عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-12-2025, 05:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,154
الدولة : Egypt
افتراضي الأمل والعمل بين اليقين والزهد

الأمل والعمل بين اليقين والزهد

عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا تزول نِعمَه، ولا تنفد خزائنه، ولا يخيب من أقبل عليه راجيًا فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الدنيا دارَ ممرٍّ لا مقر، وابتلى فيها عباده ليبلوهم أيهم أحسن عملًا.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أزهد الناس في دنياهم، وأيقنهم بلقاء ربهم، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فإن التقوى زاد المؤمنين، ورفيقهم في طريق الآخرة، ومن اتقى الله كفاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن صدق معه أغناه.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلِك آخرها بالبخل والأمل))؛ [رواه أحمد في «الزهد»، والطبراني، وهو في «صحيح الجامع»].

فما أعجب هذا الحديث! يجمع بين طرفي الطريق الذي تسير فيه القلوب: يقين يثبتها على الطاعة، وزهد يصونها عن الدنيا، وبين أمل إذا طال أضاع العمر، وبخل إذا تمكَّن قَتَلَ الرحمة والإحسان.

حديث وجيز الألفاظ، عظيم المعاني، جمع بين سرِّ فلاح الأولين، وسبب هلاك المتأخرين.

فأما الأوائل فقد صلحت قلوبهم بالزهد في الدنيا، فلم تغرَّهم قصورها ولا أموالها، كانوا يرَون الدنيا وسيلةً لا غايةً، وسفينةً لا ميناء، عرفوا حقيقتها فزهدوا فيها، وركنوا إلى ما عند الله يقينًا لا يشوبه شكٌّ، ففتح الله لهم الأرض شرقًا وغربًا، وجعل الرزق يأتيهم من حيث لا يحتسبون، لا لأنهم طلبوا الدنيا، ولكن لأنها أتتهم وهي راغمة، فملكوا قلوبها ولم تملك قلوبهم.

زهدوا فارتفعت منزلتهم، وأيقنوا فاطمأنت قلوبهم.

فمن عرف أن رزقه مكتوب، وأن أجله محدود، وأن ما عند الله خير وأبقى، عاش مطمئنًّا لا يحسد أحدًا، ولا يأسى على فوات شيء، ولا يرهقه طمع ولا خوف.

أما آخر الأمة، فيهلكها البخل وطول الأمل؛ بخل يقيد الأيدي عن العطاء، ويُغلِّف القلوب عن الرحمة، وطول أمل يُنسي الموت ويؤجِّل التوبة، فيعيش المرء كأنه خالد لا يُبعث، فيجمع المال ويضيع العمر، حتى إذا جاءه الأجل قال: ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24].

قال الإمام المناوي رحمه الله: "صلاح الأوائل بالزهد واليقين؛ لأنهما يثمران الشكر والإخلاص، والتواضع والتفويض لله، فيتولاهم الله بعنايته.

وأما هلاك الآخرين فبالبخل وطول الأمل؛ إذ هما ثمرة ضعف اليقين وسوء الظن بالله، فإذا ساء ظنهم بربهم بخلوا، وإذا رغبوا في الدنيا طال أملهم، فيُلهيهم الشيطان حتى يغرهم الأماني".

يا عباد الله، الجاهل يعتمد على الأمل، والعاقل يعتمد على العمل، وطول الأمل سراب خادع، يغري من رآه، ويخيب من رجاه.

من قصر أمله رقَّ قلبه، وأقبل على الطاعة، ورضيَ بالقليل، واستعد للرحيل، ومن طال أمله قسا قلبه، وسها عن الموت، وغفل عن الآخرة، وأُلهيَ بزخرف الدنيا حتى يدركه الأجل بغتةً.

إن الأمل فطرة أودعها الله في الإنسان، بها يعيش ويصبر ويعمل، فهي قوة دافعة تبعث في القلب حياةً، وفي الجسد نشاطًا، تدفع الكسول إلى الجد، والمُخفق إلى إعادة المحاولة، والناجح إلى مضاعفة الجهد، والمؤمن إلى الطاعة؛ رجاءَ رضوان الله وجنته.

ولولا الأمل - عباد الله - لشقَّ علينا العمل، ولتوقفت عجلة الحياة، فهو الذي يلهم الطبيب علاج مريضه، ويبعث الطالب على الجِد في دراسته، ويقوي المؤمن على مخالفة هواه طمعًا في رضا مولاه.

ولكن المتأمل في كتاب الله يجد أن الأمل ليس محمودًا على إطلاقه، بل قد يُذم إذا تجاوز حده؛ قال تعالى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].

أملٌ شغلهم عن العمل، وألهاهم عن الغاية، وأعمى قلوبهم عن الآخرة، فكان وبالًا عليهم.

