
يوم أمس, 04:33 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,926
الدولة :
|
|
رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي

الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الرابع
صـــ 70 الى صـــ 79
(74)
(قال) وإذا جاء يوم النحر، وليس على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه تشبها بمن يحلق؛ لأنه وسع مثله، والتكليف بحسب الوسع ألا ترى أن الأخرس يؤمر بتحريك الشفتين عند التكبير والقراءة في الصلاة فينزل ذلك منه منزلة قراءة الناطق فهذا مثله
(قال) وإن حلق رأسه بالنورة أجزأه؛ لأن قضاء التفث فيه يحصل، والموسى أحب إلي؛ لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(قال) وأكره له أن يؤخر الحلق حتى تذهب أيام النحر والحاصل أن عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - الحلق للتحلل في الحج مؤقت بالزمان، وهو أيام النحر، وبالمكان، وهو الحرم، وعلى قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لا يتوقت بالزمان، ولا بالمكان. وعند محمد - رحمه الله تعالى - يتوقت بالمكان دون الزمان، وعند زفر - رحمه الله تعالى - يتوقت بالزمان دون المكان فزفر - رحمه الله تعالى - يقول التحلل عن الإحرام معتبر بابتداء الإحرام، وابتداء الإحرام مؤقت بالزمان غير مؤقت بالمكان حتى يكره له أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج، ولا يكره له أن يحرم بالحج في أي مكان شاء قبل أن يصل إلى الميقات فكذلك التحلل عنه بالحلق
يتوقت من حيث الزمان دون المكان حتى إذا أخره عن أيام النحر يلزمه الدم، وإذا خرج من الحرم ثم حلق لا يلزمه شيء وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول ما كان للتحلل في الحج يتوقت بالزمان والمكان جميعا كالطواف الذي يتم به التحلل لا يكون إلا في المسجد، ويتوقت بأيام النحر فكما أنه لو أخر الطواف عن وقته يلزمه دم عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فكذلك إذا أخر الحلق عن وقته، وعلى هذا كان ينبغي أن لا يعتد بحلقه خارج الحرم كما لا يعتد بطوافه، ولكن جعلناه معتدا به؛ لأن محل فعله الرأس دون الحرم فيحصل به التحلل، ولكنه جان بتأخيره عن مكانه فيلزمه دم بالتأخير عن المكان كما يلزمه عن وقته، وهذا لأن الحلق لا يعقل فيه معنى القربة، وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما حلق للحج إلا في الحرم يوم النحر فما وجد بهذه الصفة يكون قربة، وما خالف هذا لا يتحقق فيه معنى القربة فيلزمه الجبر فيه بالدم.
وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - الحلق الذي هو نسك في أوانه بمنزلة الحلق الذي هو جناية قبل أوانه فكما أن ذلك لا يختص بزمان، ولا مكان فكذلك هذا لا يختص بزمان ولا مكان؛ لأنه لو اختص بزمان ومكان لم يكن معتدا به في غير ذلك المكان، ولا في غير ذلك الزمان كالوقوف بعرفة فسواء أخره عن أيام النحر أو خرج من الحرم فحلق لا يلزمه شيء ومحمد - رحمه الله تعالى - يقول تعلق المناسك بالمكان آكد من تعلقها بالزمان ألا ترى أن الطواف المختص بمكان لا يعتد به في غير ذلك المكان، والمؤقت من الطواف بزمان يكون معتدا به في غير ذلك الزمان فعرفنا أن تعلقه بالمكان أشد فالحلق الذي هو مختص بالحرم بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى به خارج الحرم يتمكن فيه النقصان فيلزمه الجبر بالدم، وتأخيره عن أيام النحر لا يتمكن فيه كثير نقصان فلا يلزمه الجبر بالدم فأما في العمرة فلا يتوقت الحلق بزمان حتى لو أخر الحلق فيه شهرا لا يلزمه شيء؛ لأن أصل العمرة لا يتوقت بالزمان، وما هو الركن، وهو الطواف فيه أيضا لا يتوقت من حيث الزمان فكذلك الحلق فيه لا يتوقت بخلاف الحج، ولكنه يتوقت بالحرم حتى لو حلق للعمرة خارج الحرم فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله تعالى كما في الحج، وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لا شيء عليه
