عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم يوم أمس, 04:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الرابع
صـــ 130 الى صـــ 139
(80)







(قال): صبي أحرم عنه أبوه وجنبه ما يجنب المحرم فلبس ثوبا أو أصاب طيبا أو صيدا فليس عليه شيء عندنا والشافعي - رحمه الله تعالى - يوجب الكفارة المالية على الصبي كالبالغ بناء على أصله في إيجاب الزكاة عليه ويأمر الولي بأدائه من ماله، وعندنا المالي والبدني سواء في أن وجوب ذلك ينبني على الخطاب. والصبي غير مخاطب ثم إحرام الصبي للتخلق فلا تتحقق جنايته في الإحرام بهذه الأفعال، وهذا؛ لأنه ليس للأب عليه ولاية الإلزام فيما يضره، ولو جعلنا إحرامه ملزما إياه في الاجتناب عن المحظورات وموجبا للكفارة عليه لم يكن تصرف الأب في الإحرام واقعا بصفة النظر له فلهذا جعلناه تخلقا غير ملزم إياه فلا يلزمه الجزاء بارتكاب المحظور غير أن الأب يمنعه من ذلك لتحقيق معنى التخلق والاعتياد.
[باب النذر]
(قال): وإذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة استحسانا، وفي القياس لا شيء عليه؛ لأن الالتزام بالنذر إنما يصح فيما يكون من جنسه واجبا شرعا، والمشي إلى بيت الله تعالى ليس من جنسه واجب شرعا فلا يصح الالتزام بالنذر توضيحه أن الالتزام باللفظ، ولم يلزمه ما تلفظ به بالاتفاق وهو المشي فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من الحج والعمرة أولى، ولكنا تركنا القياس بحديث علي - رضي الله عنه -، قال فيمن نذر المشي إلى بيت الله تعالى فعليه حجة أو عمرة. والعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك، واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته ويجعل
كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه، ولأنه لا يتوصل إلى بيت الله تعالى إلا بالإحرام فكأنه التزم الإحرام بهذا اللفظ، والإحرام لأداء أحد النسكين إما الحج أو العمرة فكأنه التزم بهذا اللفظ ما يخرج به عن الإحرام فلهذا يلزمه حجة أو عمرة ويمشي فيها كما التزم فإذا ركب أراق دما لحديث «عقبة بن عامر - رضي الله تعالى عنه - حيث قال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما»، ولأن الحج ماشيا أفضل فإن الله تعالى قدم المشاة على الركبان، فقال {يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر} [الحج: 27] ، ولهذا كان ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - بعد ما كف بصره يتأسف على تركه الحج ماشيا.
«والحسن بن علي - رضي الله تعالى عنه - كان يمشي في طريق الحج والجنائب تقاد بجنبه فقيل له: ألا تركب فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مشى في طريق الحج كتب الله له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم قال: الواحدة بسبعمائة ضعف» فإذا ثبت أن المشي أفضل قلنا: إذا ركب فقد أدى أنقص مما التزم فعليه لذلك دم فإن قيل كيف يستقيم هذا، وقد كره أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - المشي في طريق الحج قلنا لا كذلك، وإنما كره الجمع بين الصوم والمشي، وقال: إذا جمع بينهما ساء خلقه فجادل رفيقه، والجدال منهي عنه فإن اختار المشي فالصحيح من المذهب أنه يلزمه المشي من بيته، وقال بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى: يلزمه المشي من الميقات؛ لأنه التزم المشي في النسك، وذلك عند إحرامه من الميقات، ولكن العادة الظاهرة أن الناس بهذا اللفظ يقصدون المشي من بيوتهم، وقد قال علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - في قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] قال: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فميقات الرجل في الإحرام منزله، ولكن يرخص له في تأخير الإحرام إلى الميقات، ولو أحرم من بيته لا إشكال أنه يمشي من بيته. فكذلك إذا أخر الإحرام قلنا: يمشي من بيته كما التزم ثم لا يركب إلى أن يطوف طواف الزيارة؛ لأن تمام الخروج من الإحرام به يحصل فإن تمام التحلل في حق النساء إنما يحصل بالطواف. وإذا اختار العمرة مشى إلى أن يحلق فإن قرن بهذه العمرة حجة الإسلام أجزأه؛ لأن القارن يأتي بكل واحد من النسكين بكماله فنسك العمرة التزمه بالنذر والحج حجة الإسلام، وقد أداهما بصفة الكمال فعليه دم القران لذلك، وإن كان ركب فعليه دم لركوبه مع دم القران
