عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم يوم أمس, 04:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقسيم المقاصد لدى علماء العصر الحديث



واذا كانت المقاصد السابقة وردت صراحة ونصًا في القرآن الكريم فهناك الكثيرة من المقاصد الشرعية التي وردت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم ودلت نصوصه عليها بالإيماء، والحق أن آيات القرآن لم تأتِ عبثًا، بل كلها مقاصد تصب في صلاح الدين والدنيا حتى ما جاء في القرآن من قصص، وإنما له دلالته في مقاصد الشريعة من ضرورة الإيمان والطاعة للخالق والتسليم له، بالإضافة إلى قيم تصلح بها الدنيا كالعدل والاستقامة والعمل وعمارة الأرض والهجرة في سبيل الله.

وكذلك الحال بالنسبة للسنة النبوية المطهرة فقد تنص صراحة على مقصد حفظ الدين بما ورد من حديث الرسول ﷺ.

فعلى سبيل المثال كان يقول ﷺ كذلك: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)[10]، ولمَّا سُئِلَ النبيُّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قال: “(إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)”، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: (الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: (حَجٌّ مَبْرُورٌ)[11].

وقوله ﷺ تأكيدًا على أهمية العمل بالكتاب: (الْمُؤْمِنُ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَالْمُؤْمِنُ الذي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا)[12].

ومقصد رفع الحرج والتيسير كمقصد عام للتيسير في إقامة العبادات وردت به العديد من الأحاديث مثلًا، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال قال رسول الله ﷺ: “يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا”.

عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي ﷺ، أنها قالت: “ما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما”… وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل.

وإذا كان هذا المقصد في حفظ الدين ورد صراحة أو ضمنًا في كتاب الله وسنة رسوله إلا أن الصحابة والسلف الصالح بادروا بتفعيل مقاصد حفظ الدين في حياتهم وأعمالهم، وظهر ذلك في مسألة جمع القرآن الكريم والخوف من ضياعه بموت الحفظة، لما استشعروا ضرورة جمع القرآن في مصحف واحد، حفظًا للقرآن، ومن ثم حفظ الدين.

وظهر مقصد حفظ الدين جليًا وراء قتال أبي بكر الصديق مانعي الزكاة وإقناعه للصحابة بهذا القتال عند تشاوره معهم؛ بقصد حفظ الدين والدولة الإسلامية، فلاشك أن انهيار الدولة هو انهيار للدين الإسلامي، وظهر أيضًا مقصد حفظ الدين في الأخذ بالخلافة واختيار أبى بكر وذلك لحفظ الدولة الإسلامية، وضمان وحدة الإسلام والمسلمين.

واستمر إدراك التابعين والسلف الصالح لأهمية مقاصد الشريعة، وأخصها مقصد حفظ الدين، فظهر ذلك فى ما فعله عمر بن عبد العزيز بإصدار أمر لوليّه بالمدينة بأن يدوِّن سُنة رسول الله ﷺ.

ففي صحيح البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم “انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ﷺ، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا”.

ولا شك أننا يتعين من وراء هذا المقصد أن ننظم كثيرًا من المسائل المتعلقة بحياتنا المعاصرة وسلوكياتنا وقوانينا التي من شأنها أن يقف وراءها مقصد إقامة الدين وحفظه، أن تأتي محققة لصالح المجتمع في دنياه وآخرته، ومنها مثلًا قواعد وقوانين النشر والإعلام بكل صورها كتابة أو من خلال الأجهزة المسموعة والمرئية، وكذلك النشر الرقمي ووضع ضوابط الآداب العامة للحفاظ على الدين من الانتهاك ومحاربة تفشي الرذائل وكل ما يلهي المسلم وخاصة الشباب عن إقامة الدين والعقيدة، ولا بد من وزن مستجدات العصر ومتغيرات واقع الأمة الإسلامية بميزان مقصد حفظ الدين منعًا لإباحة محرم أو إتيان معصية أو إهدار أحكام الدين من خلال ما تحوم حولنا من شبهات وأبواب تحتاج قبل الولوج منها لإنارة الطريق بمقصد حفظ الدين.
ثانيًا: مقاصد لإقامة الدنيا على الصلاح