(قال) وليس على المحصر حلق إذا حل وإن حلق أو قصر فحسن، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - أرى عليه الحلق، وإن لم يفعل فلا شيء عليه، واحتج أبو يوسف - رحمه الله تعالى - بالحديث «فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أحصر بالحديبية مع أصحابه فأمرهم بالحلق بعد بلوغ الهدايا محلها، وكره لهم تأخير ذلك حتى ذكر ذلك لأم سلمة - رضي الله عنها - فقالت ابدأ بنفسك يا رسول الله فإنهم يظنون أن في نفسك رجاء الوصول إلى البيت للحال فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوا ذلك منه بادروا إلى الحلق»، ولأنه لو لم يحصر لكان يتحلل بالحلق عند أداء الأعمال فكذلك بعد الإحصار ينبغي أن يتحلل بالحلق لقدرته على أن يأتي به، وإن عجز عن سائر الأفعال وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الحلق إنما يكون نسكا بعد أداء الأفعال فأما قبل أداء الأفعال فهو جناية فإذا تحقق عجزه عن ترتيب الحلق على سائر الأفعال لا يلزمه أن يأتي به وإنما تحلله بالهدي هنا، والدليل عليه أن الله تعالى نهى المحصر عن الحلق حتى يبلغ الهدي محله بقوله تعالى {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] فذلك دليل الإباحة بعد بلوغ الهدي محله لا دليل الوجوب فأما حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية فقد ذكر أبو بكر الرازي أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إنما لا يحلق المحصر إذا أحصر في الحل أما إذا أحصر في الحرم يحلق؛ لأن الحلق عندهما مؤقت بالحرم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان محصرا بالحديبية، وبعض الحديبية من الحرم على ما روي أن مضارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت في الحل، ومصلاه في الحرم فإنما حلق في الحرم، وبه نقول على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالحلق ليحقق به عزمهم على الانصراف، ويأمن المشركون من جانبهم، ولا يشتغلون بمكيدة أخرى بعد الصلح
(قال) وليس على الحاج إذا قصر أن يأخذ شيئا من لحيته أو شاربه أو أظفاره أو يتنور؛ لأن التقصير قائم مقام الحلق، ولو أراد الحلق لم يكن عليه ذلك في لحيته، ولا في شاربه فكذلك التقصير، وإن فعل لم يضره؛ لأنه جاء أوان التحلل، وهذا كله مما يحصل به التحلل؛ لأنه من جملة قضاء التفث
(قال) وإن حلق المحرم رأس حلال تصدق بشيء عندنا. وقال الشافعي - رضي الله عنه - لا شيء عليه؛ لأن المحرم ممنوع عن إزالة ما ينمو من البدن عن نفسه لما فيه من معنى الراحة والزينة له، ولا يحصل شيء من ذلك بحلق رأس الحلال فلا يلزمه به شيء ألا ترى أن الحلال لو حلق بنفسه لم يلزمه شيء، ولكنا نقول إن إزالة ما ينمو من بدن الآدمي من محظورات الإحرام فيكون المحرم ممنوعا عن مباشرة ذلك من بدن غيره كما يكون ممنوعا من مباشرته في نفسه بمنزلة قتل الصيد فإنه جان في قتل صيد غيره كما يكون جانيا
في قتل صيد نفسه إلا أن كمال جنايته بانضمام معنى الراحة والزينة إلى فعله فإذا فعل ذلك في نفسه تكاملت جنايته فلزمه الدم، وإذا فعله بغيره لا تتكامل جنايته فتكفيه الصدقة
