واضح أن الحركة الفكرية اكتسبت في الأوساط اليهودية الأوروبية زخما كبيرا في القرن التاسع عشر وامتدت عبر القرن العشرين. تنوعت الأفكار حول طرق حل المشكلة اليهودية المتمثلة بالاضطهاد وتعددت، لكنه من الممكن تلخيصها في الاتجاهات التالية:
أولا: الاتجاه الاندماجي
طرح أصحاب هذا الاتجاه فكرة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية والعيش في المجتمع الأوسع. أي أن يخرج اليهودي من الغيتو ويبحث لنفسه عن مكان بين الناس ويصبح فردا عاديا كما الآخرين دون تمييز. جادل هؤلاء بأن الاندماج يلغي وجود عنوان لليهود يكون هدفا للهجوم ويتحول اليهود عموما إلى أفراد عاديين يصعب تمييزهم أو الحقد عليهم بصورة جماعية. لكن هذا الجدل وجد معارضة شديدة من قبل رجال الدين الذين قالوا أن هذه الأفكار تذيب المجتمع اليهودي ومن المحتمل أن تلغي الديانة اليهودية برمتها.
ثانيا: الاتجاه التحرري
لم يوافق أصحاب هذا الاتجاه على الاندماج لما فيه من إلغاء للهوية والثقافة وإنما رأوا ضرورة الانفتاح على المجتمع الأوسع والمشاركة في النشاطات العمة وإقامة العلاقات الاجتماعية الواسعة مع عموم الناس. رأوا أن المشاركة في المناسبات العامة ضرورية كما أن فتح الأبواب اليهودية أمام المسيحيين للتفاعل الاجتماعي حيوي أيضا لما في ذلك من تأليف للقلوب وإزالة انطباعات سلبية مسبقة. لكن هذا الطرح لم يحظ أيضا بموافقة رجال الدين خوفا على انبهار البعض بالمجتمع الأوسع مما قد يؤدي إلى رحيل متزايد عن المجتمع اليهودي وإلى زيجات متبادلة تتناقض مع المبادئ اليهودية.
ثالثا: الاتجاه القومي
قال أصحاب هذا التيار أن الحل الوحيد أمام اليهود هو البحث عن وطن قومي يكون لهم بعيدا عن القوميات الأخرى. وقد حاز هذا على موافقة وتشجيع رجال الدين الذين حرصوا على التأكيد بأن فلسطين هي الموقع المطلوب. انصب اهتمام كبير على هذا الاتجاه والذي أخذ يكتسب قوة مع مرور الأيام. تبنى العديد من الكتاب والمفكرين هذا الاتجاه وساهموا في بناء رأي عام في أوساط اليهود يتبنى الفكرة. علما أن كتابا مسيحيين من إنكلترا وفرنسا وغيرهما تبنوا الفكرة أيضا وروجوا لها.
أسباب الهجرة اليهودية إلى فلسطين:
اختار أغلب اليهود من الناس العاديين أو من صناع الرأي فلسطين كوطن قومي مرشح لهم. شذ بعضهم عن هذا التوجه إلا أنهم لم يشكلوا تيارا قويا يؤثر على الرؤية العامة. لماذا فلسطين؟ فيما يلي تلخيص لأهم الأسباب:
أولا: يعتقد أغلب اليهود أنهم يرتبطون تاريخيا ودينيا بأرض فلسطين التاريخية (وليس الانتدابية القائمة حاليا) التي يعتبرونها الأرض المقدسة، أرض الآباء والأجداد التي وعدها الرب لموسى عليه السلام. تركز التوراة التي بين أيديهم على أهمية هذه الأرض بالنسبة لليهودي وتقول بأن اليهودي الجيد يسعى دائما أن يعيش في الأرض المقدسة وأن يموت فيها، وأن كل يهودي يموت خارجها إنما لم يحي حياة يهودية قويمة. ما ينطبق على الأرض المقدسة من تبجيل وتمجيد ينطبق وبصورة أكثر حدة على أور سالم، القدس. وهذا بالتحديد ما يفسر هجرة بعض اليهود عبر القرون على أسس فردية إلى فلسطين. بلغ هؤلاء درجة كبيرة من التدين بحيث لم يطيقوا الحياة بعيدة عن الأرض المقدسة. وقد زاد عدد هؤلاء إلى درجة أنهم شكلوا بؤرا شبه استيطانية في مدن مثل القدس وصفد ويافا.
يركز التدريس الديني اليهودي كثيرا على الأرض المقدسة بحيث أن الالتصاق بها عبارة عن جزء من صلب العقيدة ومن جوهر الثقافة. ينشأ اليهودي على تعاليم كثيرة تزرع فيه حب الأرض المقدسة والشوق إليها والإقامة فيها. إنها تعمل على ترسيخ فكرة ملكيته لها، وحسب النبوءات الواردة فيها تولد لديه القناعة بأنه سيعود إليها يوما. الأرض ملك لليهود، حسب التعاليم اليهودية، وأن المقيمين فيها عبر القرون ليسوا إلا مجرد أمناء عليها ومستثمرين وأن عليهم تسليمها لأصحابها حينما يعودون. هذه تعاليم تولد قناعات تجعل من اليهودي بخاصة المتدين على علاقة ولو روحية مع الأرض المقدسة. ليس شرطا أن تكون هذه القناعات نشطة على الدوام في تحريك الهمم نحو التنفيذ، لكنها تبقى عنصرا هاما وأساسيا في دعم عناصر أخرى قد تطرأ.
ثانيا: الاضطهاد :
الاضطهاد عبارة عن عامل قوي يدفع المرء باتجاه البحث عن حلول لما يعترض طريقه ويسمم عليه حياته. وعلى الرغم من قوة التثقيف الديني لدى اليهود حول الأرض المقدسة، إلا أن الاضطهاد يعتبر العامل الأقوى في المرحلة التاريخية التي تعنينا في دفع اليهود نحو الهجرة إلى فلسطين. فإذا كان العامل الديني كامنا أو محددا لأبعاد ثقافية أتى الاضطهاد ليخرجه من مكمنه أو ليفعله عمليا. حياة الاضطهاد لا تطاق ودفعت اليهود نحو التفكير بالوطن القومي أو الملجأ فكانت الأرض المقدسة أول قطعة أرض تقفز إلى الأذهان.
ثالثا: الاستعمار
نشطت حركة الاستعمار في تلك الفترة وشكلت بعدا تنافسيا بين الدول الأوروبية عموما. لم تكن فكرة استعمار بلاد في آسيا وأفريقيا عارا في تلك الفترة بل كانت مصدر فخار ومباهاة بين الدول ودليلا على العظمة والقوة. غزت الدول الأوروبية العديد من المناطق وطوعت أهلها ونهبت ثرواتها مما انعكس إيجابا على الأوضاع الاقتصادية. وحيث أن النهم الاستعماري كان سائدا وجزءا من ثقافة محببة فإن اليهود لم يجدوا ما يجعلهم يترددون في طلب السيطرة على بلاد بعيدة. إنه معترك استعماري وجد اليهود أنه من المهم الاستفادة منه.
رابعا: حركة القومية
انتعشت الحركة القومية في أوروبا عبر قرون إلى درجة أن دولة القومية أخذت تحتل موقعا مقدسا في التفكير السياسي الأوروبي. إقامة دولة القومية أصبحت غاية المنى على المستويين الفردي والجماعي، وأصبحت درجة الانتماء تقاس بدرجة الإصرار على إقامة الدولة وعلى رفعة القومية على القوميات الأخرى. بالنسبة لليهود سادت المقولة بأنه إذا كان لللإنكليز إنكلترا وللفرنساويين فرنسا فيجب أن يكون لليهود يهودا. وإذا كانت أوروبا ذات قوميات فإن اليهود عبارة عن قومية يعيشون على أراض غريبة. لتكن لكل قومية أرضها الخاصة، وبالتالي ليكن ليعد اليهود إلى أرض الأجداد. وبالطبع لقي هذا الطرح أذنا صاغية لدى الأوروبيين الذين رغبوا أيضا في التخلص من اليهود وتصدير مشكلتهم إلى بلاد أخرى.
خامسا: الثورة الفرنسية
تأثر اليهود بمبادئ الثورة الفرنسية واستفادوا منها لحل مشاكلهم الخاصة. أتت الثورة بمبادئ المساواة والحرية والإخاء والتي تشكل قواعد أساسية في بحث اليهود عن الخلاص من الاضطهاد. ولهذا أيدوا الثورة ووظفوا طاقاتهم في سبيل الترويج لما تطرحه. أضف إلى ذلك أن نابليون نفسه تحدث عن مأساة اليهود ودعا إلى عودتهم إلى الأرض المقدسة تحقيقا لنبوءة العهد القديم (التوراة) وطمعا في مساعدته في تحقيق طموحاته الاستعمارية في الشرق.
سادسا: تقسيم بولندا
أدى تقسيم بولندا عام 1795 إلى خضوع عدد كبير من اليهود لروسيا القيصرية. قضى هذا الحدث على ما كان يتمتع به اليهود من حرية في الحركة والعمل وحشد الطاقات اليهودية في بولندا، وحول اليهود إلى حكم طغاة أدت سياساتهم إلى مجازر مرعبة قام بها الروس ضد التجمعات اليهودية
|