إقامة الدنيا على الصلاح هو مقصد ضروري لا تتحقق الغاية من وجود الإنسان والحياة بدون تحقيقه، فغاية الوجود هو عبادة الله كما دلَّنا على ذلك القرآن الكريم، ومن هنا كان من الضروري أن تكون حياة المسلم ومعاشه منسجمة مع هذه الغاية، فأوامر الدين ونواهيه لا يحققها إلا الإنسان في حياة صالحة تستقيم على أركان الشرع ويتضح هذا المقصد جليًا في قوله تعالى:

﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: 162-163)

فإذا كانت الصلاة والنسك هي إقامة الدين فإن الحياة أيضًا يجب أن تكون على الصلاح لتكون لله رب العالمين، فهي لا تكون كذلك إلا بتحقيق كل المقاصد التي تكفل إقامة حياة المسلم على الاستقامة والطاعة للخالق، فالحياة هي ابتلاء من الخالق ليمتحن الخلق في دينهم.

وذلك بحسب قوله عز وجل:

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾* (الملك: 1-2)

ولذلك جاءت كثير من المقاصد الكلية أو العامة تصب في تحسين حياة المسلم لتصل إلى الصلاح والاستقامة، فمثلًا مقصد التيسير ودفع المشقة والتخفيف عن الناس، قال تعالى: “مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” (سورة الحج، آية ٧٨)، وقال تعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا” (سورة النساء، آية ٢٨). فهو وإن كان مقصدًا لحفظ الدين هو أيضًا مقصد لتحقيق حياة المسلم الصالح دون مشقة وعنت قد يدفعه لإفساد دينه وحياته معًا.

وعلى رأس المقاصد في هذا الصدد مقصد عمارة الأرض والذي يظهر جليًا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…﴾ [البقرة: 30].

وقوله تعالى: “وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً” (سورة النساء: 100)

وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129]

وقوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]

وقوله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ (محمد: 22)

“فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (سورة الجمعة: 10).

وكلها آيات تدل على مقصد الاستخلاف وعمارة الأرض، أي إقامة الحياة على الصلاح وفق الشريعة الإسلامية الغراء.

ثم يأتي مقصد حفظ النفس وهو من المقاصد الضرورية لإقامة الدنيا على الصلاح ويدل على ذلك قوله تعالى:

﴿…مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا…﴾ (المائدة: 32)

وكذلك مقصد حفظ المال في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29].

وقوله عز وجل: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء: 26-27].

وكذلك قوله جل وعلا: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67].

“وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (النساء: 5)

وفى تحريم الربا:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ…﴾ (البقرة: 278-279)

﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء: 29)

ولا شك أن المال هو أحد أهم مقومات الحياة والتي بها تتحقق قدرات الإنسان وحفظ المال كمقصد شرعي هو لإقامة حياة المسلم على صورتها المثلى ولتسخير هذا المال في تحقيق أغراض الدنيا والآخرة، فالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد مع عدم الإسراف والتبذير في قوله تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (الأعراف:31) هو من أغراض الدنيا، والإنفاق في سبيل الله هو من أغراض العبادة، ومن ثم فإن مقصد حفظ المال كما يكون لإقامة الدنيا فهو لإقامة الدين أيضًا.

ومن مقاصد إقامة الدنيا على الصلاح ما ورد في القرآن الكريم من آيات لتنظيم المعاملات بين المسلمين:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…” (البقرة: 282)

وهي أطول آيات القرآن الكريم وتضع تنظيمًا دقيقًا لمعاملات المسلمين المالية ومن ثم فكل ما يساهم في تنظيم وضبط المعاملات المالية إنما يندرج تحت مقصد حفظ المال.

بل هناك أيضًا تنظيم عام للعلاقة الحياتية وبين المسلمين وغير المسلمين لتكون المعاملات الحياتية وفق شرع الله قال تعالى:

“لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ…” (الممتحنة: 8-9)

ثم هناك العديد من الآيات القرآنية التي تدل على القيم الأخلاقية وهي كما تكفل إقامة الحياة على الصلاح، فهي أيضًا تساهم في تحقيق مقصد العبادة لأنها تصب في طاعة الخالق والأخذ بأوامره واجتناب نواهيه فالدين الإسلامي دين لا يمكن فصل جوانبه وأحكامه ولا حتى المقاصد الشرعية، فكل المقاصد التي تهدف للحفاظ على الإنسان أو ماله، فهي أيضًا تساهم وبالضرورة في حفظ الدين فالإنسان هو الأداة الفاعلة للعبادة وهو الملتزم بإقامتها والنهوض بها، ومن ناحية أخرى فإن الحفاظ على الدين سوف يؤدي للحفاظ على النفس والمال والعرض والتمسك بالأخلاق والعدل والتراحم والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أورد أوامره ونواهيه بقصد تحقيق هذه المقاصد فطاعة الله تحقق العبادة فتحفظ الدين وتقيم الدنيا على الصلاح وشرع الله.