(قال) وإذا حلق المحرم رأس محرم آخر فإن فعله بأمره فعلى المحلوق دم؛ لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه، ومعنى الراحة والزينة له متحقق فيلزمه دم، وعلى الحالق رأسه صدقة لما بينا أنه جان في أصل فعله، وإن حلق بغير أمره بأن كان المحرم نائما فجاء، وحلق رأسه أو أكرهه على ذلك فعلى المحلوق رأسه دم عندنا، ولا شيء عليه عند الشافعي - رحمه الله تعالى - بناء على أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل، والنوم أبلغ من الإكراه؛ لأن الإكراه يفسد قصده، وبالنوم ينعدم القصد أصلا، وعندنا بسبب الإكراه والنوم ينتفي عنه الإثم، ولكن لا ينتفي حكم الفعل إذا تقرر سببه، والسبب هنا ما نال من الراحة والزينة بإزالة التفث عن بدنه، وذلك حصل له فيلزمه الدم. ولا يتخير هنا بين أجناس الكفارات الثلاث بخلاف المضطر؛ لأن هناك العذر سماوي وجد ممن له الحق، وهنا العذر بسبب وجد من جهة العباد فيؤثر في إسقاط الذنب، ولا يخرج به الدم من أن يكون متعينا عليه ثم لا يرجع المحلوق رأسه بهذا الدم على الحالق، وقال بعض العلماء: يرجع به؛ لأنه هو الذي أوقعه في هذه العهدة، وألزمه هذا الغرم، ولكنا نقول إنما لزمه ذلك لمعنى الراحة والزينة، وهو حاصل له فلا يرجع به على غيره كما لا يرجع المغرور بالعقر؛ لأنه بمقابلة اللذة الحاصلة له بالوطء والجواب في قص الأظفار هنا كالجواب في الحلق
(قال) وإذا أخذ المحرم من شاربه أو من رأسه شيئا أو من مس من لحيته فانتثر منها شعر فعليه في ذلك كله صدقة لوجود أصل الجناية بما أزاله من بدنه، ولكن لم تتم جنايته حين فعله؛ لأنه لم يكن مقصودا لتحصيل الراحة والزينة فتكفيه الصدقة
(قال) وإن أخذ ثلث رأسه أو ثلث لحيته فعليه دم، ولم يذكر الربع في الكتاب، والجواب: في الربع كذلك لما بينا أن ما يتعلق بالرأس فالربع فيه بمنزلة الكمال كما في الحلق عند التحلل، وهذا لأن حلق بعض الرأس لمعنى الراحة والزينة معتاد فإن الأتراك يحلقون أوساط رءوسهم، وبعض العلوية يحلقون نواصيهم لابتغاء الراحة والزينة فتتكامل الجناية بهذا المقدار، والجناية المتكاملة توجب الجبر بالدم ثم الأصل بعد هذا أنه متى حلق عضوا مقصودا بالحلق من بدنه قبل أوان التحلل فعليه دم، وإن حلق ما ليس بمقصود فعليه الصدقة، ومما ليس بمقصود: حلق شعر الصدر أو الساق، ومما هو مقصود: حلق الرأس أو الإبطين
فإن حلق أحدهما أو نتف أو أطلى بنورة فعليه الدم أيضا؛ لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لمعنى الراحة، وفيما ذكر إشارة إلى أن السنة في الإبطين النتف دون الحلق فإنه قال نتف إبطيه أو أحدهما، ولم يذكر الحلق فإن حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي قولهما عليه صدقة؛ لأن ذلك الموضع غير مقصود بالحلق، وإنما يحلق للتمكن من الحجامة فهو بمنزلة حلق شعر الصدر والساق، وصح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «احتجم، وهو محرم»، وما كان يرتكب في إحرامه الجناية المتكاملة وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول إنه حلق مقصود؛ لأنه لا يتوصل إلى المقصود إلا به، وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودا فتتكامل الجناية، ولم ينقل «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق موضع المحاجم» إنما نقل عنه الحجامة، وليس من ضرورته الحلق فإن الحجام إذا كان حاذقا يشرط طولا فلا يحتاج إلى الحلق، وكذلك إذا لم يكن المحجوم أشعر البدن، ولم ينقل في «صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أشعر البدن»، والدليل عليه أنه كان يتحرز عن الجناية الموجبة للصدقة كما يتحرز عن الجناية الموجبة للدم وعندهما هذه جناية موجبة للصدقة
(قال) فإن حلق الرقبة كلها فعليه دم؛ لأنه حلق مقصود للراحة والزينة فإن العلوية يفعلون ذلك، ولم يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه إنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة فمن أصحابنا من يقول إذا حلق شاربه يلزمه الدم؛ لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية، وغيرهم، والأصح أنه لا يلزمه الدم؛ لأنه طرف من أطراف اللحية، وهو مع اللحية كعضو واحد، وإن كانت السنة قص الشارب وإعفاء اللحى، وإذا كان الكل عضوا واحدا لا يجب بما دون الربع منه الدم، والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه.
