التحالف الصهيوني الاستعماري
بسبب فشله مع السلطان العثماني توجه هرتسل إلى الدول الاستعمارية الأوروبية الرئيسة حينئذ لطلب التأييد وتبني فكرة إقامة الوطن القومي اليهودي. لم تكن فرنسا وبريطانيا بعيدتان عن المشروع القومي بخاصة أن قادة سياسة وفكر من الدولتين سبق أن عبروا عن آرائهم بضرورة هجرة اليهود إلى الأرض المقدسة. توفر لدى البعض حماس للفكرة بسبب التراث المسيحي الأوروبي-اليهودي الذي يتنبأ بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة، لكن الأهم من ذلك هو المصالح الاستعمارية التي كانت تسيطر على معظم الدول الأوروبية.
وجد هرتسل آذانا صاغية في الدول الاستعمارية لكن الوقت لم يكن مناسبا للمبادرة بشيء سواء على المستوى القانوني أو السياسي. ولكن نتيجة لذلك على الحركة الصهيونية أن تنتظر البيئة المناسبة لاتخاذ خطوات عملية من قبل هذه الدول والتي توفرت في المراحل الأخيرة للحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من عدم قدرة الحركة الصهيونية على انتزاع اعتراف علني بحق اليهود في الهجرة إلى فلسطين إلا أن الصهيونيين العمليين استمروا في الهجرة وإقامة المستوطنات. تبين الخريطة رقم (5) المستوطنات التي تم بناؤها مباشرة بعد قيام الحركة الصهيونية.
حصل تطور كبير في جهود الصهاينة عام 1917 عندما وجه وزير خارجية بريطاني آرثر بلفور رسالة إلى روتشيلد الفرنساوي باسم الحكومة البريطانية عبر فيها عن تعاطفه مع اليهود في بحثهم عن وطن قومي في فلسطين. وفيما يلي النص الحرفي لهذه الرسالة المؤرخة 2/تشرين ثاني، نوفمبر/1917 والمنشورة في الصحف البريطانية في 9/تشرين ثاني من العام نفسه:
عزيزي اللورد روتشيلد،
يسعدني كثيرا أن أنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي تعاطفا مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء.
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل ما في وسعها لتسهيل تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهوما بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين أو بالحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى.
إني أكون مدينا لكم بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني.
المخلص
آرثر بلفور
بعد صدور هذا التصريح بفترة وجيزة كانت الجيوش البريطانية بقيادة اللواء اللنبي تدخل فلسطين من جهة سيناء وذلك بتاريخ 29/كانون أول، ديسمبر/ 1947، وعلى الفور باشرت بريطانيا بالتنفيذ.
ملاحظات على التصريح
أولا: التصريح ليس مجرد تعاطف كما قد يظن القارئ للوهلة الأولى. إنه تعاطف مصحوب بوعد للعمل نحو تحقيق الغاية. أي أن بريطانيا ستتخذ إجراءات عملية وستأخذ على عاتقها ولو جزئيا تسهيل مهمة اليهود.
ثانيا: يسري التصريح البريطاني على فلسطين التي لم تكن محددة. هناك أرض كنعان أو فلسطين التاريخية ذات البعد التاريخي وليس البعد السياسي المحدد والتي هي جزء لا يتجزأ من أرض الشام. لم يحدد التصريح عن أي فلسطين يتحدث وتم ترك الأمور للمداولات السياسية فيما بعد.
ثالثا: تعامل التصريح مع اليهود على أنهم أصحاب الديار الفلسطينية وكأنهم يشكلون أغلبية سكانها، وتعامل مع المواطنين على أنهم طوائف وكأنهم طارئين على البلاد. هذا منطق لا يستقيم مع الأبعاد القانونية والسياسية والأخلاقية والتاريخية، ولا يتماشى إلا مع شرعة غاب تتطلع إلى القوة كأساس في إقامة العلاقات مع الآخرين.
رابعا: لم يتعامل التصريح مع العرب مسلمين ومسيحيين على أنهم مواطنون وإنما وصفهم بالمقيمين في فلسطين وكأنهم طارئين أتت بهم الصدفة.
خامسا: تجاهل التصريح الحقوق السياسية لمن وصفهم بالطوائف وحرص فقط على الحقوق المدنية مثل الحق في التعليم والحقوق الدينية مثل ممارسة الشعائر. أي أن التصريح لا يرى بأن هؤلاء الناس يستحقون كيانا سياسيا وإنما نوعا من مراعاة بعض شؤونهم اليومية.