وفي السنة النبوية سنجد نفس العناية بالمقاصد وتبدأ من المقاصد الكلية؛ حيث تصب في إقامة الحياة على الشرع والصلاح وذلك بعمران الأرض وتحقيق الاستخلاف على وجه الأمثل، سنجد أيضًا أحاديث نبوية تصب في حفظ المال والنفس ليقوم المسلم بما عليه من فروض وواجبات ويقوى على اجتناب المعاصي والمحرمات.

فقد بيّن الرسول ﷺ المقاصد العامة التي تكفل إقامة الحياة السوية على قيم الإسلام، من أهمها قول الرَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ”. وفي رواية: “صَالِحَ الْأَخْلَاقِ”.

ثم نص على تعمير الدنيا والعمل كمقصد هام لحياة المسلم وذلك يتضح من دلالة الحديث النبوي ومنها حديث الفسيلة، حيث قال الرسول ﷺ: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها.”

وقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ. قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ. قِيلَ: لَهُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ الْخَيْرِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ.”[13]

وهناك العديد من الأحاديث التي تصب في القيم الأخلاقية وتبني سلوك المسلم وكلها تقوم على مقصد إقامة الدنيا بمقتضى الاستخلاف الذي أنعم الله به على الإنسان، والذي يجب أن يكون استخلافًا يقوم على الصلاح بمطابقته لأحكام الشريعة، مثل قول الرسول ﷺ: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء.”[14] وحديث: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.”[15] وحديث: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”[16].

وكما عُنيت السنة بالمقاصد الكلية، فهناك أيضًا العديد من المقاصد الجزئية يمكن استخلاصها من صراحة ألفاظ الأحاديث أو بدلالة المضمون على علل الأحكام الجزئية بوضوح، وقد ذكر النبي ﷺ علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها؛ ليدل على ارتباطها بها، كقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ}[17]، وكقوله: {إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ}، ذكره تعليلًا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وقوله ﷺ وقد سُئل عن بيع الرطب بالتمر: “أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟” قالوا نعم، فنهى عنه. وقوله: {فَلَا يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ}[18] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ}[19]، وقوله في ابنة حمزة: {إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ}[20] وكلها مقاصد جزئية دلت عليها السنة بألفاظ صريحة وتعليل واضح للحكم الشرعي.

وكذلك وردت في السنة مقاصد خاصة كمقصد الرحمة بخلق الله وعمل الخير، كما قال النبي ﷺ: (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فإنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)[21]. وقد يدل الحديث بمضمونه ومعناه على المقصد، كمقصد حفظ العِرض كقول رسول الله ﷺ: “إنما جعل الإذن من أجل البصر” وقوله ﷺ: “إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع”[22].

ولم يغب عن الصحابة استلهام مقصد إقامة الدنيا على شرع الله وتحقيق الصلاح، ومن ذلك؛ ولما ذم رجل الدنيا عند علي رضي الله عنه، قال له علي رضي الله عنه: “الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، مهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، فاكتسبوا فيها الجنة.” وهذا فهم عام وشامل لمقصد إقامة الدنيا على الصلاح ثم ظهر هذا المقصد في العديد والعديد من أفعال المسلمين وما استخرجوه من أحكام لتسير الدنيا على الصلاح وتطابق شرع الله فتتحقق بحياة المسلم غرض الخلافة لله وهو العبادة. ومن أمثلة ذلك بوضوح ما قام به عمر بن الخطاب ـرضي الله عنه اذ أراد أن يقسم أراضي الفتوحات في العراق والشام بين المسلمين جميعًا، فاعترضه بعض الصحابة، بناء على تقسيم الرسول ﷺ أرض خيبر على المجاهدين فقط، فعارضه معاذ بن جبل موضحًا رأيه فقال: “والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدًا، وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم”.