(قال) وعلى القارن في ذلك كله كفارتان؛ لأنه محرم بإحرامين ففعله جناية على كل واحد منهما فيلزمه جزءان عندنا على ما نبينه في باب جزاء الصيد إن شاء الله تعالى
(قال) وإن أصاب المحرم أذى في رأسه فحلق قبل يوم النحر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء، والأصل فيه حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - «قال مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقمل يتهافت على وجهي، وأنا أوقد تحت قدر لي فقال أتؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأنزل الله عز وجل قوله {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] فقلت ما الصيام يا رسول الله فقال ثلاثة أيام فقلت وما الصدقة قال ثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين فقلت وما النسك قال شاة»، وفي الآية دليل
على أنه يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة؛ لأنها ذكرت بحرف أو وذلك يوجب التخيير كما في كفارة اليمين، ولو لم يرد النص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتقدير الصوم بثلاثة أيام لكنا نقدره بستة أيام؛ لأنه لما تقدر الطعام بطعام ستة مساكين، وصوم يوم بمنزلة طعام المسكين فينبغي أن يلزمه صوم ستة أيام، ولكن ثبت بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصوم ثلاثة أيام فسقط اعتبار كل قياس بمقابلته، وكذلك الجواب في كل ما اضطر إليه مما لو فعله غير مضطر لزمه الدم فإذا فعله المضطر فعليه أي الكفارات الثلاثة شاء؛ لأنه في معنى المنصوص عليه من كل وجه فيكون ملحقا به فإن اختار الصيام يصوم في أي موضع شاء من الحرم أو غير الحرم؛ لأن الصوم عبادة في كل مكان.
وإن اختار الطعام يجزئه ذلك أيضا في الحرم، وغير الحرم عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجزئه ذلك إلا في الحرم؛ لأن المقصود به رفق فقراء الحرم ووصول المنفعة إليهم، ولكنا نقول التصديق بالطعام قربة في أي مكان كان فهو بمنزلة الصيام، وإن اختار النسك كان مختصا بالحرم بالاتفاق؛ لأن إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص، وهو أيام النحر أو مكان مخصوص هو الحرم، وهذا الدم غير مؤقت بالزمان فيكون مختصا بالمكان، وهو الحرم ليتحقق معنى القربة فيه فيكون كفارة لفعله قال الله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] ولأن الله تعالى قال في جزاء الصيد {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] ، وذلك واجب بطريق الكفارة فصار أصلا في كل هدي وجب بطريق الكفارة في اختصاصه بالحرم، ولأنه بعد ذكر الهدايا قال: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33] والمراد به الحرم، ومعلوم أنه ليس المراد من الاختصاص بالحرم عين إراقة الدم؛ لأن فيه تلويث الحرم إنما المقصود التصديق باللحم بعد الذبح فعليه أن يتصدق بلحمه، وكذلك كل دم وجب عليه بطريق الكفارة في شيء من أمر الحج أو العمرة فإنه لا يجزئه ذبحه إلا في الحرم، وعليه التصدق بلحمه بعد الذبح على فقراء الحرم، وإن تصدق على غيرهم من الفقراء أجزأه عندنا؛ لأن الصدقة على كل فقير قربة
(قال) وإن سرق المذبوح لم يكن عليه شيء؛ لأن بالذبح قد بلغ محله، ووجوب التصدق كان متعلقا بالعين فيسقط بهلاك العين كما إذا هلك مال الزكاة سقطت عنه الزكاة
(قال) وإن سرق قبل الذبح فعليه بدله؛ لأنه ما بلغ محله بعد، وهو نظير الأضحية الواجبة إذا سرقت قبل الذبح فعلى صاحبها مثلها، ولا خلاف أن دماء الكفارات لا يختص بيوم النحر، وأن دم المتعة، والقران مختص بيوم النحر؛ لأنه نسك يباح التناول منه كالأضحية، وهو من أسباب التحلل في أوانه كالحلق فأما