(قال): وكل من وجب عليه دم في المناسك جاز أن يشاركه في بدنة ستة نفر
قد وجبت عليهم الدماء فيها، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جوز ذلك في كل سبعة من أصحابه عام الحديبية. ولا فرق بين أن يكون جنس الواجب عليهم واحدا أو مختلفا في حكم الجواز حتى إذا قصد بعضهم دم المتعة وبعضهم دم الإحصار وجزاء الصيد فذلك جائز بخلاف ما إذا قصد بعضهم اللحم؛ لأن الواجب إراقة دم هو قربة، وإراقة الدم في كونه قربة لا يتجزأ، فإذا قصد بعضهم اللحم لم يكن فيه معنى القربة خالصا فأما عند اختلاف جهات القربة فقصد كل واحد معنى القربة فقط فلهذا يتأدى الواجب به، ولو كان كله جنسا واحدا كان أحب إلي؛ لأن دماء القرب مختلفة بعضها لا يحل التناول منه للأغنياء كدماء الكفارات وبعضها يحل فإذا اتحد الجنس فقد اتحد معنى القربة في المذبوح فيكون أقرب إلى الجواز
(قال): فإذا نذر المشي إلى بيت الله تعالى ونوى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجدا آخر فلا شيء عليه. أما صحة نيته فلأنها مطابقة للفظه، والمساجد كلها بيوت الله تعالى، قال الله تعالى {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور: 36] وإذا علمت نيته صار ذلك كالملفوظ به فلا يلزمه شيء؛ لأن سائر المساجد يباح دخولها بغير إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام، وعلى هذا لو قال: أنا أمشي إلى بيت الله تعالى قال: فإن نوى به العدة فلا شيء عليه؛ لأن المواعيد لا يتعلق بها اللزوم، ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد، وإن نوى به النذر كان نذرا وكذلك إن لم يكن له نية فهو نذر، وكذلك إن لم يكن نوى شيئا من المساجد فهو على الكعبة للعادة الظاهرة فإن الناس إذا أطلقوا هذه اللفظة يريدون بها الكعبة، وعلى هذا لو قال: على المشي إلى مكة، أو إلى الكعبة فهو وقوله إلى بيت الله سواء وقوله، وإن قال: على المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام فلا شيء عليه في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أخذا بالقياس فيه؛ لأن الناس لا يطلقون هذا اللفظ عادة لإرادة التزام الحج والعمرة بخلاف ما تقدم من الألفاظ الثلاثة ثم المسجد الحرام بمنزلة الفناء للكعبة، والحرم بمنزلة الفناء لمكة فلا يجعل ذكر الفناء كذكر الأصل في النذر بل يجعل هذا بمنزلة ما لو قال: لله علي المشي إلى الصفا أو إلى المروة أو إلى مقام إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - فلا يلزمه شيء وأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - قالا: نأخذ بالاحتياط أو بالاستحسان في هذين الفصلين أيضا؛ لأنه لا يتوصل إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام إلا بالإحرام فصار بهما ملتزما للإحرام
(قال): ولو قال: على السفر إلى مكة أو الذهاب أو الإتيان إلى مكة أو الركوب فلا شيء عليه، والقياس في الألفاظ كلها واحد، ولكن فيما تعارف الناس التزام