لقد رأى معاذ رضي الله عنه أن قسمة الأراضي على المجاهدين ستؤدي إلى احتكار قلة وسيتضرر باقي المسلمين وقد أخذ عمر بهذا الرأي.

ثم قال لهم: “إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه، وإني قد قرأت آيات من كتاب الله سمعت الله يقول:

(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى…)

(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ…)

(وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ…)

(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)

والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال – أُعطي منه أو مُنع – حتى راعٍ بِعَدن”

قال عمر: “لولا من يأتي من آخر الناس ما حسنةُ قريةٍ إلا قسمتها، كما قسم رسول الله ﷺ خيبر”.

فأدرك عمر أن قسمة الرسول تكون بما يحقق صلاح أحوال المسلمين ومصلحتهم العامة بأن تكون للجميع دون فئة منهم.

وظهر إدراك عمر لمقصد حفظ أموال المسلمين أيضًا في وقف سهم المؤلفة قلوبهم، فقد قال عمر بن الخطاب: “إن الله أعز الإسلام وليس اليوم مؤلفة” وهنا يكون المقصد هو حفظ أموال المسلمين وعدم صرفه فيما لا ضرورة إليه.

وكذلك وقف حد السرقة في عام الرمادة وفي وقت الغزو، وكان القصد هو الحفاظ على أمن المجتمع وسلامته وتحقيق السكينة العامة، وكذلك فيما انتهى إليه من إيقاع الطلاق بالثلاث كثلاث طلقات، والقصد الحفاظ على الأسرة المسلمة فضلًا عن ردع المستهترين بأحكام الشريعة، ومن الأمور التي أخذ بها المسلمون فهمًا لمقصد حفظ النفس القصاص من الجماعة بالواحد، وظهر أيضًا حفظ الدولة بما يحفظ الإسلام وتستقيم حياة الناس به وتنتظم معيشتهم دون إخلال أو عنت بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وزيادة أعداد المسلمين، فكان الأخذ بالتاريخ الهجري وتنظيم شئون الدولة بإنشاء الدواوين وبوضع السجلات وتنظيم ما يعرف الآن بالمرافق العامة وأجهزة الدولة وإدارتها مثل ضبط الأسواق والتسعير، ثم إنشاء نظام الشرطة في عهد عثمان، وكلها إما متغيرات تفشت في المجتمع مثل انتشار الطلاق وقتل المجموعة لواحد، أو مستحدثات مثل الحاجة للتنظيم الحياة، وضبط الأحكام الشرعية لهذه المستحدثات أو المستجدات، فكان للمقاصد دورها الفاعل لتغير الحكم الشرعي أو استحداث أحكام تتفق وقواعد الشريعة الكلية وتصب في إقامة الحياة على الشرع والصلاح وذلك بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

ومما لا ريب فيه أن عصرنا الراهن ذا الإيقاع السريع والحركة الدائبة التي لا تتوقف والتطور الهائل في كافة المناحي والمجالات العلمية والعملية والاجتماعية بل والعلاقات بين الدولة والمنظمات وغيرها كلها، إما أنه يغير من بيئة تطبيق الحكم الشرعي، وهنا يمكن استلهام الحكم الذي يتوافق مع البيئة من خلال نظرية المقاصد دون إهدار للشريعة، كزكاة الفطر في بلد لا توجد به حبوب أو غلال أو زراعة وهذا أبسط نموذج ثم تأتي المستجدات التي تتوالى بصورة يصعب ملاحقتها وحصرها وهي تقتضى إنشاء أحكام جديدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر أطفال الأنابيب والحمل خارج الرحم والاحتفاظ بمني الرجل أو بويضة المرأة ونقل الأعضاء والجرائم الإلكترونية والعلاقات بين الدول الإسلامية والمنظمات غير الإسلامية وبينها وبين الدول غير الإسلامية وشكل العلاقة في حالات السلم والحروب وغيرها وغيرها. لا بد من النظر لنظرية المقاصد كضرورة ورافد هام ومعين لا ينضب لتمكين الفقه الإسلامى والشريعة من مواكبة حاضر المسلمين ومستقبلهم دون تحريف أو تبديد أو تفريط في الشريعة وأركانها وقيم الإسلام وركائزه الأخلاقية في بناء أمة الإسلام؛ لتكون خير أمة أخرجت للناس، تحقيقًا لقوله تعالى:

“كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ…” (آل عمران: 110)

ولقد أحسن التعبير عن ذلك كله الإمام الغزالي فيقول رحمة الله عليه: “إنها المصلحة التي سكتت شواهد الشرع ونصوصه عنها فلا يناقضها نص ولا يشهد لجنسها شرع ويتضمن اتباعها إحداث أمر لا عهد بمثله في الشرع”[23].

