عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 26-11-2005, 02:07 PM
الصورة الرمزية عاشق الجنان
عاشق الجنان عاشق الجنان غير متصل
مشرف سابق
 
تاريخ التسجيل: Nov 2005
مكان الإقامة: أرض الرباط
الجنس :
المشاركات: 560
افتراضي

الانتداب البريطاني على فلسطين

بقيت بريطانيا حريصة على استمرار وجودها في بلاد الشام بخاصة فلسطين لتأمين هيمنتها العسكرية والتجارية في المنطقة برا وبحرا، لكنها كانت حريصة أيضا على عدم استفزاز حلفائها أو من مِن الممكن أن يكونوا معها. ولهذا رأت أن تناور مع الأطراف المعنية وهي فرنسا والحركة الصهيونية والعرب. كانت بالضرورة معنية بإخراج فرنسا من فلسطين حتى يتسنى لها استعمارها إما من خلال العرب أنفسهم أو من خلال اليهود. لقد فضلت اليهود على العرب وكما اتضح معنا في الجزء الخاص بالتحالف الاستعماري الصهيوني.

بالنسبة للتعامل مع فرنسا، تم الاتفاق بين الدولتين عام 1916 على تقسيم بلاد الشام بين الدولتين بحيث يكون الجزء الجنوبي من سوريا والعراق تحت الاستعمار البريطاني، وتكون سوريا الشمالية مع جزء من جنوب الأناضول من حصة فرنسا، ويبقى الجزء الجنوبي الغربي من سوريا وهو فلسطين مدوّلا. ارتضت فرنسا هذا التقسيم على اعتبار أنه حل وسط بين أطماع الدولتين الاستعماريتين. عرف هذا الاتفاق باتفاق سايكس-بيكو نسبة إلى المفاوضين البريطاني والفرنسي على التوالي. تبين الخريطة رقم (6) ما تم الاتفاق عليه. ويجد القارئ نص الاتفاقية ضمن الوثائق المرفقة في نهاية الكتاب.

في ذات الوقت الذي كانت فيه بريطانيا مشغولة مع فرنسا لتقسيم بلاد الشام بدأت الاتصال مع العرب للانضمام إلى جانب الحلفاء في الحرب ضد تركيا وألمانيا. عُرف هذا الاتصال برسائل الشريف حسين-مكماهون. الشريف حسين هو شريف مكة والذي كان زعيم العرب بسبب انتمائه إلى عائلة الأشراف الهاشميين وإقامته في مكة، وبسبب تمثيله للعرب في الآستانة عاصمة الباب العالي العثماني. كان يتمتع الشريف بمكانة عالية لدى العرب وكان بمثابة القائد المقبول من قبل أغلب المثقفين وقادة الرأي والعائلات المتنفذة. أما مكماهون فكان سفير بريطانيا في مصر.

دارت الرسائل حول دخول العرب الحرب لقاء إقامة مملكة عربية في الجزء الآسيوي من البلاد العربية، أي شبه الجزيرة العربية والشام. تقول المصادر العربية أن الإنكليز أعطوا الشريف وعدا قاطعا بإقامة هكذا مملكة مما دفع الشريف بعد استشارة الحركة القومية في سوريا إلى إعلان الحرب ضد تركيا. من خلال قراءتي للرسائل البريطانية لم أجد أن هذا الاستنتاج العربي صحيح. وعد الإنكليز بإقامة مملكة لكنهم لم يحددوها وأبقوها مشروطة بعدد من القضايا مثل المصالح البريطانية في عدد من المناطق مثل بغداد والبصرة، ومصالح الدولة الحليفة فرنسا والتزام بريطانيا بما وعدت به آخرون وعدم عروبة بعض المناطق مثل حلب وحماة وحمص. لقد طرحت بريطانيا فكرة الدولة بثوب حريري يغطي كومة من الأشواك والعراقيل.

على أية حال، لم يختلف تصرف الشريف حسين عن تصرف أغلب الزعماء العرب الحاليين وعمل على تفسير الرسائل كما حلا له ولمستمعيه وأعلن الحرب. لكن هل كان بمقدوره فعلا أن يقيم حربا؟ طبعا لا. كان العرب ضعفاء جدا ولم تكن الآلية العسكرية الحديثة قد وصلتهم إلا من عدد من البنادق التي زودهم بها لورنس العرب. لورنس هذا رجل إنكليزي عاش مع العرب حياة البداوة واكتسب لغتهم واللهجة البدوية وأتقن عاداتهم وهو الذي قادهم عبر الجزيرة العربية ليدخلوا الشام. اتجه الجيش العربي الذي استخدم الجمال والخيول وتسلح بالسيوف وبعض البنادق شمالا بقيادة الأمير فيصل الابن الأكبر للشريف وبصحبة أخيه الأمير عبد الله.