النسك به تركنا القياس فيه للعرف فما لا عرف فيه أخذنا بالقياس، فإن قال: إن كلمت فلانا فلله علي حجة يوم أكلمه ينوي أنه يجب عليه يوم يكلمه فكلمه وجب عليه حجة يقضيها متى شاء، ولم يكن محرما بها يومئذ ما لم يحرم بمنزلة ما لو قال: علي حجة اليوم كانت واجبة عليه يحرم بها متى شاء؛ لأنه التزمها في ذمته والشروع في الأداء لا يتصل بالالتزام في الذمة كسائر العبادات فإن من قال: لله علي أن أصوم اليوم لا يصير صائما بنذره، والإحرام شروع في الأداء فلا يثبت بالالتزام، ولأن ما يوجب على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ومن وجب عليه الحج بوجود الزاد والراحلة لا يصير محرما بنفس الوجوب عليه فكذلك لا يصير محرما بمجرد ما قال: وإن وصل الاستثناء بنذره لم يلزمه شيء؛ لأن الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة. قال - صلى الله عليه وسلم - «من حلف بطلاق أو عتاق واستثنى فلا حنث عليه»، ولو قال لآخر: علي حجة إن شئت، فقال: قد شئت فهو عليه؛ لأن تعليق النذر بالشرط صحيح فإذا علقه بمشيئته وشاء جعل كأنه أرسل النذر عند ذلك فيلزمه كالطلاق والعتاق، وقوله علي حجة مثل قوله لله علي حجة؛ لأن الحج لا يكون إلا لله تعالى والالتزام بقوله "علي" . ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحرم فإن نوى به العدة فلا شيء عليه، وإن نوى به الإيجاب لزمه إذا فعل ذلك إما حجة أو عمرة، وإن لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شيء؛ لأن ظاهر لفظه عدة، وفي الاستحسان يلزمه؛ لأن في عرف اللسان يراد بمثله التحقيق للحال. ألا ترى أن المؤذن يقول "أشهد أن لا إله إلا الله" والشاهد يقول بين يدي القاضي "أشهد" ويريد به التحقيق لا العدة، وقوله "أنا أهدي" بمنزلة قوله أنا أحرم
(قال): وإن قال: إن فعلت كذا فأنا أحج بفلان فحنث فإن كان نوى فأنا أحج وهو معنا فعليه أن يحج، وليس عليه أن يحج به، وإن نوى أن يحججه فعليه أن يحججه كما نوى؛ لأن الباء للإلصاق فقد ألصق فلانا بحجه، وهذا يحتمل معنيين أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطي فلانا ما يحج به بالمال، والتزام الأول بالنذر غير صحيح والتزام الثاني صحيح؛ لأن الحج يؤدي المال عند اليأس عن الأداء بالبدن فكان هذا في حكم البدل وحكم البدل حكم الأصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالأصل فإن نوى الوجه الأول عملت نيته لاحتمال كلامه، ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه به شيء، وإنما عليه أن يحج بنفسه فقط، وإن نوى الثاني فقد نوى ما يصح التزامه بالنذر فيلزمه ذلك، وإذا لزمه ذلك فإما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحج به مع نفسه ليحصل به الوفاء
بالنذر، فإن لم يكن له نية فعليه أن يحج، وليس عليه أن يحجج فلانا؛ لأن لفظه في حق فلان محتمل والوجوب لا يحصل باللفظ المحتمل، وإن كان قال: فعلي أن أحجج فلانا، فهذا محكم غير محتمل فإنه تصريح الالتزام بإحجاج فلان، وذلك صحيح بالنذر، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أهدي فلانا ففعل ذلك الفعل فلا شيء عليه؛ لأن النذر بالهدي لا يصح إلا في الملك وهو قد نذر هدي ما لا يملكه وما لا مالية فيه فكان نذره لغوا إذ لا ولاية له على فلان ليهديه إلا أن يكون فلان ذلك ولده فحينئذ يكون على القياس والاستحسان المعروف في نذر ذبح الوالد
(قال): ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أهدي كذا وسمى شيئا من ماله فعليه أن يهديه؛ لأنه التزم أن يهدي ما هو مملوك له، والهدي قربة والتزام القربة في محل مملوك له صحيح كما لو نذر أن يتصدق به ثم الإهداء يكون إلى مكان، وذلك المكان، وإن لم يكن في لفظه حقيقة، ولكن صار معلوما بالعرف أنه مكة قال الله تعالى في الهدايا {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33] فإذا تعين المكان بهذا المعنى فإن كان ذلك الشيء مما يتقرب بإراقة دمه فعليه أن يذبحه بمكة وإن كان لا يتقرب بإراقة دمه، وإنما يتقرب بالتصدق به فإنه يتصدق به على مساكين مكة، وإن كان ذلك الشيء لا يستطيع أن يهديه بنفسه كالدار والأرض فعليه أن يهديه بقيمته؛ لأن التقرب يحصل بالعين تارة ويحصل بمعنى المالية أخرى، فإذا كانت العين لا تحول من مكان إلى مكان عرفنا أن مراده التزام التصدق بماليته فعليه أن يهدي قيمته يتصدق به على مساكين مكة، وإن أعطاه حجبة البيت أجزأه بعد أن يكونوا فقراء؛ لأنهم بمنزلة غيرهم من المساكين.
(قال): وكذلك إن قال: فثوبي هذا ستر البيت أو قال: أنا أضرب به حطيم البيت فعليه أن يهديه استحسانا، وفي القياس لا شيء عليه؛ لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه؛ لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى. وفي الاستحسان إنما يراد بهذا اللفظ الإهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به غيره فكأنه التزم أن يهديه؛ لأن اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتباره في نفسه حقيقة
(قال): وإن قال: مالي هدي فعليه أن يهدي ماله كله، قال: بلغنا عن إبراهيم أنه قال في مثل هذا: يتصدق بماله كله ويمسك منه قدر قوته، فإذا أفاد مالا يتصدق بقدر ما أمسك وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال: مالي صدقة، فقال: في القياس ينصرف هذا إلى كل مال له وهو قول زفر - رحمه الله تعالى - وفي الاستحسان ينصرف إلى مال الزكاة خاصة بخلاف، أما إذا قال: جميع ما أملك فمن أصحابنا من قال: ما ذكر هنا جواب
القياس؛ لأن التزام الهدي في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال، والأصح أن يفرق بينهما فيقال في لفظ الصدقة إنما حمل هذا اللفظ على مال الزكاة خاصة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصدقة في المال مختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه، وهنا إنما أوجب الهدي وما أوجب الله تعالى من الهدي لا يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه فلهذا اعتبرنا فيه حقيقة اللفظ، ولكنه يمسك مقدار قوته؛ لأن حاجته مقدمة على حاجة غيره، فإذا أفاد مالا تصدق بمثل ما أمسك لتعلق حق المساكين به ثم قال: وكذلك إن قال: كل مالي صدقة في المساكين فهذا مثل الأول في قول إبراهيم - رحمه الله تعالى -، وهذا العطف يؤيد ما قلنا أولا أن المذكور جواب القياس فإن القياس والاستحسان منصوص عليهما في لفظ الصدقة في كتاب الهبة، وإن قال: إن فعلت كذا فغلامي هذا هدي فباعه ثم فعل ذلك لم يلزمه شيء؛ لأن المعلق بالشرط عند وجوده كالمنشإ، ولو أنشأ النذر عند ذلك الفعل لم يلزمه شيء؛ لأن العبد ليس في ملكه فكذلك إذا وجد الشرط، وكذلك إن كان الغلام في غير ملكه حين حلف ثم اشتراه ثم فعل ذلك؛ لأن اليمين بالنذر في محل معين لا يصح إلا باعتبار الملك أو الإضافة إلى الملك، ولم يوجد الملك ولا الإضافة إلى الملك في المحل وقت اليمين فلم ينعقد يمينه أصلا
(قال): وإن قال: إن كلمت فلانا فهذا المملوك هدي ثم اشتراه صحت يمينه لوجود الإضافة إلى الملك ثم عند وجود الشرط وهو الكلام يصير كأنه أرسل النذر، وإنما ينصرف إلى شراء بعده لا إلى شراء سبقه
(قال): وإن قال: فهذه الشاة هدي إلى بيت الله تعالى أو إلى مكة أو إلى الكعبة وهو يملكها فعليه أن يهديها؛ لأنه لو أطلق التزام الهدي صح نذره باعتبار هذا المكان، فإذا صرح به كان أولى
(قال): وإذا قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يلزمه أن يهديهما في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ولزمه ذلك عندهما وهو نظير ما سبق من التزام المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لما جعل ذكر هذين الموضعين عندهما كذكر مكة، ولم يجعل كذلك عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - كذلك هنا، فإن قيل فعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ينبغي أن يلزمه هنا؛ لأن ذكره الحرم والمسجد الحرام غير ملزم فكأنه لم يذكر، ولكنه قال: هذه الشاة هدي فتلزمه بخلاف المشي فإن هناك لو قال: علي مشي لا يلزمه شيء قلنا هذا غير صحيح؛ لأنه إذا قال: هذه الشاة هدي إنما يلزمه باعتبار
أن ذكر مكة يصير مضمرا في كلامه بدلالة العرف فإذا نص إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا يمكن أن يجعل ذكر مكة مضمرا في كلامه فلهذا لا يلزمه شيء عنده
(قال): وكل شيء يجعله على نفسه من المتاع والرقيق فإنما عليه أن يبيعه ويتصدق به على مساكين أهل مكة، وإن تصدق به بالكوفة أجزأه، وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجزيه؛ لأنه التزم الهدي، والهدي لا يكون إلا في موضع فكان من ضرورة ما نص عليه تعيين مساكين أهل مكة للتصدق عليهم، ولكنا نقول هو بهذا اللفظ ملتزم للقربة في هذه المحال والفعل الذي هو قربة في هذه المحال التصدق بها فكأنه نذر أن يتصدق بها والتصدق على فقراء الكوفة كالتصدق على فقراء مكة؛ لأن معنى القربة في التصدق إنما يحصل بسد خلة المحتاج، وفي هذا فقراء مكة وفقراء الكوفة سواء
(قال): وكل هدي جعله على نفسه من الإبل والبقر والغنم فعليه أن يذبحه بمكة؛ لأن فعل القربة في هذه المحال بإراقة الدم، وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو يوم النحر، وفي لفظه ما ينبئ عن المكان دون الزمان، ولهذا كان عليه أن يذبحه وبعد الذبح صار المذبوح لله تعالى خالصا فالسبيل أن يتصدق بلحمه، والأولى أن يتصدق به على مساكين مكة، وإن تصدق على غيرهم أجزأه عندنا لما بينا في الفصل الأول إن كان ذلك في أيام النحر فعليه أن ينحر بمنى كما هو السنة في الهدايا، وإن كان في غير أيام النحر فعليه أن يذبح بمكة، وهذا على سبيل بيان الأولى، فأما حكم الجواز إذا ذبحه في الحرم جاز كما قال - صلى الله عليه وسلم - «منى منحر وفجاج مكة كلها منحر»
(قال): ولو قال: إن فعلت كذا فعلي هدي ففعله كان عليه ما استيسر من الهدي شاة؛ لأن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر والغنم فإن هذه الحيوانات يتقرب بإراقة دمها إلا أن عند الإطلاق يلزمه المتيقن وهو الشاة، فإن نوى الإبل أو البقر كان عليه ما نوى؛ لأنه شدد الأمر على نفسه في نيته ونوى التعظيم فيما التزمه من الهدي فيلزمه ما نوى ولا يذبحها إلا بمكة لتصريحه بالهدي، فإن كان قال: علي بدنة، فإن كان نوى شيئا من البدن بعينه فعليه ما نوى؛ لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به، وإن لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور؛ لأن اسم البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والعظم، وذلك لا يتناول الشاة، وإنما يتناول البقرة والجزور هكذا نقل عن علي وابن عباس - رضي الله عنهما -. وعن ابن مسعود وابن عمر - رضي الله عنهما - أن لفظة البدنة لا تتناول إلا الجزور فإن سائلا سأل
ابن مسعود - رضي الله عنه - أن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزي البقرة، فقال: مم صاحبكم، فقال: من بني رباح، فقال: ومتى اقتنت بنو رباح البقر، وإنما وهم صاحبكم الإبل ثم إن كان نوى أن ينحرها بمكة فليس له أن ينحرها إلا بمكة كما نوى لأن المنوي كالمصرح به، وإن كان لم يكن له نية نحرها حيث شاء في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى: لا يجزئه إلا أن ينحرها بمكة وجه قوله أنه التزم التقرب بإراقة الدم، وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص، وإذا لم يختص هنا بالزمان يختص بالمكان وهو الحرم كما لو أوجبه بلفظة الهدي وهما قالا: كما لا يختص بالزمان؛ لأنه ليس في لفظه ما يدل عليه فكذلك لا يختص بالمكان؛ لأنه ليس في لفظة البدنة ما يدل عليه بخلاف لفظة الهدي، وإذا لم يكن في لفظه ما يدل على مكان أو زمان عرفنا أن مراده التزام التقرب والتصدق باللحم، وذلك يحصل في أي موضع نحر، وهو قياس ما لو قال: لله علي جزور كان له أن ينحر في أي مكان شاء، ولكن أبو يوسف - رحمه الله تعالى - يفرق بينهما فيقول: لا عادة في استعمال لفظة الجزور في معنى الهدي بخلاف لفظة البدنة، ألا ترى أن اسم البدنة لا ينطلق إلا على ما هو معد للقربة كاسم الهدي بخلاف اسم الجزور ولمعنى القربة جعلنا اسم البدنة متناولا للبقرة والجزور جميعا؛ لأن كل واحد منهما يجزي في الهدايا والضحايا عن سبعة فعرفنا أن معنى التقرب بإراقة الدم معتبر في لفظة البدنة كما هو معتبر في لفظة الهدي فكان مختصا بالحرم
(قال): ولا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع من الإبل والبقر دون الغنم. والكلام في فصول: أحدها - أن التقليد في الهدايا سنة ثبتت بقوله تعالى {ولا الهدي ولا القلائد} [المائدة: 2] وصح «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلد هداياه في حجة الوداع»، وصفة التقليد هو أن يعلق على عنق البدنة نعل أو قطعة أدم أو عروة مزادة، قيل: والمعنى فيه إعلام الناس أن هذا أعد للتطوع بإراقة دمه فيصير جلده عن قريب مثل هذه القطعة من الجلد، والمقصود به التشهير، وقد بينا أن التشهير فيما هو نسك دون ما هو جبر، ولهذا لا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع، والمقصود أن لا يمنع من الماء والعلف إذا علم أنه هدي، وهذا فيما يبعد عن صاحبه في الرعي كالإبل والبقر دون الغنم فإن الغنم يعدم إذا لم يكن صاحبه معه فلهذا يقلد الغنم، وهذا عندنا، وعلى قول مالك - رحمه الله تعالى - يقلد الغنم أيضا؛ لأن التقليد سنة في الهدايا، والغنم من الهدايا، وقد ورد فيه أثر، ولكنه شاذ فلم نأخذ به، وهذا؛ لأن تقليد الغنم غير معتاد في الناس ظاهرا بخلاف تقليد الإبل
والبقر.