أسباب تصريح بلفور
تعدد المصادر أسبابا عدة وراء إصدار بريطانيا للتصريح وتبني فكرة الوطن القومي اليهودي. من هذه الأسباب ما هو شائع ويصعب الأخذ به ومنها ما هو غير شائع. أذكر أولا بعض الأسباب الشائعة مع التعليق عليها:
أولا: الشفقة على اليهود. تبادر أغلب المصادر إلى ذكر عنصر الشفقة كسبب أول للتعاطف مع اليهود فتقول أن بريطانيا وعموم الدول الأوروبية كانت حزينة للأوضاع التي عاشها اليهود والمعاناة التي لاقوها بسبب الاضطهاد والملاحقات المستمرة، ولهذا أيدت إقامة الوطن القومي اليهودي علّ في ذلك ما يحل المشكلة اليهودية.
هذا سبب لا يقبله منطق ولا يتوافق مع أفعال الأوروبيين تجاه اليهود أو الفلسطينيين. إذا أراد شخص أو دولة أن يشفق على أحد أو جماعة فإنه يفعل ذلك على حسابه الخاص وليس على حساب الآخرين. لا يستطيع المرء أن يكون كريما على حساب الغير، أو أن يدعي العطف دون أن يملأ قلبه بالحب. وإذا أرادت بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا أن تعطف على اليهود فإنه كان الأولى أن تعمل كل منها على حمايتهم من الأذى داخل حدودها وأن تمنحهم الحقوق الإنسانية التي يجب أن تتوفر لكل إنسان. وكان بإمكان كل منها أن تمنحهم قطعة أرض من أراضيها. وإذا توفر العطف فعلا فإنه لا يمكن حل مشكلة أناس على حساب شعب آخر. هل من الممكن أن يقبل العطوف تهجير شعب وطرده من ممتلكاته من أجل أن يحل مشكلة آخرين؟
هذا ومن الملاحظ تناقض الأوروبيين والأمريكيين عندما يعللون تعاطفهم مع اليهود بناء على ما فعله هتلر ضد اليهود. والحق أن تصريح بلفور صدر قبل فترة طويلة من اعتلاء هتلر لسدة الحكم.
ثانيا: مكافأة وايزمان على اختراعه لنوع من المتفجرات أفاد الحلفاء في حربهم ضد المحور. صحيح أن الدول تكافئ المخترعين والمبدعين، لكن هل تصل المكافأة إلى درجة منح وطن قومي أو دولة وعلى حساب شعب آخر؟ من المفهوم أن يُعطى المخترع مبلغا من المال وبعض الهدايا الثمينة، أو أن يعطى راتبا معتبرا مدى الحياة أو يمنح بيتا ريفيا جميلا، لكنه من الصعب استيعاب مكافأة تشبه الخيال.
إنما ليس من المستبعد أن وايزمان قد تحدث مع مضيفيه حول فكرة الوطن لقومي أثناء حفل تكريمه أو تقديم الشكر له، ومن المحتمل أنه وجد إجابة لا ترتقي إلى وعد يكون بمثابة مكافأة.
ثالثا: استرضاء اليهود من أجل استقدام دعمهم المالي والإعلامي لمجهود الحرب. يرى البعض أن بريطانيا كانت بحاجة ماسة لدعم اليهود المالي ولجهودهم الإعلامية بخاصة في الولايات المتحدة عساها أن تنضم هذه الأخيرة إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا. إن كان هذا صحيحا فإنه لا بد تم قبل تصريح بلفور لأن الحرب كانت على وشك وضع أوزارها حين صدور التصريح. لكن من المحتمل أن وعدا غير معلن قد أعطي للصهاينة قبل صدور التصريح خاصة أن بريطانيا كانت فعلا بحاجة إلى ترويج إعلامي في الولايات المتحدة للتأثير على الرأي العام الذي من الممكن أن يدفع باتجاه الانضمام إلى الحلفاء. وعلى الرغم من أن انضمام أمريكا إلى جانب الحلفاء له مبررات أمريكية إلا أنه من الوارد أن الدعاية الصهيونية قد ساهمت ولو جزئيا في صناعة الرأي العام.
رابعا: المصالح الاستراتيجية لبريطانيا في قناة السويس والشرق عموما. كانت بريطانيا مسيطرة على قناة السويس من جهة الغرب بسبب استعمارها لمصر إبان الحكم العثماني، وبالتأكيد كانت تعمل على السيطرة على الجهة الشرقية من القناة وإبعادها عدوها الحليف فرنسا. فرنسا كانت من جهتها تطمح إلى التواجد شرقي القناة بسبب الأهمية الاستراتيجية لها من الناحيتين التجارية والعسكرية. فمن يسيطر على القناة يسيطر على حركة السفن التجارية والبوارج العسكرية شرقي البحر المتوسط وعبر البحر الأحمر. فمن المنطق التوازني مع بريطانيا ألا تسمح فرنسا بسهولة لوقوع القناة كليا بيد بريطانيا.
ولهذا كانت فلسطين مهمة لكلا الدولتين وخاضتا تنافسا فيما بينهما كانت الصهيونية إحدى أدواته. من المحتمل أن كلا منهما قد فكر بدعم الصهاينة على أمل أن يصبح الوطن القومي اليهودي مستعمرة أوروبية يشرف على شؤونها اليومية يهود يحرصون على التعاون في مختلف المجالات. ليس من المعتقد أن فرنسا قد وافقت على تصريح بلفور دون أن تكون قد وقعت في وهَم أنها ستحقق شيئا يخدم مصالحها الاستراتيجية.
أما الأسباب غير الشائعة والتي أرى أنها ذات وزن كبير فيمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: التراث المسيحي المرتبط بالعهد القديم. ينظر العالم المسيحي الغربي إلى التوراة على أنها العهد القديم وهي كتاب مقدس لا ينفصل عن الإنجيل. فما يحظى بقدسية في العهد القديم يحتل مكانة مقدسة لدى أصحاب الإنجيل. فلسطين في التوراة هي الأرض المقدسة التي سيعود إليها الشعب المقدس، وفي ذلك تحقيق للنبوءة وتصديق لصحة المعتقدات.
ثانيا: نظرة الغرب العدائية تجاه العرب وتنافسهم التاريخي معهم. كما هو واضح في كتب التاريخ، لم ينس الغرب معركة اليرموك وما يزال يصر أن تلك المعركة قد نقلت سوريا إلى عصر الظلام والتخلف تحت حكم المسلمين. أما معركة بلاط الشهداء فما زالت تحظى بتركيز كبير في الوعي التاريخي الغربي على اعتبار أنها أنقذت أوروبا من الوقوع فيما يصفونه ببراثن المتوحشين من العرب والمسلمين. ولم يكن غريبا أن نظم ملوك أوروبا حملات صليبية وعاثوا في البلاد الإسلامية الفساد وأعملوا القتل في الرقاب.
عبر اللواء الفرنسي جورو عن هذا البعد التاريخي عندما دخل سوريا وزار قبر صلاح الدين في حمص. ركل القبر برجله وقال: "قم يا صلاح الدين، ها قد عدنا." ولهذا لا بد أن يبقى العرب والمسلمون ضعفاء وأن يتم اتخاذ مختلف السياسات التي تضمن بقاءهم مفككين متصارعين وأدوات بيد الغير. إقامة الوطن القومي اليهودي عبارة عن إحدى أدوات الغرب للسيطرة على الشرق. الوطن القومي عبارة عن قاعدة عسكرية غربية متطورة وتستطيع أن تتدخل سريعا ضد أي جهة تحاول المساس بالمصالح الغربية.
حتى تكتمل حلقة الضعف، قام الغرب بتفتيت الوطن العربي وصنع إقطاعيات أو دويلات ونصب عليها قادة يوالونه ويفعلون ما يؤمرون. تفتتت الشام وكذلك الجزيرة العربية ووادي النيل، وتم استقدام عائلات وقبائل لتحكم العرب بطريقة لا تساهم في البناء الوحدوي وترسخ فكرة التفتيت والتبعية. منذ ذلك الحين حتى الآن وقادة العرب لا يستطيعون التمرد على إرادة الغرب والتالي على مصالح إسرائيل، ويلقى من يتمرد منهم صنوف التهديد والمقاطعة والحصار والحرب. وقد ظهر من مجريات الأمور في المنطقة أن أقوى بعد استراتيجي تملكه إسرائيل هو ضعف العرب والذي يسببه قادتهم.
أغرق الاستعمار العرب بخلافات داخلية استنفذ الكثير من طاقاتهم، وأعانهم الحكام في محاولاتهم المستمرة لصنع ثقافات محلية منفصلة عن الثقافة العربية عموما. صناعة الثقافات الخاصة بالدويلات القائمة يباعد بين الأجيال العربية مما يضعف الرغبة في الوحدة العربية أو الإسلامية. والمسألة هنا لا تتعلق بمدى نجاح الاستعمار وأعوانه من القادة وإنما بالسياسة العامة التي تم رسمها لضمان عدم وحدة العرب واستمرار منازعاتهم الداخلية واستنفاذ طاقاتهم إما في صراعات لا طائل تحتها أو في تبذير شهواني وفساد داخلي.