كانت بريطانيا على وعي تام بالقدرات العسكرية الهزيلة للعرب وبعدم استطاعتهم ترجيح كفة الحرب لصالح أي طرف، لكنها لم تكن مهتمة حقيقة بالقدرة العسكرية وإنما بالمنفذ القانوني أو السياسي الذي تدخل من خلاله البلاد العربية. فبدل أن تدخل البلاد غازية تدخلها كحليف يعمل على طرد الأعداء ويكون بيدها حجة ضد كل من يصفها بالاستعمارية ووجوب التصدي لقواتها. أي أن بريطانيا استعملت الرسائل لتبرير سياستها وليس لتحقيق مصلحة عربية. وقد اتضحت السذاجة العربية من خلال الفهم المغلوط لمحتوى الرسائل ومن خلال رد الفعل العربي على اتفاقية سايكس-بيكو وتصريح بلفور. راجع الشريف حسين الإنكليز عقب معرفته بهذين التطورين واكتفى بطمأنة الإنكليز له بأن كل شيء سيكون على ما يرام بعد أن تضع الحرب أوزارها. لم يكتشف الشريف هذا الوعد الغامض إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها بالفعل إذ اتهمه الإنكليز بالقصور العقلي وأبعدوه عن الساحة العربية إلى أن توفي فأذنوا بدفنه في إحدى الغرف الجانبية لساحة المسجد الأقصى.

هناك من يتهم الشريف حسين بالخيانة لأنه وقف ضد تركيا وهي الدولة المسلمة لصالح الدول الاستعمارية. أظن أن هذا اتهام ثقيل وبحاجة إلى أدلة وبراهين. المشكلة حقيقة لم تكن عند الشريف حسين أو العرب عموما وإنما عند الأتراك أنفسهم الذين كانوا يصرون على التتريك وعلى رفض التعامل مع العرب على قدم المساواة ضمن دولة إسلامية. حرص العرب ومنهم الشريف حسين على بقاء الدولة الإسلامية التي تجمع قوميات مختلفة على أسس الاحترام المتبادل، إلا أن الأتراك رفضوا وأتبعوا رفضهم بإعدام القوميين العرب في بيروت ودمشق. على أية حال، السذاجة والخيانة يقودان غالبا إلى ذات النتيجة.

استفرد الاستعمار بابني الشريف حسين فيصل وعبد الله من أجل توظيفهما لخدمة مصالحه. كان عبد الله المحطة الأولى حيث بقي في شرقي الأردن وأقيمت له إمارة بتمويل إنكليزي. لم يكن من الصعب على الأمير أن يحظى بقبول القبائل شرقي الأردن بسبب نسبه وحسبه. عمل الأمير بالتعاون مع الإنكليز على تأسيس وحدة سياسية تتميز وتنفصل عن الديار السورية، وعمل أيضا على إقامة علاقات طيبة مع بعض قادة الحركة الصهيونية في فلسطين. ومنذئذ حتى الآن بقيت العلاقات ودية بين اليهود في فلسطين والعائلة الهاشمية الحاكمة في الأردن.

أما الأمير فيصل فقد أقام علاقات وثيقة مع قادة الحركة القومية في سوريا واستقطب حوله عددا من المفكرين والمثقفين. لكنه وقع في خطأ كبير تراجع عنه فيما بعد وهو عقد اتفاق في آذار/ مارس من 1919 مع حاييم وايزمان ممثل الحركة الصهيونية يعترف فيه بتصريح بلفور وبحق اليهود في الهجرة إلى فلسطين. (يجد القارئ نص الاتفاق في ملاحق هذا الكتاب) وعلى الرغم من ذلك تمسك به قادة سوريا من أجل تنصيبه ملكا يمكن أن يلاقي قبولا من قبل الجماهير. وبالفعل عقد المؤتمر السوري العام في 2/ تموز، يوليو 1919 في دمشق واتُخذ قرار بإقامة المملكة السورية، وكذلك رفض تصريح بلفور وفكرة إقامة الوطن القومي في فلسطين. عاد فيصل من فرنسا إلى ميناء حيفا حيث استقبلته الجماهير بحفاوة، ومنها إلى دمشق عاصمة المملكة حيث نودي به ملكا. تم الإعلان عن قيام المملكة السورية في 8 آذار/ مارس 1920. لكن الإنكليز تآمروا مع الفرنساويين وفتحوا المجال أمام القوات الفرنسة لمهاجمة الدولة العربية الفتية وقضوا عليها على إثر معركة ميسلون في آب/ أغسطس 1920 والتي استشهد فيها قائد الجيش العربي يوسف العظمة. ومن ثم طُرد فيصل إلى العراق حيث أقامت له بريطانيا مملكة تدين لها بالتبعية.

واضح أن الإنكليز نجحوا في خداع العرب، ونجحوا في إبعاد فرنسا عن قناة السويس على الرغم من أن الفرنسيين كانوا يخططون لسرقة المستعمرة الصهيونية المحتمل قيامها من بريطانيا. لكل طرف عدا العرب حسابات، ولم يكن من السهل على بريطانيا ضمان التطلعات الصهيونية وطموحاتها. على عكس التخطيط البريطاني، كانت الصهيونية تراقب التنافس الاستعماري الذي يمكن أن يخدمها في تحقيق استقلال يهودي يتعامل على قدم المساواة مع الدول العظمى. فما كانت تظن بريطانيا أنه سيكون مستعمرة لها انقلب ضدها في نهاية الأمر ليشن ضدها وكما سنرى فيما بعد ما أسماه بحرب الاستقلال.

سعت بريطانيا منذ اللحظة الأولى لدخول قواتها بلاد الشام إلى تنفيذ وعدها لليهود على حساب العرب. ولضمان ذلك عملت على عدة جبهات مع عدد من الجهات: مع فرنسا من أجل ضمان انتداب بريطاني على فلسطين، ومع دول الحلفاء من أجل إقامة منظمة دولية تشكل غطاء قانونيا لما يمكن أن تقوم به من أعمال على المستوى الدولي، ومع الصهاينة بهدف الإسراع بالهجرة اليهودية إلى فلسطين
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.33 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (3.42%)]