ثم جاء الميزان القرآني العادل؛ فقال سبحانه: ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

فصار الأمل المحمود هو ما اقترن بالعمل الصالح، لا بالأماني الكاذبة.

قال الحسن البصري رحمه الله: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل».

أيها المؤمنون:
إن طول الأمل يجر إلى التسويف، وتأخير التوبة، وإهمال الواجبات، حتى يطوي الإنسان عمره وهو يردد: «سأتوب غدًا»، «وسأعمل غدًا»، حتى يُطوى سجله ولم يعمل شيئًا.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل))؛ [متفق عليه].

فاحذروا طول الأمل؛ فإنه يسرق الأعمار، ويُميت الهِمم، ويُلهي عن الاستعداد للقاء الله جل وعلا.

ماذا يغرك من دنيا نضارتها
نهب المنون ومجراها إلى الزلل
قالوا دسائسها في طي زخرفها
وقلت قد صرحت بالسم في العسل


اللهم أيقظ قلوبنا من سبات الأمل الطويل، وبلغنا من اليقين ما يعجِّل التوبة، ويُحيي الهمة، ويزيح الغفلة عن طريقنا إليك.

﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3].

فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على نِعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم سلامًا كثيرًا؛ أما بعد أيها الأحبة في الله:
فإن الأمل بغير عمل مجرد أمانيَّ كاذبة، ووعد زائف، وجهل مردود على صاحبه، لا يجني منه إلا خيبة القلب وحسرة العمر.

قال تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123].

فمن أراد النجاح فليعمل له، ومن أراد الجنة فليُطع ربه، ومن أراد الرزق فليأخذ بالأسباب، ومن أراد الفرج فليطرق أبواب الدعاء بعد بذل الجهد.

ولقد قال الشاعر:
لقد كذب الآمال من كان كسلانًا
وأجدر بالأحلام من بات وسنانا
ومن لم يعانِ الجِدَّ في كل أمره
رأى كل أمر في العواقب خذلانا


الأمل الحق - يا عباد الله - هو ما كان معقودًا بالله، مقرونًا بالصبر والعمل الصالح.

فانظروا إلى نبي الله يعقوب عليه السلام، كيف ظل متمسكًا بحبل الأمل رغم فراق يوسف السنين الطوال، يقول لبنيه: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

فالأمل ملازم للإيمان، كما أن اليأس قرين الكفر.

فالمؤمن لا ييأس لأنه يعلم أن ربَّه رحيم قدير، وأن بعد العسر يسرًا، وبعد البلاء فَرَجًا.

أيها الأحبة: عيشوا بالأمل لا بالتمني، وبالعمل لا بالأوهام، وعلقوا قلوبكم بالله لا بالدنيا، واعمروا أوقاتكم بما يُرضيه،
فإن الأمل الصادق ما كان لله وفي الله، وأما أمل الغافلين فسرابٌ يبدِّد الأعمار بلا ثمرة.

وقد قيل:
إنا وفي آمالنا طول
وفي أعمارنا قصر




وقد قيل:
لنا في الدهر آمال طوال
نرجِّيها وأعمار قصار




فتأملوا - رحمكم الله - كم من أمل طُوِيَ قبل أن يتحقق! وكم من إنسان نام على أمل واستيقظ على أجَلٍ!

قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].

ولكم أن تتأملوا هذا الشعر الحكيم الذي يلخص حقيقة الأمل الصادق والزائف:
إذا عجز الإنسان حتى عن البكا
فقد بات محسودًا على الموت نائلُه
وإنك بين اثنين فاختَرْ ولا تكُنْ
كمن أوقعته في الهلاك حبائلُه
فمن أملٍ يفنى ليسلم ربه
ومن أمل يبقى ليهلك آملُه
فكن قاتلَ الآمال أو كن قتيلَها
تساوى الردى يا صاحبي وبدائله


فلنكن - عباد الله - من الزاهدين الصادقين، الذين يرون الدنيا دار عمل لا دار أمل، ويجعلونها طريقًا إلى الآخرة لا حجابًا عنها.

ولنجدد يقيننا بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن ما عند الله خير وأبقى، وأن ما فُقد من الدنيا لا ينقص من رزقٍ قد كُتب، ولا يُؤخر أجلًا قد قُدر.

اللهم اجعل آمالنا في طاعتك، وأعمالنا خالصةً لوجهك، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ووفقنا لعمل صالح يقربنا من رضوانك وجنتك.

اللهم أصلح قلوبنا، وجمِّلها بالأمل الصادق، والإيمان الراسخ، والعمل النافع، واجعلنا من الذين لا ييئسون من روحك، ولا يركنون إلى غيرك.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.39%)]