينمّيانه ويزيدانه فيترتب على ذلك النجاة من المرهوب
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف الكثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعوم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
الحَادِي عَشَر مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ هو: الْإِيْمَانُ بِوُجُوْبِ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ -عزوجل-، لِقَوْلِ الله -تعالى-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40). وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد: 21)، وقوله -تعالى-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن: 46)، وَقَوْلِهِ -تعالى-: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: 14)، وَلِحَدِيْثِ عَدِي بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّحِيْحَيْنِ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَقِّ تَمْرَةٍ»، وَلِحَدِيْثِ أَنَسٍ وَفِيْهِ: «لَوْ تَعْلَمُوْنَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيْلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيْرا»، وَعَاتَبَ رَجُلًا بَعْضُ إِخْوَانِهِ عَلَى طُوْلِ بُكَائِهِ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: بَكَيْتُ عَلَى الذُّنُوْبِ لِعِظْمِ جُرْمِي
وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ يَعْصِي الْبُكَاءُ
فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ هَمِّي
لَأُسْعِدَتِ الدُّمُوْع مَعًا دِمَاء
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيْزِ لاَ يَجِفُّ فُوْهُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ: وَلاَ خَيْرَ فِي عَيْشِ امْرِئٍ لَمْ يكن
لَهُ مِنَ اللهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ نَصِيْبُ
وَسَمَعَ أَبُو الْفَتْحِ الْبَغْدَادِيَّ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِالشّونِيزِيَّة: وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيْرَةٌ
وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَحَلَّيْنِ تَنْزِلُ
فَذَهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ.
الشرح: - قوله: «الإيمان بوجوب الخوف من الله -تعالى-».
الخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة، أو معلومة. ويضاده: الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية.. والخوف من الله: يعني استشعار عظمته، والوقوف بين يديه، وأنه يعلم سر العبد وجهره. الخوف أقسام
الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، ولكنه في العموم على أقسام: - الأول: خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال؛ فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلًا؛ لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف فهو مشرك شركا أكبر.
- الثاني: الخوف الذي يترك به الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا الخوف من الناس، فهذا محرم، وهو الذي جاء فيه الحديث: «إن الله -تعالى- يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر ألا تغيره؟ فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى».
- الثالث: خوف وعيد الله الذي توعّد به العصاة، وهو الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم: 14).
- الرابع: وهو الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم وهو الذي ذكره الله عن موسى -عليه الصلاة والسلام- في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص: 21).
ثم ساق الإمام القزويني الآيات التي تبين الخوف، والخشية، والرهبة من الله -تعالى-، وهي قريبة من حيث المعنى، وها هي أسوقها مع تفسيرها كما أوردها القزويني -رحمه الله تعالى-. - قوله: «لقوله -تعالى-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}» يقول العلامة السعدي: أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته.
- قوله: «وقوله -تعالى-: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}»، أي: لا تخافوا منهم وخافوني.
- قوله: «وقوله -تعالى-: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}»، أي خافون. والرهب والرهبة: الخوف.
- قوله: «وقوله -تعالى-: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}». وقال القرطبي: أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء، وحال الشدة.
- وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة، ورجاء، ورهبة، وخوف؛ لأن الرغبة والرهبة متلازمان، وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها.
- قوله: «وقوله -تعالى-: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}»، يقول الطبري: «وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحلّ بهم مشفقون، يقول: حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه».
- قوله: «وقوله -تعالى-: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}»، أي: يخافونه، فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب؛ أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفًا من العقاب، ورجاء للثواب، وهذا دليل من دلائل الإيمان. يقول القرطبي: «{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} قيل: في قطع الرحم، وقيل: في جميع المعاصي، {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}، سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة، ومن نوقش الحساب عُذِّب.
- قوله: «وقوله -تعالى-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}»، يقول العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: «يعني أن من خاف المقام بين يدي الله يوم القيامة، فإن له جنتين.
الخوف يستلزم شيئين
وهذا الخوف يستلزم شيئين: - الشيء الأول: الإيمان بلقاء الله -عز وجل-؛ لأن الإنسان لا يخاف من شيء إلا وقد تيقنه.
- والثاني: أن يتجنب محارم الله، وأن يقوم بما أوجبه الله خوفًا من عقاب الله -تعالى-، فعليه؛ يلزم كل إنسان أن يؤمن بلقاء الله -عز وجل- لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (الانشقاق: 6) وقال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 223)، وأن يقوم بما أوجبه الله، وأن يجتنب محارم الله، فمن خاف هذا المقام بين يدي الله -عز وجل- فله جنتان».
- قوله: «وقوله -تعالى-: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}»، أي: وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة، وخشي من وعيدي، وهو تخويفي وعذابي.
- قوله: «ولحديث عدي بن حاتم ت في الصحيحين: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»».وهذا الحديث يفيد أن اتقاء النار قد يكون بالعمل القليل، لكن مع الإخلاص، والخوف، فالإخلاص والخوف إذا اقترنا بالعمل اليسير، فإنهما ينميانه ويزيدانه، فيترتب على ذلك النجاة من المرهوب.
- قوله: «ولحديث أنس وفيه: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».
وهذا الحديث يفيد أن من رحمة الله -تعالى- أن أخفى علينا كثيرًا من علوم الغيب التي لو اطلعنا عليها لفسدت معايشنا واختلف حالنا، ومن رحمة الله -تعالى- بنا أن أَطْلَع رسوله محمدًا على شيء من الغيب كالجنة والنار، حيث أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - بما رأى، وذلك من أجل الاستعداد وأخذ الزاد والحذر من أسباب الهلاك. - قوله: وعاتب رجلًا بعضُ إخوانه على طول بكائه فبكى ثم قال:
بكيت على الذنوب لِعظْمِ جُرمي
وحُقَّ لكل من يعصي البكاءُ
فلو كان البكاء يرد هَمِّي
لأَسْعَدَتِ الدموعَ معًا دماءُ
فسبب بكائه، شعوره بما ارتكب من المعاصي، وخوفه من عقاب الله -تعالى- له، ولو أن البكاء يكشف عنه ما أهمّه من كثرة الذنوب لأسعدت الدماءُ الدموع أي نزلتا مختلطتين معا ولم تتأخر الأولى عن أختها، وهذه الحال هو غاية الحزن والهم والغم والوجد جراء الذنوب والمعاصي! - قوله: وكان عمر بن عبد العزيز لا يجف فوه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرىء لم يكن
له من الله في دار القرار نصيب
وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الوَرِعُ شديدَ الخوف، كثيرَ البكاء، وكان يردد هذا البيت الذي يشير إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يهنأ إذا لم يكن له في الجنة نصيب، فحياته في الدنيا لا خير فيها مهما ازدانت له الدنيا، ويلي هذا البيت: فإن تعجب الدنيا أناسًا فإنها
قليل متاع والزوال قريب
- قوله: وسمع أبو الفتح البغدادي هاتفًا يهتف بالشونيزية:
وكيف تنام العين وهي قريرة
ولم تدر في أي المحلين تنزل
فذهب عنه النوم».
هاتفًا يهتف: أي سمع صوتًا ينادي. الشونيزية: وهي مقبرة ببغداد بالجانب الغربي دفن فيها جماعة من الصالحين. ومعنى البيت كيف ينام الإنسان وهو مطمئن، مغمض الجفنين، وهو لا يدري إن كان مصيره إلى الجنة أم إلى النار، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: «لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدًا، لظننت أني ذلك الواحد».
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران