سِرُّ الإلحاح في الدعاء
د. مصطفى طاهر رضوان
قد يسأل السائل في حيرة قلبه:
لماذا الإلحاح في الدعاء وكلُّ شيء قد كُتِب وفرغ منه القلم في لوح القدر؟
الجواب: إن الدعاء في الطريق إلى الله ليس ترفًا للروح، ولا زيادةً عابرةً في رصيد الأعمال؛ بل هو سببٌ من أسباب الفيض الإلهي، جرى به قلم الحكمة كما جرى بكل سبب ومسبَّب، كما أن الأرض لا تهب زرعها إلا ببذرٍ وماء، وكما لا يأتي الولد إلا بنكاح، ولا يُنال الشبع إلا بأكل، كذلك لا تنفتح خزائن الرحمة إلا بمفاتيح الدعاء.
فإذا كان ظاهر الكون قائمًا على نظام الأسباب، فإن باطنه كذلك، والدعاء من أصفى تلك الأسباب وأعلاها قدرًا، ليس هو مجرَّد كلمات، بل هو جسرٌ يصل الأرض بالسماء، ونافذة ينفذ منها القلب إلى ملكوت الغيب، فإذا ولجها العبد بصدق، صارت من أعظم أبواب العطاء.
الإمام الغزالي رحمه الله ألقى قبسًا من هذا المعنى حين قال: «اعلم أن من جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لردِّ البلاء ووجود الرحمة، كما أن التُّرْس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء...»؛ إحياء علوم الدين (1/327)؛ فالقضاء عنده ليس جدارًا صلدًا ينغلق أمام العبد، بل هو بحر واسع تجري فيه أسباب، منها هذا التوسُّل الخاشع. ولو لم يكن في الدعاء إلا حضور القلب بين يدي مولاه، وشعوره بالافتقار المطلق إلى عطاء سيده، لكفاه شرفًا.
ويقول ابن القيم رحمه الله: «المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء... وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب»؛ الجواب الكافي (ص/9). فالدعاء في رؤيته ليس اعتراضًا على القدر، بل هو حركة من حركاته، جزء من خيوط النسيج الإلهي، جعله الله مفتاحًا لبعض عطاياه، كما جعل الطعام سببًا للشبع، والماء سببًا للري.
وهكذا، يتبيَّن أن الدعاء ليس لغزًا مع القدر، بل هو عينُ الانسجام معه؛ إنما هو تجلٍّ لرحمة الله، الذي قدَّر الحاجة وقدَّر معها باب السؤال، فصار العبد بالدعاء مشاركًا في نسج قدره، لا خارجًا عنه.
فما على المؤمن إذن إلا أن يطرق باب مولاه بلا مَلَل، ويُلِحُّ على ربِّه بلا كَلَل، واثقًا بأن كل دمعة في السجود، وكل أنين في الأسحار، وكل همسة استغاثة، هي مكتوبة عند الله، محفوظة لديه، يُظهر ثمرتها في الدنيا رحمةً ولطفًا، أو في الآخرة نورًا وأجرًا.
إن الدعاء بهذا المعنى مدرسة توحيدية، يُدرِّب العبد على أن يرى نفسه فقيرًا في كل حال، غنيًّا بربِّه في كل مآل، فلا يعتمد على حوله ولا قوَّته، بل يرى أن يد الله هي التي تفتح وتغلق، وتعطي وتمنع، وأن كل ما في الكون يجري على سنن الأسباب التي أرادها العزيز الوهَّاب.