ولكن هذا التعريف يجب أن يكتمل بعد عبارة “ويتضمن اتباعها إحداث أمر لا عهد للشرع بمثله”، فيضاف عليه: “ولوضعها موضع الاعتبار يشترط ألا يترتب على الأمر المحدث إهدار أي من الكليات الخمس؛ الدين والنفس والعقل والنسل والمال وما يعد من لوازمها”.

وهذه المقاصد من الأهمية في زماننا الحالي بمكانة بالغة، إذ أن ما تغير من أحوال المسلمين وما أحاط بهم من ظروف بدينهم ودنياهم من شأنها أن تؤثر على الأقل في كيفية ممارسة أركان الإسلام وإقامة شعائره، والأمثلة عديدة على المتغير من أحوال المسلمين.

أما المستجد من أحوال المسلمين، فقد وسع واتسع بصورة غير منكورة وأصبح من اللازم مسايرته بالحكم الشرعي وإلا تعطلت مصالح الخلق وتوقفت دنياهم ويئسوا من دينهم، والعياذ بالله، فالمصالح التي تقف وراء إقرار مشروعية هذه المستجدات أو العكس هي نطاق عمل الفقه المعاصر وموقع التطوير المنضبط لا التبديل المنحرف، فلابد من استلهام المقاصد المستقيمة على الشرع لا المهترئة التي تهدر الدنيا والدين معًا.

[1] مدخل إلى مقاصد الشريعة، د. أحمد الريسوني، دار الكلمة، الطبعة الأولى، 2010م: ص 13 وما بعدها.
[2] قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، العز بن عبد السلام، تحقيق: نزيه كمال حماد، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 2000م: ج 1، ص 59.
[3] المرجع السابق: ص 60.
[4] تعليل الأحكام، د. مصطفى شلبي، (رسالة دكتوراه)، دار النهضة، بيروت، الطبعة الثانية: ص 282.
[5] شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، أبو حامد الغزالي، تحقيق: د. حمد الكبيسي، (رسالة دكتوراه في الأزهر)، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1971م: ص 207.
[6] مقاصد الشريعة، د. عمر محمد جبه جي، (بحث مشار إليه كمرجع سابق): ص 199 إلى 267.
[7] مقاصد الشريعة، د. عمر محمد جبه جي، (بحث مشار إليه كمرجع سابق): ص 199 إلى 267.
[8] فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 6، ص 664.
[9] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت: ج 4، ص 325، حديث رقم 2018.
[10] فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 1، ص 94.
[11] فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 1، ص 94.
[12] فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 8، ص 719.
[13] صحيح مسلم بشرح النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، دار الخير، 1416هـ / 1996م: ج 7، ص 78، حديث رقم 1008.
[14] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت: ج 4، ص 16، حديث رقم 1409.
[15] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت: ج 5، ص 205، حديث رقم 2989.
[16] المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، مكتبة المعارف، 1405هـ / 1985م: ج 1، ص 492، حديث رقم 901.
[17] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت: ج 5، ص 61، حديث رقم 2709.
[18] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت: ج 5، ص 118، حديث رقم 2825.
[19] فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 9، ص 571، حديث رقم 5208.
[20] مسند الإمام أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل، دار إحياء التراث العربي، 1414هـ / 1993م: ج 1، ص 329، حديث رقم 3035.
[21] صحيح مسلم بشرح النووي: ج 16، ص 75، حديث رقم 2543.
[22] فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 11، ص 29، حديث رقم 5891.
[23] شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، أبو حامد الغزالي، تحقيق: د. حمد الكبيسي، (رسالة دكتوراه في الأزهر)، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1971م: ص 207.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]