ثالثا: أراد الأوروبيون عموما التخلص من اليهود فصدّروهم ومشكلتهم إلى الشرق. لم يعشق الأوروبيون اليهود يوما، وانشغلوا بهم وبالمشاكل التي كانت تتم معهم وضدهم فترة طويلة، وتعكر صفو استقرارهم الداخلي، ولم يكن من حل أفضل من إخراج اليهود من ديارهم وإرسالهم إلى ديار أخرى. لم يكن من السهل على الحكومات الأوروبية أن تبقى متوترة بسبب ما كان ينشب من منازعات وشجار وقتال وسفك دماء، ولم تستطع في ذات الوقت التخلص من عقدتها تجاه اليهود، وفي النهاية كان على العرب عموما والفلسطينيين خاصة أن يدفعوا الثمن.
رابعا: التحالف الصهيوني- الرأسمالي. وجدت القوى الرأسمالية الساعية إلى تحقيق الأرياح من خلال استغلال ثروات الشعوب الأخرى أن القوة العسكرية ركن أساسي في تحقيق أهدافها. يقود الاستغلال حتما إلى صحوة المستَغَل والتي قد تؤدي إلى الثورة أو تهديد مصالح المستغِلين، وهنا تبرز أهمية القوة العسكرية الرادعة أو المقاتلة لضمان استمرار تدفق الثروات. المنطقة العربية مليئة بالخيرات ومهمة جدا استراتيجيا سواء على المستوى العسكري أو التجاري، ولا مفر من الهيمنة عليها إذا أرادت القوى الرأسمالية العالمية ضمان مصالحها الاستغلالية.
وجود وطن قومي يخدم أهداف الحركة الصهيونية وأهداف القوى الرأسمالية في آن واحد من حيث أنه عبارة عن قوة عسكرية متطورة ومتقدمة وموجودة في المنطقة، ويمكن استخدامها في أي وقت وفي ظروف ميسرة ضد أي دولة أو جماعة تحاول أن تتحدى الإرادة الغربية. وهذا ما تأكد مع الزمن من حيث أن إسرائيل عبارة عن عصا غليظة مسلطة على رقاب العرب. لم يتوقف الغرب عن تسليحها بأحدث ما أنتجته ترسانتها العسكرية، ولم يخف عزمه المتواصل على المحافظة على قوة عسكرية إسرائيلية متطورة نوعيا ومتفوقة على القوة العسكرية العربية مجتمعة. حصلت الحركة الصهيونية قبل عام 1948 على الأسلحة من بريطانيا بصورة أساسية، وبعد عام 1948 هبت فرنسا لتسليحها وأمدتها بالمفاعل النووي الذي أنتج القنابل الذرية، وأتى دور أمريكا بعد عام 1967. لم تبخل الولايات المتحدة على إسرائيل وما زالت تزودها حتى الآن بما يلزمها من الأسلحة للإبقاء على تفوقها النوعي على العرب. أما الاتحاد السوفييتي المنهار فقد أحجم باستمرار عن تزويد العرب بأسلحة هجومية توازن الميزان العسكري في المنطقة، وعمل على تزويدهم فقط بأسلحة هجومية.
لكن الأكثر أهمية هو أن الغرب حرص على إقامة أنظمة عربية لا تحرص على الدفاع عن الأمة وتعتبر أمن النظام أهم بكثير من أمن الأمة. وكما أشرت سابقا، صنع الغرب أنظمة عربية تبعية كان دورها دائما متمما للدور الإسرائيلي إن لم يكن في الحقيقة تكامليا ضمن إطار تعاوني خفي. دول كثيرة واجهت الأخطار ففكرت بما عليها أن تفعل وصنعت السلاح، أما أنظمة العرب ففضلت بصورة عامة الاعتماد على الغير فتركت أنفسها في العراء معرضة للهزائم باستمرار. أما تلك الأنظمة التي حاولت أن تشذ عن القاعدة كان عليها أن تتعرض للعدوان الإسرائيلي وللعدوان الغربي الذي لم تبخل عليه أنظمة عربية بالتعاون والتشجيع. هكذا جرى مع العراق عندما بدأت تنمو قدراته التقنية والتسليحية، ومع ليبيا والسودان اللتين اتهمتا بتصنيع أسلحة كيماوية. والتهديد الغربي والإسرائيلي لإيران وسوريا مستمر، ومن المحتمل أن يُترجم إلى عمل عسكري.
|