دم الإحصار لا يتوقت بيوم النحر عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وعلى قولهما يختص بيوم النحر؛ لأنه مشروع للتحلل فكان بمنزلة دم المتعة والقران وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول إنه في معنى دماء الكفارات بدليل أنه لا يباح التناول منه إلا للفقراء بخلاف دم المتعة والقران فإنه يباح التناول منه للأغنياء ثم وجوب هذا الدم للتحلل قبل أوانه فإن أوان التحلل ما بعد أداء الأفعال، والمحصر يتحلل قبل أداء الأفعال فكان في فعله معنى الجناية، وإن أبيح له ذلك للعذر فالدم الواجب عليه يكون كفارة لا يتوقت بيوم النحر كالدم في حق من كان برأسه أذى فأما التطوعات من الدم يجوز ذبحها قبل يوم النحر، وذبحها في يوم النحر أفضل؛ لأن التطوعات هدايا والواجب في الهدايا تبليغها إلى الحرم فإذا وجد ذلك يجوز ذبحها في غير أيام النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم في هذه الأيام أظهر
(قال) ويباح التناول من هدي المتعة، والقران، والتطوع بمنزلة الأضحية، والجواب في الأضحية معلوم، وهو أن الواجب يتأدى بإراقة الدم فإنه يباح التناول منه للمضحي، ولمن شاء المضحي من غني أو فقير فإن أكل المضحي كلها لم يكن عليه شيء، والأفضل له أن يتصدق بالثلث، ويأكل الثلثين فكذلك فيما هو في معنى الأضحية من الهدايا ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول من هداياه حتى أمر أن يؤخذ من كل بدنة قطعة فتطبخ له، ولو كان الواجب التصدق بها على الفقراء لما أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها شيئا فكما يباح له تناول لحوم هذه الهدايا يباح له الانتفاع بجلودها أيضا، ولا ينتفع بجلود غيرها من دماء الكفارات بل يتصدق بذلك كله كما يتصدق بلحمها هكذا «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لناجية حين بعث بالهدايا على يديه، وقال تصدق بجلالها، وخطمها» فذلك دليل على وجوب التصدق بجلودها بطريق الأولى
(قال) ولا يعطي أجرة الجزار منها، ولا من غيرها شيئا؛ لأن ما يأخذه الجزار إنما يأخذه عوضا عن عمله فيكون ذلك بمنزلة البيع.
(قال) ولا ينبغي له أن يبيع شيئا من لحوم الهدايا بثمن؛ لأنها صارت لله تعالى خالصا فلا ينبغي له أن يشتغل بالتجارة فيها ولولا الإذن من قبل من له الحق لما أبيح له تناول بعضها، وليس من ضرورة الإذن في التناول الإذن في التجارة والمنصوص عليه الإذن في التناول بقوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28] .
(قال) وإذا باع شيئا من لحمها بثمن أو أعطى الجزار أجرة عمله من اللحم فعليه أن يتصدق بقيمة ذلك؛ لأنه متلف حق الفقراء في ذلك القدر بصرفه إلى
قضاء ما هو مستحق عليه أو بتحصيل عوضه لنفسه، وهو الثمن فيلزمه التصدق بقيمته كمن قضى بنصاب الزكاة دينا عليه
(قال) وإذا لم يبق على المحرم غير التقصير فبدأ بقص أظفاره فعليه كفارة ذلك؛ لأن إحرامه باق ما لم يحلق أو يقصر ففعله في قص الأظفار يكون جناية على الإحرام، وعلى قول الشافعي لا يلزمه شيء بناء على مذهبه أن تحلل الحاج يكون بالرمي فقص الأظفار بعد الرمي لا يكون جناية منه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[باب كفارة قص الأظفار]
(باب كفارة قص الأظفار) (قال) - رضي الله عنه - وإذا قص المحرم أظفار يديه، ورجليه فعليه دم عندنا، وقال عطاء - رضي الله عنه - لا شيء عليه لأن قص الأظفار من الفطرة، ولم يصح حديث في النهي عنه بسبب الإحرام فكان نظير الختان، ولا بأس بالختان في الإحرام فكذلك قص الأظفار، ومذهبنا مروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، ولأن قص الأظفار من قضاء التفث فإنه إزالة ما ينمو من البدن لمعنى الزينة والراحة كحلق الرأس فيكون مؤخرا إلى ما بعد التحلل، ومباشرته قبل ذلك جناية على الإحرام فيوجب الجبر بالدم. وإن قص ظفرا واحدا أو ظفرين فعليه لكل ظفر صدقة إلا أن يبلغ دما فينقص عنه ما شاء. وعن محمد - رحمه الله تعالى - قال في كل ظفر خمس الدم لأنه لما وجب الدم في قص خمسة أظفار ففي كل ظفر بحساب ذلك، ولكنا نقول إن جنايته لم تتكامل لأن معنى الراحة والزينة لا يحصل بقص ظفر أو ظفرين، والجناية الناقصة في الإحرام توجب الجبر بالصدقة.