(قال): والتجليل حسن؛ لأن هدايا رسول الله كانت مقلدة مجللة حيث «قال لعلي - رضي الله عنه: تصدق بجلالها وخطامها»، وإن ترك التجليل لم يضره والتقليد أحب إلي من التجليل؛ لأن للتقليد ذكرا في كتاب الله تعالى دون التجليل. وأما الإشعار فهو مكروه عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وعندهما هو حسن في البدنة، وإن ترك لم يضره، وصفة الإشعار هو أن يضرب بالمبضع في أحد جانبي سنام البدنة حتى يخرج الدم منه ثم يلطخ بذلك الدم سنامه، سمي ذلك إشعارا بمعنى أنه جعل ذلك علامة له، والإشعار هو الإعلام، وكان ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى - يقول: الإشعار في الجانب الأيسر من السنام، وقد صح في الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر البدن بيده» وهو مروي عن الصحابة - رضي الله عنهم - ظاهر حتى قال الطحاوي - رحمه الله تعالى: ما كره أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - أصل الإشعار وكيف يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار، وإنما كره إشعار أهل زمانه؛ لأنه رآهم يستقصون ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا الباب على العامة؛ لأنهم لا يراعون الحد، فأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد فقط دون اللحم فلا بأس بذلك ثم حجتهما من حيث المعنى؛ لأن المقصود من الإشعار والتقليد إعلام بأنها بدنة حتى إذا ضلت ردت، وإذا وردت الماء والعلف لم تمنع لكن هذا المقصود بالتقليد لا يتم؛ لأن القلادة تحل ويحتمل أن تسقط منه فإنما يتم بالإشعار؛ لأنه لا يفارقه فكان الإشعار حسنا لهذا وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول معنى الإعلام بالتقليد يحصل وهو لإكرام البدنة، وليس في الإشعار معنى الإكرام بل ذلك يؤذي البدنة، ولأن التجليل مندوب إليه، وإنما كان مندوبا لدفع أذى الذباب عن البدنة، والإشعار من جوالب الذباب فلهذا كرهه أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -
(قال): ولا يصير بالإشعار والتجليل محرما، وإنما يصير محرما بالتقليد وأصل هذا أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية عندنا، وفي أحد قولي الشافعي - رحمه الله تعالى - ينعقد بمجرد النية وجعل الإحرام قياس الصوم من حيث إنه التزام الكف عن ارتكاب المحظورات، ومثل هذه العبادة يحصل الشروع فيها بمجرد النية كالصوم، وعلى قولنا الإحرام قياس الصلاة؛ لأن الإحرام لأداء الحج أو العمرة، وذلك يشتمل على أركان مختلفة كالصلاة فكما لا يصير شارعا في الصلاة بمجرد النية بدون التحريمة فكذلك في الإحرام بخلاف الصوم فإنه ليس للصوم إلا ركن واحد وهو الإمساك، وذلك معلوم بزمانه
فكان الوقت للصوم معيارا، ولهذا لا يصح في كل زمان إلا صوم واحد فبعد وجود النية ودخول وقت الأداء لا حاجة إلى مباشرة فعل الأداء فلهذا صار شرعا فيه بمجرد النية، وهنا الزمان ليس بمعيار للحج، ولهذا صح أداء النفل في الزمان الذي يؤدى فيه الفرض، وإنما أداؤه بأفعاله وبمجرد النية لا يصير مباشرا للفعل فلا يصير شارعا في الأداء أيضا، ولكن لو قلد البدنة بنية الإحرام أو أمر فقلد له وهو ينوي الإحرام صار محرما عندنا.
وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: لا يصير محرما إلا بالتلبية على القول الذي يقول "لا ينعقد الإحرام بمجرد النية" وحجته في ذلك أن الفعل لا يقوم مقام الذكر في التحرم للعبادة كما في الصلاة لما كان الشروع فيها بالتكبير لا يقوم الفعل فيه مقامه حتى لو ركع أو سجد بنية الشروع في الصلاة لا يصير شرعا ولا فرق بينهما؛ لأن الهدي نسك في هذه العبادة كالركوع والسجود في الصلاة، توضيحه أن تقليد الهدي لا يكون أقوى من إراقة دم الهدي وبإراقة دم الهدي على قصد الإحرام لا يصير محرما فكذلك بالتقليد وحجتنا في ذلك قوله تعالى {ولا الهدي ولا القلائد} [المائدة: 2] إلى أن قال {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] ، ولم يتقدم ذكر الإحرام ففي قوله {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] إشارة إلى أن الإحرام يحصل بتقليد الهدي، وذلك مروي عن الصحابة عمر وابن مسعود وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم - حتى روي عن قيس بن سعد أنه كان يغسل رأسه فبعد ما غسل أحد شقي رأسه نظر، فإذا هداياه قد قلدت فقام وترك غسل الشق الآخر، وقال: أما إن قلدت هذه الهدايا له فقد أحرم. والمعنى فيه أن الحج يشبه الصلاة من وجه والصوم من وجه فمن حيث إنه ليس في أثنائه ذكر مفروض كان مشبها بالصوم ومن حيث إنه يشتمل على أركان مختلفة كان مشبها بالصلاة فيوفر على الشبهين حظهما من الحكم فنقول بشبهه بالصلاة لا يصير شارعا فيه بمجرد النية وبشبهه بالصوم يصير شارعا فيه، وإن لم يأت بالذكر إذا أتى بفعل يقوم مقام الذكر، وهذا؛ لأن المقصود بالتلبية إظهار إجابة الدعوة وبتقليد الهدي يحصل إظهار الإجابة أيضا وفرق بين التجليل والتقليد، فقال بالتجليل لا يصير محرما، وإن نوى؛ لأن التجليل لا يختص به ما أعد للقربة فقد تجلل البدنة لا على قصد التقرب بها فلا يكون ذلك دليل الإجابة بخلاف التقليد بالصفة التي ذكرنا فإنه لا يكون إلا عند قصد التقرب فكان إظهارا للإجابة، وكذلك بالإشعار لا يصير محرما. أما عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فلا يشكل؛ لأن الإشعار مكروه عنده فكيف يصير
محرما به.
وعندهما الإشعار بمنزلة التجليل فإنه إخراج شيء من الدم من البدنة، وذلك لا يختص بحال التقرب بها فلم يكن ذلك دليل الإجابة فلهذا لا يصير محرما ثم إذا نوى عند التقليد حجة أو عمرة فهو على ما نوى؛ لأن التقليد بمنزلة التلبية، وإن لم يكن له نية في حجة أو عمرة إنما نوى الإحرام فقط فهو بمنزلة ما لو أتى بنية الإحرام مطلقا، فإن شاء جعله حجا، وإن شاء جعله عمرة، وإن قلد الشاة بنية الإحرام لا يصير محرما لما بينا أن التقليد في الشاة ليس بقربة فلا يصير به محرما، وإن قلد الهدي وبعث به وهو لا ينوي الإحرام ثم خرج في أثره لم يصر محرما حتى يدرك هديه، فإذا أدركه وسار معه صار محرما الآن، والأصل فيه حديث «عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقلدها وبعث بها وأقام بأهله حلالا لا يحرم به ما يحرم على المحرم» فعرفنا أنه لا يصير محرما بمجرد التقليد. والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا مختلفين في هذه المسألة على ثلاثة أقاويل فمنهم من يقول إذا قلدها صار محرما، ومنهم من قال: إذا توجه في أثرها صار محرما ومنهم من قال: إذا أدركها فساقها صار محرما فأخذنا بالمتيقن من ذلك وقلنا إذا أدركها وساقها صار محرما لاتفاق الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه الحالة إلا في بدنة المتعة فإنه لا يصير محرما حتى يخرج على أثرها، وإن لم يدركها استحسانا، وفي القياس لا يصير محرما حتى يدركها فيسوقها كما في هدي التطوع، ولكنه استحسن، فقال: لهدي المتعة نوع اختصاص لبقاء الإحرام بسببه فإن المتمتع إذا ساق الهدي فليس له أن يتحلل من النسكين بخلاف ما إذا لم يسق الهدي وكما كان له نوع اختصاص ببقاء الإحرام فكذلك بابتداء الشروع في الإحرام لهدي المتعة نوع اختصاص، وذلك في أن يصير محرما بنفس التوجه، وإن لم يدرك الهدي بخلاف هدي التطوع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]