(قال) وإن قص ثلاثة أظفار فعليه دم في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - الأول استحسانا، وهو قول زفر - رحمه الله تعالى -، وفي قوله الآخر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه لكل ظفر صدقة وجه قوله الأول أن قص أظفار يد واحدة يوجب الدم بالاتفاق، والأكثر منها ينزل منزلة الكمال فالثلاث أكثر الأظفار من اليد الواحدة، ولكنه رجع عن هذا فقال: الدم في الأصل إنما يجب بقص أظفار اليدين، والرجلين واليد الواحدة ربع ذلك فتجعل بمنزلة الكمال كربع الرأس في الحلق فكان هذا أدنى ما يتعلق به الدم فلا يمكنه أن يقام الأكثر فيه مقام الكمال إذ لو فعل أدى إلى ما لا يتناهى فيقال: إذا قص الظفرين فقد قص أكثر الثلاثة ثم إذا قص ظفرا أو نصفا فقد قص أكثر الظفرين
ولكن يقال ما كان أدنى المقدار شرعا لا يتعلق بما دونه الحكم المتعلق به
(قال) ولو قص خمسة أظفار متفرقة من اليدين، والرجلين يلزمه لكل ظفر صدقة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وقال محمد - رحمه الله تعالى - يلزمه الدم لأن المقصوص خمسة أظفار فلا فرق بين أن يكون من عضو واحد أو عضوين أو من أعضاء متفرقة كما في الحلق لأنه لا فرق بين أن يحلق ربع الرأس من جانب واحد أو من جوانب متفرقة في إيجاب الدم، وكما في حكم الأرش لا فرق في إيجاب دية اليدين بين قطع خمسة أصابع من يد واحدة أو من يدين فهذا مثله، وهما يقولان جنايته لم تتكامل لأن معنى الزينة والراحة لا يحصل بقص بعض الأظفار من كل عضو لأنه لا يحسن في النظر أن يكون بعض الأظفار مقصوصا دون البعض فيزداد به شغل قلبه لا أن ينال به الراحة فإذا لم تتكامل الجناية كان عليه لكل ظفر صدقة حتى قالوا: لو قص ستة عشر ظفرا من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء بخلاف الحلق فإن تفريق الحلق من جوانب الرأس عادة فيتم به معنى الراحة.
(قال) وإذا انكسر ظفر المحرم فانقطع منه شظية فقلعه لم يكن عليه شيء لأن ذلك المنكسر لا ينمو من البدن فقلعه لا يكون جناية بمنزلة ما لو تكسر من شجر الحرم ويبس إذا أخذه إنسان لا يجب فيه شيء لانعدام معنى النمو.
(قال) وإن قص الأظفار كلها في مجالس متفرقة فإن كان حين قص أظفار يد واحدة كفر ثم قص أظفار أخرى فعليه كفارة أخرى لأن الجناية الأولى قد ارتفعت بالتكفير ففعله الثاني يكون جناية مبتدأة فيوجب كفارة أخرى، وإن لم يكفر حتى قص الأظفار كلها فعليه دم واحد في قول محمد - رحمه الله تعالى - بمنزلة ما لو قص الأظفار كلها في مجلس واحد لأن هذه الجنايات تستند إلى سبب واحد فلا توجب إلا كفارة واحدة كما في حلق جميع الرأس لا فرق أن يكون في مجالس متفرقة أو في مجلس واحد، وهذا لأن مبنى الواجب على التداخل، وفيما ينبني على التداخل المجلس الواحد، والمجالس المتفرقة فيه سواء كما في كفارة الفطر، وكما في الحدود. وفي قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى عليه أربعة دماء باعتبار كل عضو في مجلس دم لأن هذه الأفعال في محال مختلفة، وكل واحد منها جناية متكاملة منها فتوجب الدم، وكان بمنزلة ما لو حلق في مجلس، وقص الأظفار في مجلس آخر، وهذا لأن كفارات الإحرام يغلب فيها معنى العبادة، ولا يجري التداخل في العبادة إلا أنه إذا كان في مجلس واحد فالمقصود واحد، والمحال
مختلفة فرجحنا جانب اتحاد المقصود بسبب اتحاد المجلس، وأما إذا اختلفت المجالس يترجح جانب اختلاف المحال فيوجب بكل فعل دماء بمنزلة من تلا آية السجدة مرارا فإن كان في مجلس واحد فعليه سجدة واحدة، وإن كان في مجالس متفرقة فعليه بكل تلاوة سجدة، وبه فارق الحلق فإن محل الفعل هناك واحد، والمقصود واحد، وعلى هذا الاختلاف لو جامع مرة بعد أخرى امرأة واحدة أو نسوة إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى قالوا في الجماع بعد الوقوف في المرة الأولى عليه بدنة وفي المرة الثانية عليه شاة لأنه قد دخل فيه نقصان بالجناية الأولى فالجناية الثانية صادفت إحراما ناقصا فيجب الدم، ويكون قياس الجماع في إحرام العمرة، وإن أصابه أذى في أظفاره حتى قصها فعليه أي الكفارات الثلاث شاء للأصل الذي تقدم بيانه أن ما يكون موجبا للدم إذا فعله لعذر تخير فيه المعذور بين الكفارات الثلاث، والله سبحانه وتعالى أعلم وإليه المرجع والمآب.
[باب جزاء الصيد]
(قال) - رضي الله عنه - محرم دل محرما أو حلالا على صيد فقتله المدلول فعلى الدال الجزاء عندنا استحسانا، وفي القياس لا جزاء على الدال، وبه أخذ الشافعي - رحمه الله تعالى - قال لأن الجزاء واجب بقتل الصيد بالنص قال الله تعالى {ومن قتله منكم متعمدا} [المائدة: 95] الآية، والدلالة ليست في معنى القتل لأن القتل فعل متصل من القاتل بالمقتول فأما الدلالة والإشارة غير متصل بالمحل وهو الصيد والحكم الثابت بالنص لا يجوز إثباته فيما ليس في معنى المنصوص.
والدليل عليه جزاء صيد الحرم يجب على القاتل الحلال، ولا يجب على الدال إذا كان حلالا بالاتفاق للمعنى الذي قلنا، والدليل عليه أن حرمة الصيد في حق المحرم لا تكون أقوى من حرمة مال المسلم ونفسه، ولا يضمن الدال على مال المسلم، ولا على نفسه شيئا بسبب الدلالة فكذلك هنا لا أنا تركنا القياس باتفاق الصحابة - رضي الله عنهم - فإن رجلا سأل عمر - رضي الله عنه - فقال إني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ماذا ترى عليه فقال أرى عليه شاة فقال عمر - رضي الله عنه -، وأنا أرى عليه ذلك، وأن عليا وابن عباس - رضي الله تعالى عنه - سئلا عن محرم دل على بيض نعامة فأخذه المدلول عليه فشواه فقالا على الدال جزاؤه، والقياس يترك بقول الفقهاء من الصحابة - رضي الله عنهم -، وما
نقل عنهم في هذا الباب كالمنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لا أظن بهم أنهم قالوا جزافا، والقياس لا يشهد لقولهم حتى يقول قالوا ذلك قياسا فلم يبق إلا السماع ثم ثبت باتفاقهم أن الدلالة على الصيد من محظورات الإحرام، وذلك ثابت بالنص أيضا فإن «النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب أبي قتادة - رضي الله عنهم - في صيد أخذه أبو قتادة، وكانوا محرمين هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم» فجعل الإشارة كالإعانة فعرفنا أنه من محظورات الإحرام، وذلك يوجب الجزاء، وبه فارق صيد الحرم فإن الموجب للحظر هناك معنى في الحل، وهو أمن الصيد بسبب الحرم فلا بد من أن يكون فعله متصلا بالمحل حتى يكون جناية في إزالة الأمن عن المحل.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|